واقعة طويلة ليست سياسية لا بد من ذكرها الآن

 إبراهيم محمود
” إلى الجارة الكردية التي أنقذت ابني من موت كردي محقق حيث كنتُ أعيش “
بعد المحاضرة الالكترونية التي ألقيتها في قناة ” جودي 4 ” الإعلامية الثقافية، تحت عنوان ” مثقف ما بعد 2011 في سورية، من واقع تجربة شخصية ” ظهرت تعليقات مؤسفة، بروح اللامسئولية تماماً، وهي تتساءل، وبعبارات تسفيهية عن سبب خروجي من ” روجآفا “، دون النظر فيما كنت عليه وما أصبحت عليه كتابة ومتابعة للشأن الكردي وغيره، وأنا في دهوك.
كان إقصاء أو تجاهل من يراد إقصاؤه أو تجاهله من قبل أولي الأمر الكردي دون حدود، بالترافق مع انعدام الكهرباء، الوقود، ومتطلبات العيش المتواضعة، وقد كان في مقدوري أن أستقر في أوربا منذ سنوات بعيدة، حيث كنت أدعى إلى هناك مراراً، وأرجع حيث كنت. 
رضيت بكل شيء، إلا ذلك الإقصاء المكشوف والسافر، إنما كان وقوع حدث طارىء، وصادم، دفع بي إلى الخروج من الوسط الكردي، وفيه ممن يعتبر نفسه ولي أمر الكرد، وكل من له شأن خارج نطاقه، بالدرجة الأولى، حدث هزّني من الأعماق، حين كاد ابني أن يقتَل بسلاح كردي، ومن أيد كردية، هم شبيحة كرد وقتذاك، وربما مازالوا متواجدين، نشطين طبعاً، في مستهل 2013، وفي حوالي الساعة التاسعة سماء، عندما استفسر ابني عن سبب ركون سيارة مفيَّمة، بجوار بيتنا، وكان من حقه، لينزل منها اثنان، ويضعان سلاحهما ” كان رشاشاً ” في صدره، وأوشكا على قتله، إلا أن خروج الجارة الكردية الشهمة، على الصوت الصادر لصق بيتها، وصيحة ابني في وجهيّ ” المفيمين ” الكرديين طبعاً، غيَّر مسار الحدث، وهي تنذرهما بما لم يحسبا له حساباً، ليقول لها أحدهما، وهو معروف في المنطقة بتهوره، حيث عرِف بعد ذلك في أصله وفصله ومنبته: لماذا يسألنا عمن نكون؟ يا لجهالتهما ومن وراءهما .
لم يدخر ابني جهداً في توجيه الشتائم، تحت وطأة قهر كردي، وهو المأخوذ بحميّا عنفوان شبابه، وشعوره العميق بالإهانة، وأمام بيته، ودفاعاًعن بيته.
كان ذلك إشعاراً لي، بأن لحظة الخروج قد أزفت، لأن التالي لن يكون خيراً على الإطلاق.
لم أمض إلى مكان بعيد، كغيري، وما أكثرهم، إنما استقررت في دهوك” إقليم كردستان العراق ” لأعيش كردية من نوع آخر، لأعيش كردستانيتي وغيرها إنسانياً، التي كتبت فيها آلاف المقالات، وعشرات الكتب، ومن موقعي في مركز بحثي في جامعة دهوك، وأعيش معاناة أهلي اللاجئين، حيث أتابعهم يومياً، وأكون قريباً من حيث أعيش ” قامشلو ” المنجرحة في روحها.
وقد أكدت في أكثر من محاضرة، ومناقشة، على أنني لا أبرّىء النظام مما فعل ويفعل عنفاً وإيلاماً لأهلنا هناك، في سوريا، ومن كل الاثنيات، سوى أن خروجي لم يجر اضطراراً إلا للأسباب التي ذكرت بمرجعيتها الكردية، مثلما أن عشرات الألوف من خيرة شبابنا وشاباتنا، لم تخرج وتهيم على وجوهها بعيداً بعيداً، إلا للأسباب ذاتها وخلافها.
استقررت هنا، وأنا أنادم جراحات تتفتق، وآلاماً في ازدياد، وما كتبته، أحسبه، إن لم يكن أكثر من أي كان من كردنا: رفاق ألم معاناة وكتابة وغيرهم، فليس أقل منهم، وفي أكثر الأوقات حدة وعصبية، لحظة الغزو الداعشي هنا في الإقليم، وكنت أقيم على مبعدة كيلومترات، وفي روجآفا حيث لاذ كرد، كتاب كرد بزوايا معتمة، وإلى يومنا هذا، لا يجرؤون على أن ينبسوا ببنت شفة عن هذا الغزو، أو أوجه الخلل في روجآفا، وبوصفهم كتاباً كرداً كما يعرّفون بأنفسهم.
هنا في الإقليم، لا أظن أن أحداً عانى، ومازال يعاني كما أعاني من الإهمال والتهميش” لعلم من يريد أن يعلم، نقّص في راتبي البائس أصلاً، من مليون دينار، إلى 400 ألف دينار، أي أجرة البيت الذي أقيم به، رغم نشر أكثر من مائتي كتاب لي “، طبعاً لأنني لا أساير هذا أو ذاك، طبعاً، لأنني أتحدث كشخصية مستقلة، ورغم ذلك رضيت بما أنا عليه، ومازلت، طالما أن هناك ما يمكّنني من الاستمرارية، ولو شعرت بضيق ما، كالذي عايشته هناك، لبحثت عن وجهة أخرى، عن أرض أخرى، سعياً عن وراء حرية لا أتنازل عنها مقابل أي إغراء كان .
ألا ما أبأس الكردي، في كمه الكبير، ألا ما أشقى الكردي وأوعاه لشقائه في كمه القليل القليل !
هل أستمر في سرد المزيد من المكابدات الكردية- الكردية ؟
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…

بوتان زيباري   في قلب المتغيرات العنيفة التي تعصف بجسد المنطقة، تبرز إيران ككيان يتأرجح بين ذروة النفوذ وحافة الانهيار. فبعد هجمات السابع من أكتوبر، التي مثلت زلزالًا سياسيًا أعاد تشكيل خريطة التحالفات والصراعات، وجدت طهران نفسها في موقف المفترس الذي تحول إلى فريسة. لقد كانت إيران، منذ اندلاع الربيع العربي في 2011، تُحكم قبضتها على خيوط اللعبة الإقليمية،…