جو بايدن ودبلوماسية العصا الغليظة

رودوس خليل
لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية دخل الملف الكردي وفرض نفسه بقوة في المناظرات والحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة وهذا الموضوع المفاجئ والغريب لم يشعر به أحد ولكنه كان حاضراً إلى جانب الاقتصاد والصحة والبطالة والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
وربما تستغرب أذا قلت أن هذا الملف كان السبب الرئيسي لخسارة الرئيس دونالد ترامب لخمسة نقاط في استطلاعات الرأي لصالح المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن وبالتالي خروجه من الباب الخلفي للبيت الأبيض لأن القضية الكردية تسببت لأول مرة أيضاً باختلاف الهيئات والوزارات الأمريكية بشدة وخاصة وزارة الخارجية والدفاع والتي شهدتا استقالات عدة نتيجة الانسحاب الأمريكي الغريب والمفاجئ من سوريا وتركها للحليف الكردي وحيداً في مواجهة آلة التدمير التركية وجعلت الولايات المتحدة عارية من القيم الإنسانية التي تنادي بها حول العالم وتغرس كالخائن خنجراً في ظهر أهم حليف قدم آلاف الضحايا في مواجهة الإرهاب.
وإذا قلنا بأن ساكن البيت الأبيض الجديد جو بايدن لن يترشح لفترة رئاسية ثانية نتيجة الكبر في العمر فأن أي مرشح رئاسي من كلا الحزبين سيولي القضية الكردية أهمية كبيرة في قادم السنين لأن الكرد أصبحوا قوة فاعلة وأمر واقع على الأرض في ظل تشابك المصالح الإقليمية والأمريكية في الجغرافيا الكردية والتي ستشهد سخونة متصاعدة في العشرين سنة القادمة من خلال جزء آخر من كردستان في إيران والتي ستشهد تقلبات خطيرة وربما انهيار الجمهورية كما يوغسلافيا السابقة وولادة أول دولة كردية مع احتمال اندلاع حروب لترسيم الحدود بين الجمهوريات الجديدة.
الكثير تحدث عن السياسة المرتقبة لجو بايدن تجاه الدولة التركية وأن الرئيس أردوغان في قلق كبير في انتظار ما سيتخذه بايدن تجاه القضية الكردية وذهب البعض في الإفراط بالتفاؤل باننا ربما نشهد ولادة دولة كردية في الأربع سنوات القادمة وذلك نتيجة لتصريحات بايدن السابقة الذي قال فيها أن تركيا هي المشكلة الحقيقية في سوريا وسيكون لي حوار مغلق مع أردوغان ولا بد أن يدفع ثمناً باهظاً وهو ليس إلا شخص مستبد وسندعم المعارضة للإطاحة به عن طريق الانتخابات.
ولكن ما هكذا يكون التحليل وليست هذه الطريقة التي يتم فيها معالجة الخلافات بين حليفين كالولايات المتحدة وتركيا التي لا يمكن لأمريكا الاستغناء عنها لموقعها الجغرافي وتواجدها في الشرق الأوسط والتي طالما كانت منطقة نفوز ومصالح للولايات المتحدة.
مع احترامي لجميع التحاليل لكن دعونا ننظر إلى السياسة القادمة لجو بايدن من نوافذ أخرة بعيداً عن الآمال والعواطف.
بعد تأخر التهنئة القادمة من أنقرة للرئيس المنتخب جو بايدن نتيجة لمقطع الفيديو المسرب لوسائل الإعلام وفيها يهاجم بايدن الرئيس التركي أبدت أنقرة علناً على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن قلقها من وصول جو بايدن للبيت الأبيض وأكد أن الدولة التركية ستتعامل مع أي رئيس قادم لكنها ستضغط على الإدارة الجديدة للتخلي عن دعم الجماعات الكردية في سوريا وتسليمها رجل الدين المقيم في ولاية بنسلفانيا فتح الله غولن.
قبل الخوض في أسباب هذا الموقف المعلن من جانب بايدن تجاه الرئيس التركي لعله من المهم الإشارة إلى العلاقات بين الرئيس الأمريكي الجديد والأكراد من خلال رؤية تاريخية لجو بايدن وهو سيناتور وعضو في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وما سيقدمه للكرد وهو الرئيس في الأربع سنوات القادمة.
فهو استنكر بشدة عملية الأنفال عام 1988 ودعا أنقرة إلى التفاوض مع حزب العمال الكردستاني في تسعينات القرن الماضي كما قام بزيارة إلى كردستان العراق قبل الغزو الأمريكي عام 2002 وألقى خطاباً في البرلمان الكردي وقال جملته الشهيرة الجبال ليست أصدقائكم الوحيدين ورفض الانسحاب الأمريكي من سوريا وقال إن ترامب باع الكرد الرجال الشجعان الذين قاتلوا معنا لسحق داعش وكان حليفاً مهماً في الحرب ضد الإرهاب كما دعا إلى التقسيم الناعم للعراق إلى ثلاثة كيانات.
إن هذه التصريحات السابقة لجو بايدن وتصريحاته الجديدة كمرشح للرئاسة ليست كافية لتكون مؤشراً على كيفية التعامل مع الدولة التركية التي تعتبر رأس الحربة ضد أي طموح للكرد وفي أي مكان فبايدن لم يعلق على الهجوم الذي شنته القوات العراقية على كردستان العراق بعد الاستفتاء التاريخي على الانفصال عان 2017 وحزر القادة الكرد عام 2007 من السعي وراء الاستقلال لأن هذه الخطوة ستشعل حرباً شاملة مع تركيا وإيران ولا ننسى أنه دعا وحدات حماية الشعب إلى الانسحاب إلى شرق الفرات وأن الأكراد لن يحصلوا على أي دعم من الولايات المتحدة الأمريكية لإقامة دولة كردية في زيارته لتركيا عام 2016 .
أعتقد أن الرئيس التركي يعيش الآن على أمل ألا تكون تركيا على رأس جدول الأوليات للرئيس بايدن بما أحدثه أردوغان من اضطرابات غير مسبوقة في العلاقة بين البلدين على خلفية قضايا عديدة كالحرب في سوريا والعلاقات المتنامية مع روسيا وطموحها في شرق المتوسط وانعدام الحريات والحياة السياسية الحقيقية في تركيا وأنه يفتقد بشدة دونالد ترامب الذي تركه في منتصف الطريق والذي تمتع معه بقدرة عجيبة في الوصول إلى البيت الأبيض بعيداً عن البيروقراطية الأمريكية بسبب تعاملهما الغير رسمي وأن أردوغان استفاد من هذه العلاقة لتمديد نفوزه إلى خارج الحدود في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط وأذربيجان وأن ترامب تغاضى عن الطموحات التركية ما دام أنها بأيدي الحليف على حساب الآمال والأحلام الإيرانية في التوسع.
الرئيس التركي لن يستطيع التحدث إلى البيت الأبيض كما السابق فالرئيس المنتخب جو بايدن يميل إلى المؤسساتية والتسلسل بعيداً عن البيروقراطية وأن أردوغان لا يستطيع الذهاب مباشرة إليه بالإضافة أن بايدن لا يحب الصفقات الجانبية ففي الكتاب الشهير لجون بولتون مستشار الأمن القومي السابق (الغرفة التي شهدت الأحداث) يقول : بعد إطلاق القس الأمريكي المحتجز في تركيا تحسنت العلاقات بين أردوغان وترامب وأصبح الأخير يخضع لرغبات أردوغان وأنهما كانا يتواصلان عبر الهاتف في كل أسبوع وامتدت العلاقة إلى صهريهما جاريد كوشنير مستشار الرئيس ترامب وبيرات البيرق وزير المالية التركي وأن هذه العلاقة الأسرية منح أردوغان القوة فوق أي عقوبات محتملة وبالفعل فقد جمد ترامب مشروع العقوبات على تركيا يعني هذا أن أردوغان لن يستطيع تغير السياسة الأمريكية بمكالمة هاتفية كما حصل خلال المكالمة الشهيرة مع ترامب وأخذ الضوء الأخضر في العملية السيئة السيط نبع السلام.
أعتقد أن سياسة الرئيس المنتخب جو بايدن لن تختلف كثيراً عن سياسات الرئيس السابق باراك أوباما كونه كان نائباً للرئيس ولكن اختلاف المعطيات والفوضى التي أوجدها ترامب قد تدفع ساكن البيت الأبيض الجديد إلى انتهاج سياسات جديدة والنقطة الجديرة بالإشارة أن الإدارة السابقة وعلى رأسها بايدن قد رفضت بشدة المنطقة الآمنة التي طالبت بها تركية على طول حدودها الجنوبية مع سوريا ومنعتها من ذلك لتندفع تركيا إلى اتهام واشنطن بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 فالحديث العلني لبايدن أمام الأعلام بإسقاط أردوغان بالانتخابات تدعم المزاعم التركية بأنه كان لواشنطن دور في الانقلاب.
السياسات الاستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط ومصالها تدهورت بشكل كبير وأن الإدارة الجديدة لن تكون سيئة كثيراً لتركيا فالأولوية ستكون استعادة التزام واشنطن بالتحالفات وعلى رأسها حلف الناتو وأن هذا الإجراء لبايدن يتعين عليه العمل والحديث مع تركيا ومن ثم التعامل مع روسيا وإيران وإعادة الاستثمار في تحالفات متعددة الأطراف تصب في النهاية لمصلحة تركيا ولكن هذا لا يعني إن إدارة بايدن لن تظهر مواقف قوية ضد تركيا حين تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة.
طاولة الرئيس بايدن ستكون مكتظة بالملفات التركية التي تحتاج إلى معالجة وستكون مؤلمة بعض الشيء للجانب التركي فقرار أردوغان بشراء المنظومة الروسية s400  تهدد الطائرات المقاتلة الأمريكية متعددة الأغراض f35  والتي من المحتمل أن تقوم اليونان بتسلم بعضها وليس هذا فقط فهي تهدد الحدود المفترضة لحلف الناتو وكذلك الاتهامات الموجهة إلى بنك خلق التركي وتبيضه للأموال لصالح الحرس الثوري الإيراني والالتفاف على العقوبات المفروضة على إيران هذه القضية الكبيرة قام بتجميدها دونالد ترامب ولكن في مارس القادم سيبدأ قاضي اتحادي في منهاتن النظر في القضية من جديد ومن الملفات الساخنة التمدد التركي في شرق المتوسط ومخاوف تركيا من توثيق العلاقات الأمريكية مع اليونان وخضوع بايدن للوبي الأرمني في نزاع ناعورني كارباخ وتقيد صعود تركيا في تلك المنطقة فبايدن كان من الداعمين لاعتماد مصطلح الإبادة الجماعية بحق الأرمن لوصف أحداث 1915 والملف الأهم والغائب والذي تجنب ترامب الالتفات إليه هي قضية حقوق الإنسان في تركيا والقضية الكردية فبايدن سيعيد طرح الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في العلاقات الثنائية بين البلدين
ولكن هذه المعالجات تحتاج إلى عصا غليظة وهي جاهزة من خلال قانون مكافحة أعداء أمريكا فمن المرجح أن يدعم بايدن العقوبات كأداة دبلوماسية عبر مشروع قانون الأنفاق الدفاعي والذي يفرض عقوبات على كل من يتعاون مع أعداء أمريكا وقد اخترقت تركيا المحظور في هذا القانون في مناطق عدة وأن الاقتصاد التركي سيتهاوى بمجرد الحديث عن فرض تلك العقوبات.
على الرغم من حجم الخلافات الكبيرة بين البلدين لا بد ألا ننسى أنهما حليفين منذ أكثر من سبعين عاماً فتركيا تعتبر لاعباً حيوياً في العديد من التحديات العالمية في سوريا وليبيا وشرق المتوسط وقضايا الهجرة والعلاقات الغربية مع روسيا وإيران لكنها تحولت إلى حليف خطير وتؤدي دوراً مزدوجاً في العديد من المناطق لذا فأن الإدارة الأمريكية الجديدة ستتفهم المصالح والمخاوف التركية.
أعتقد أن لدا واشنطن وأنقرة فترة زمنية جيدة وهي حوالي تسعة أشهر لإعادة العلاقات إلى طبيعتها وأن الكرة في القصر الرئاسي التركي وهو تجنب الاحتكاك بحلفاء الولايات المتحدة والتمدد إلى مناطق النفوذ والمصالح الأمريكية وبنهاية هذه الفترة سيصل قانون مكافحة أعداء أمريكا إلى المكتب البيضاوي وأن هذه العقوبات ستكون كارثية تهدد أردوغان بالإطاحة من منصبه ولكن الإدارة الأمريكية تفهم أن هذه العقوبات سيعزل حليفاً مهماً في الناتو وانها ستكتفي بالمقبول الوسط من الجانب التركي لكي لا يحصل انفصال كامل في العلاقات بين البلدين وخسارة أو دخول تركيا في معسكر آخر.
وبانتظار لملمة الفوضى في علاقات البلدين يبقى الجانب الكردي هو الرابح الأكبر في وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض ولكن ليس على حساب الحليف التركي فمن المحتمل أن تقوم الإدارة الأمريكية بتخفيف الضغط الواقع عليهم وإبقاء القوات الامريكية لحين الوصول إلى تسوية سياسية للملف السوري ومنع الجيش التركي من القيام بعمليات جديدة عبر الحدود ودعم قوات سوريا الديمقراطية في حربها مع الإرهاب والضغط لتمثيل الجانب الكردي في المفاوضات المحتملة في جنيف ورعاية التقارب الكردي الكردي واستثناء مناطق الإدارة الذاتية من قانون قيصر.
كل هذه المكاسب المحتملة للكرد يتوقعها الجانب التركي والرئيس أردوغان الذي يعيش أسوأ استطلاعات للرأي في جنوب شرق تركيا لصالح أحزاب المعارضة وحزب الشعوب الديمقراطية وأنه قد خسر أهم ورقة كانت لها الفضل الكبير في حصوله على المراكز المتقدمة في الانتخابات وهو الهجوم على الجانب الكردي وبمعدل عملية واحدة في العام وقبل وقت قصير من أي استحقاق انتخابي لذا فأنه يقوم بخطوات استباقية بمغازلة الكرد واظهار حسن النية وآخرهذه الخطوات تعين أفيكان علاء نائباً لرئيس حزب العدالة والتنمية وهذه الشخصية لها شعبية كبيرة بين الأكراد وكان له دور رئيسي في المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني وهو معروف من الإدارة الأمريكية الجديدة وكان حاكماً لولاية باتمان وديار بكر الكردية فعلى أردوغان عكس المسار وتجنب العصا الأمريكية في وقوع حوادث تصعيدية تهدد حظوظه في الانتخابات القادمة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…