عاش سليماني.. مات سليماني!!

د. ولات ح محمد
    لا يختلف اثنان على الدور المحوري الذي كان قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني يلعبه في ملفات المنطقة في السنوات الأخيرة؛ فالجنرال الإيراني لم يكن مجرد قائد عسكري يقود فيلقاً مجهول المهمات، بل كان السياسي والعسكري الذي لا يغيب عن أية منطقة صراع فيها نفوذ إيراني أو يجب أن يوجد ذلك النفوذ بهذه الدرجة أو تلك. من جهة ثانية لم يكن سليماني فقط مديراً لأعمال ميليشيات تابعة لإيران في عدد من بلدان المنطقة، بل كان منسقاً بين مهام تلك الميليشيات ونقطة تلتقي عندها كل مخططاتها ومشاريعها حتى بات بمثابة رئيس غرفة عملياتها المركزية بامتياز.
    كل ذلك وغيره يتفق عليه محبو الجنرال وكارهوه على حد سواء. ولكن في المقابل ثمة خلاف عميق يبلغ حد العداء بين أبناء الشعب الواحد في بعض الدول العربية حين يتعلق الأمر بالموقف من قاسم سليمان، ناهيك عن الموقف من قتله؛ ففي البلدان التي افتخر المسؤولون الإيرانيون قبل سنوات بأنهم يسيطرون على عواصمها (وكان ذلك بفضل نشاط سليماني نفسه وحنكته) أقام قسم من الناس مجالس عزاء حزناً على الجنرال الإيراني متوعدين بالانتقام له، بينما خرج قسم آخر في شارع مجاور يوزعون الحلوى فرحاً بمقتله. هذا رأى فيه مجاهداً شهيداً حياً يرزق، فالشهداء لا يموتون، وذاك رأى فيه مجرماً قتل الآلاف من الأبرياء فقُتل ومات. 
    هذا الانقسام الحاد بين مواقف أبناء البلد الواحد والشارع الواحد والبناية الواحدة من مقتل سليماني يشير إلى أمرين مهمين: الأول هو تأثير الدور (الإيجابي لأنصاره والسلبي لخصومه) الذي كان سليماني يلعبه في ملفات المنطقة وقدرته على استقطاب الشارع فيها وتقسيمه وترجيح كفة أنصاره وإلحاق الضرر بخصومه. أما الثاني (وهو الأخطر) فهو ارتهان الشارع العربي في بعض دول المنطقة وارتباطه وانقياده بالعامل الخارجي، وسهولة حدوث انقسام في ذلك الشارع بسبب ذلك الارتهان كلما جدّ جديد وطرأ طارئ ووقعت واقعة، حتى بات بإمكان حدث مثل مقتل سليماني أن يتسبب في قيام حرب أهلية في هذا الشارع العربي أو ذاك بين المنتفعين بسياسات القتيل والمتضررين منها. 
    النموذج الآخر القريب لهذا العامل الخارجي المقسم للشارع العربي يتمثل في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي انقسم الشارع السوري (مثلاً) بشأنه بين معجب به وبكل ما يصدر عنه من قول أو فعل أو قرار وكارهٍ له لا يرى في أفعاله وأقواله وقراراته إلا كل شر وجرم. وهكذا ثمة سوري يرى في أردوغان مخرباً ومجرماً ومحتلاً، وثمة آخر يرى فيه بطلاً ومخلّصاً ومحرراً، ويتخاصمون على ذلك ويتفارقون. 
    لا شك في أن الخلل المسبب لهذه الظاهرة الخطيرة يكمن في الشارع التابع والمرتهن للخارج وليس في ذلك الخارج نفسه. وللاقتراب أكثر من جوهر المشكلة ولمعرفة هشاشة مجتمعاتنا دعونا نطرح سؤالاً بهذه الطريقة: لو بدلاً من قاسم سليماني تم قتل قائد أو جنرال عربي (بمكانة سليماني) ينتمي لإحدى دول المنطقة، هل كان الشارع الإيراني أو أي شارع آخر سينقسم بشأنه إلى طرفين متخاصمين بهذا الشكل العلني الحاد؟!. المشكلة ليست في التعاطف مع دولة أو قائد فيها، فهذا أمر طبيعي، بل في تحويل هذا التعاطف إلى فعل ثم تجسيد هذا الفعل في أعمال قتل ونهب وسلب وتهجير يرتكبها المتعاطف بحق مواطنيه من أجل ذلك الطرف الخارجي. وهو ما يثير أسئلة كبرى: كيف يمكن لشخص أن يعذب مواطنه أو يقتله أو يهجره أو يستولي على بيته أو يعتدي على عرضه من أجل إرضاء طرف يقف خارج حدوده الجغرافية؟. ما الذي (كان) يجمع إذاً بين أولئك الناس داخل ما (كان) يسمى الوطن الواحد غير حدوده الجغرافية؟! 
    بعض العراقيين قتلوا عراقيين آخرين ليس لقضية وطنية عراقية، بل لأن سليماني أراد ذلك لمصلحة وطنية إيرانية. بعض السوريين قتلوا سوريين آخرين وأخرجوهم من ديارهم واستولوا على ممتلكاتهم ليس لمصلحة وطنية سورية، بل لأن أردوغان أمر بذلك لمصلحة وطنية تركية. أي أن كلا الطرفين قتل مواطنيه ويمكن أن يجرهم إلى حرب أهلية أو حتى يدخل بلده في حرب مع دولة أخرى من أجل عيون طرف آخر يقف خارج حدود ذلك البلد. 
    عندما لا يجمع بين الناس سوى مساحة جغرافية مرسومة بحدود يسمى “وطن” يصبح من السهل أن يتحولوا إلى مجموعات متناحرة عند أول أزمة وأن ترتهن كل مجموعة بطرف خارجي ترى فيه نفسها وصورتها وهويتها التي لم تجدها في تلك البقعة الجغرافية التي تنتمي إليها في الأساس. وحينذاك يصبح من السهل جداً أن يقتل الجار جاره أو التلميذ مدرسه أو الصديق صديقه من أجل ذلك الخارج ودون أي شعور منه بأنه يرتكب بذلك خطيئة كبرى.
    في النهاية ستكون هناك تسوية ما بصيغة ما لقضايا المنطقة، وستحقق بموجبها الدول الكبرى والإقليمية مصالحها وتتقاسم فيما بينها “الكعكة” عبر صفقات تنتظرها بفارغ الصبر ليعود خصوم أمس واليوم أصدقاء وأحبة في الغد. أما أبناء البلد الواحد، المنطقة الواحدة، الدائرة الواحدة، المدرسة الواحد والبناية الواحدة فأية صفقة أو تسوية حينذاك تستطيع أن تعيد لعلاقاتهم الثقة والدفء؟ وكيف سينظر بعضهم إلى بعض، وقد ضرب أحدهم الآخر أو أهانه أو خوّنه أو هجره أو نهب ماله أو هدم بيته أو قتل أهله  بسبب سليماني أو أردوغان أو بطلب من هذا أو ذاك؟. 
    أردوغان يعيش ويعمل لنفسه ولحزبه ولبلده وليس لمصلحة حليف أو صديق خارج حدود دولته. سليماني عاش لبلده ومات من أجل بناء بلده وليس من أجل جار أو صديق أو محب أو حليف يقف خارج الحدود. أما من هم خارج حدود دولة سليماني فسيقول بعضهم عنه: (عاش)، وسيقول آخرون: (مات)، وقد يتقاتلون على ذلك. لكن الميتين الحقيقيين هم أولئك الذين يقتلون أبناء بلدهم ويجعلون منهم ومن أنفسهم مجرد قرابين يحيا بها آخرون. 
    الآخر يعمل على بناء دولته ومجتمعه. أما شارعنا البائس المشطور بين الـ”مع” والـ”ضد” فلا يتوقف رصيفاه المتقابلان عن الهتاف بشدة: 
عاااش .. مااات..!! 
عااااش .. ماااات…!!!
عاااااش .. مااااات….!!!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…