نوري بريمو
يحاول أصحاب العقليات الشوفينية المهَيمنون على مركز قرار النظام السوري والمتعششون في أوساط واسعة من المعارضة السورية أن يتنكَّروا للقضية الكردية في كوردستان سوريا، وينشطون بحمية، ويحذّرون من تداعيات خروج هذه القضية عن دائرة طوق عزلتها السورية الخانقة، ويسعون بشتى السبل والوسائل إلى طمس الحقيقة الكردية وإبقاء الملف الكردي مغلقاً وتحت إبطهم ليبقى ملوّي العنق وصامتاً، ليس هذا فحسب بل تجري أحاديث كواليسية ضغائنية، وأخرى علنية تحذيرية مفادها بأنّ أي حراك كردي أو حتى مجرّد الكلام عن الخصوصية الكردية من شأنه أن يجلب الضرر للـ “الوحدة الوطنية” السورية بحسب زعمهم القوموي!!، غير أنّ هذا المسعى المسموم والرامي للإطباق المحكَمْ على الحالة الكردية وإبقاء الطابق مستوراً…كما يُقال أيضا!؟ هو مسعى عقيم، ولن يجدي نفعاً لأصحابه لأنّه ينمُّ عن قصور في قراءتهم التي باتت لا تتلاءم مع أجواء عالم العولمة الذي باتت كل شاردة وواردة فيه مكشوفة للقاصي والداني، .
فلتبحث إذاً دوائر الطغيان تلك عن أساليب أخرى من شأنها الإتيان بأنسب الحلول لمختلف المسائل العالقة، وخاصة السياسية منها في هذا البلد المقبل على التغيير أو بالأحرى المعرّض للتقسيم على أيدي الأكثرية العربية المنقسمة حاليا إلى قسمين “النظام والمعارضة” ويحتمي كل قسم منهما بدولة إقليمية ويرفعان شعاراتهما وراياتهما المختلفة إلى جانب أعلام أسيادهما الإقليميين في مناطق نفوذ سوريا مختلفة وعلى شكل جزر أمنية متجاورة ومتحاربة!
لكننا بحكم خبرتنا بتركيبة وخلفية ونمط تفكير تلك الدوائر الشوفينية التي تدّعي الوحدانية لها ولقوميتها، وبنتيجة معرفتنا للنمطية التآمرية انتهجتها ماضياً، وتنتهجها حاضراً، بتنا كجانب كردي ندرك بأنّ غايتها هي طمس الوجود الجيوسياسي الكردي عبر تقويض قدرة إنساننا على التفكير بتنشيط حراكه السياسي الذي بمقدوره أن يرفع من سوية أدائنا وخطابنا وتطلّعاتنا صوب استحصال حقوقنا المشروعة عبر الإعتراف الدستوري بوجودنا كثاني أكبر قومية في إطار حل سياسي شامل مبني على التوافق بين كافة مكوّنات سوريا التي لا ينبغي أن يحكمها سوى نظام ديمقراطي تعددي لا مركزي يوفّر الحلول المنصفة لكل مشاكلها العالقة.
إنّ القضية الكردية في كوردستان سوريا بعمقيها التاريخي والجغرافي، وبتطلّعات أهلها المنكوبين بحقوقهم القومية المشروعة، هي بكل تجرّد ليست شعاراً يتم رفعه وإنما واقع حيوي ملموس لا بل قضية سياسية ذات جذور عميقة تستمد أصالتها من أقدم العصور وهي ذات مدلولات حضارية غاية في الأهمية، وبناءً عليه فإنّه بات من غير المنطقي أبداً أن يستمر التعامل مع قضية عالقة كهذه تخص حاضر ومستقبل قرابة أربعة ملايين مواطن كردي هي جزءٌ مهمُّ من كلٍّ سوري مقبلٍ على التغيير بأعنف السيناريوهات، وفق هكذا منهجيات تنكرية عفا عليها الزمن، خاصة وأنّ معمورتنا قد أضحت ساحة عامرة بالمتطوّرات ولوحة متحركة ممجوجة بالمتغيّرات على شتى الصعد والمستويات والتي قد تتسبّب في تخصيب قضية حرية الشعوب وفي دمقرَطة الكثير من البلدان وفي تقويم مختَلف القيَم والثوابت والمفاهيم وفي إعادة ترتيب العلاقات بين الدول والأمم.
وإذا كانت المصالح الدولية لعالم اليوم قد تحوّلت إلى مُنقلَبٍ يتعارض مع طبيعة النظم القمعية والأفكار الشمولية دونما الأخذ بمشورة الحكام في منطقتنا أي أولئك الطغاة المحاطين بمستشارين عقائديين وحواشي سلطوية وأطقم إستخباراتية، فما هو ذنب شعوبنا المقهورة التي كُتِبَ عليها العيش في هكذا بلدان تحولت إلى مملكات رعب وعنف؟، وأين تكمن المشكلة حينما يتم الإعتراف مثلاً بالقضية الكردية التي لم تأت لا من الفراغ ولا على حساب أحد؟ وإذا كانت ثمة مشكلة لدى البعض من روّاد التفكير الإستعلائي أليست حماقة منهم حينما يتصورون بأنّ هكذا قضية قد تنطفئ أو تتلاشى؟ وكيف يُقنِعون أنفسهم بأنّ تغييب الجانب الكردي أو تهميشه بثقافة الإحتكام لطاعة الأكثرية السكانية يمكن أن يجلب الأمن والإستقرار للبلد بمعزل عن حل المسألة الكردية؟، ثم ألم ييأسوا من إتِّباعهم لأسلوب إدارة الأزمات الذي أثبت فشله الذريع خلال طيلة العقود الماضية؟
وهل…ولماذا…وكيف…وأين…ومتى…و…إلخ من الأسئلة التي هي بحاجة ماسة إلى إجابات شافية لِلَملَمة جراح سوريا التي بات ينتظرها المجهول.
لكن يبدو أنّ الشوفينيين كانوا وما يزالون، وسيبقون (صمٌّ وبكمُ وعميٌ وهم لا يفقهون؟)، وإلا فكيف نراهم لم يقتنعوا حتى الآن ورغم مضي أكثر من تسع سنوات على الأزمة السورية بأنّ حل مختلف المشاكل العالقة في البلد ينبغي أن يتم بالحوار وبتواصل الحضارات لا بالحروب والتنازع بين القوميات والأديان والطوائف؟, وها هنا ينبغي علينا أن نتعظ بما يجري حولنا كي تحلّ علينا برَكات العقلانية والإيجابية والتوافق بدلاً من لعنات اللاعقلانية والسلبية والتخالف وعسْكَرة الحلول.
أما الهدف المُراد من وراء هذه المقالة فهو ضرورة إستكانة كل القوى الديمقراطية السورية إلى الإستيقاظ من غفوتها ومراجعة ذاتها من جديد، فالركون السلمي الهادئ إلى الاعتراف بالآخر يبقى أفضل بكثير من أي جنوح لأية أساليب أخرى إقصائية وعنفية وقد تجلب الأذى ليس للكرد لوحدهم بل لكل المكونات السورية الأخرى.
ويبقى منطق الإهتداء بحِكمة الإستفادة من تجاربنا الذاتية الغنية بالعِبَر والدروس ومن ثم التوافق والإنطلاق معاً نحو الدمقرطة والحياة المدنية والمخارج السلمية، هو المدخل الآمن الذي قد يقود بشعوبنا المتجاورة إلى الوصول بسوريا جديدة يسودها الحق والقانون، ويتوفر لأهلها الأمن والاستقرار.
(١٧-٥-٢٠٢٠)