عودة آتاتورك من إجازته!

جان كورد


على أثر نجاح السيد رجب طيب
أردوغان في انتخابات الرئاسة التركية، وهو الشخص الأقوى سياسياً وشعبياً في الشارع
الوطني، ولا ينكر خلفيته الإسلامية بدهانها التركي، اعتقد كثيرون أنه ماضٍ لنفض
الغبار عن التاريخ الإسلامي العثماني وتقويض “الجمهورية العلمانية”، وبالتالي السعي
لإعادة دولة “الخلافة” بنكهة “حديثة”، إلاّ أن توالي الأحداث الجسام في المنطقة،
ومنها التطورات التي حدثت على حدودها الجنوبية في كلٍ من العراق وسوريا أي في (جنوب
وغرب) كوردستان، منذ هجوم تنظيم الدولية الإسلامية الإرهابي (داعش) على الشعب
الكوردي بوحشيةٍ لا مثيل لها، قد أثار سؤالاً هاماً في الأوساط السياسية العالمية:
“- ما دور تركيا في ظل الرئيس أردوغان في دفع داعش للهجوم شمالاً صوب الكورد عوضاً
عن التقدم باتجاه دمشق وبغداد لتحريرهما من الاستعمار الإيراني للبلدين؟ 
بالطبع، ينكر حزب العدالة والتنمية الحاكم أنه
يدعم “داعش”، واتهم الرئيس أردوغان، مؤسس الحزب، بنفسه نظام بشار الأسد بابتكار
“داعش” لتشويه صورة المعارضة السورية، وقد نجح في ذلك جيداً، ولكن الوقائع على طرفي
الحدود التركية – السورية تثبت بما لا يدع الشك أن الحكومة والرئاسة التركية
تعتبران حزب الاتحاد الديموقراطي، أخطر على تركيا من تنظيم “داعش” الإرهابي، أي أنه
أشد إرهابيةً وهو الحزب الذي يحارب (داعش) وينكر كورديته صراحةً ويدعو إلى إقامة
كانتونات ديموقراطية إيكولوجية وغير قومية، وثمة معلومات غير مؤكّدة تتسرّب من داخل
تركيا عن تنسيق وعلاقاتٍ سرية، بل مكشوفة، بين حزب أردوغان وقادة “داعش”، ومعلوم أن
تركيا هي المعبر الأهم للمقاتلين الجدد الذين ينضمون إلى هذا التنظيم الإرهابي
الخطير في سوريا. كما أن تركيا اتخذت موقف المتفرّج وهذا التنظيم يحاول بكل ما أوتي
من قوة الوصول إلى حدودها بتحطيم قوة ووجود “قوات الحماية الشعبية” التابعة لحزب
العمال الكوردستاني (حزب الاتحاد الديموقراطي في سوريا)، وهذا التفرّج أثناء تدمير
مدينة (كوباني) الكوردية قد أثار غضب كل القوى والدول المحاربة لداعش. وهناك
معلوماتٌ كثيرة غير مؤكدة عن الدور التركي الكبير فيما يجري في المنطقة الكوردية
السورية.
وبسبب الموقف التركي تجاه الصراع الكوردي مع “الإرهاب
الداعشي”، إضافةً إلى بعض الإجراءات والقوانين والممارسات السياسية والاجتماعية
التي أظهرت نظام “أردوغان” كقوة إسلامية، على الرغم من عدم مساسه بأسس “الجمهورية”
العلمانية المعادية للإسلام صراحةً، التي أسسها مصطفى كمال (آتاتورك: أب الأتراك)
في عام 1923، وعلى الرغم من بقاء تركيا عضواً في حلف الناتو وسعي الحكومة باستمرار
للدخول في الاتحاد الأوروبي الذي سماه الزعيم الإسلامي التركي الراحل أربقان
(1926-2011) ب”النادي المسيحي”، وأداء القسم من قبل نواب حزب العدالة والتنمية على
الدستور العلماني في البلاد، فإن الاعتقاد السائد في العالم الإسلامي هو أن السيد
رجب طيب أردوغان وحزبه سيقضيان على النظام الآتاتوركي، أو أن أردوغان قد أرسل
آتاتورك إلى إجازة غير محددة.
ولكن، بعد خسارة حزب أردوغان
للعديد من المقاعد البرلمانية في آخر انتخاب، وحصول “حزب الشعوب الديموقراطي”
العلماني في المنطقة الكوردية وفي بعض المدن التركية أيضاً في غرب وجنوب البلاد على
(80) مقعد، أي بقدر نواب حزب الحركة القومي “الطوراني” وتمكّن الحزب العلماني الآخر
(حزب الشعب الجمهوري) على نسبة أكبر مما سبق في هذه الانتخابات، نلاحظ ظهور سماتٍ
جديدة في السياسة الأردوغانية:
أولاً – اضطراره لوقف زحفه
الآيديولوجي في البلاد والتراجع في العديد من المواقع وتقديم تنازلات من أهمها عدم
السعي لجعل نظام الحكم في تركيا رئاسياً عوضاً عن النظام البرلماني الحالي،
والتأكيد على الوفاء العام والشامل للعقيدة الآتاتوركية القومية العنصرية والمعادية
لكل ما هو إسلامي، وعدم اقامة علاقات مع الدول والكيانات التي لها خلفيات إسلامية،
والتقارب مع إيران بحكم الضغط “العلوي” ضمن هذه الأحزاب العلمانية على قياداتها.
 وذلك بسبب عدم تمكّن حزبه “الإسلامي!” من تقويض أي ركن من أركان الدولة العلمانية
الآتاتوركية، خلال سنوات الحكم السابقة واضطراره الآن إلى تشكيل تحالف برلماني بهدف
إنشاء حكومة ائتلافية، أو إعادة الانتخابات في أسوأ
الأحوال.
ثانياً –  الكف عن اتخاذ المواقف الدراماتيكية التي
تظهر تركيا كدولة معادية لإسرائيل، مثل انسحاب السيد أردوغان من اجتماع دولي كان قد
حضره الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، وإرسال سفينة مساعدات إلى شواطئ غزة رغماً عن
رفض إسرائيل، وبعض التصريحات التي كان من شأنها الإضرار بعلاقات تركيا بإسرائيل
والدول الداعمة لها في العالم.
ثالثاً – اتخاذ موقف أشد رفضاً
لطموحات الشعب الكوردي، أي إحباط “عملية السلام” بين حزب العمال الكوردستاني (ك ج ك
حالياً) والحكومة، وهي عملية من طرف حزب السيد أوجلان وحده في حقيقة الأمر، فهجمات
الجيش التركي على مواقع الحزب واتهامه ب”الإرهابي” لم يتوقفا في يومٍ من الأيام،
وهذا الموقف الشديد لا يأتي لإرضاء اليمن التركي الطوراني فحسب، بل لمنع حدوث
انهيارات تنظيمية في صفوف حزبه الذي لم يحاول السيد أردوغان تطهيره من الفكر
العنصري المتطرّف حيال الكورد، بل سعى لتلطيف الخطاب الموجه إليه باستمرار، كما لا
حظنا في لقاءاته وخطاباته أثناء جولاته الأوروبية ولقائه مع الجاليات التركية التي
لها دور هام في تمويل الأحزاب وأصوات انتخابية كثيرة بحكم انتشار المواطنين الترك
في سائر  دول الاتحاد الأوروبي بكثرة سكانية مثيرة
للانتباه.
وما الفرقعة العسكرية الأخيرة والتهديد بمنع قيام
“دولة كوردية في شمال سوريا” وبوجود “خط أحمر” تركي بصدد المسألة السورية على غرار
الخطوط الحمر السابقة عند حمص، وبعدها حماه، ومن ثم حلب وحتى كوباني وسواها على
حدودها مع سوريا. إلا حملات إعلامية “غوبلزية” بكل معنى الكلمة لكسب أصوات اليمين
التركي في البرلمان، وللتغطية بين الجماهير على هزيمة حزب العدالة والتنمية في
الانتخابات الأخيرة.
كل تركيا تعلم وحزب أردوغان يعلم جيداً أن
(حزب الاتحاد الديموقراطي) في سوريا هو (الفرع السوري) لحزب السيد أوجلان الذي
تخلّى كلياً عن برنامج العمل من أجل أي كيان كوردي قومي، حتى في مستوى الحكم
الذاتي، وأن بعض قادة “ثورة الحرية والاستقلال” التي راح ضحيتها مئات الألوف من
شباب الكورد وتشرّد الملايين من أجلها، يقولون اليوم بأنهم “رموا بفكرة الاستقلال
الكوردي في سلة المهملات!”، كما قال أحد رجالاتهم المشهورين (خطيب دجلة)، وكرر
العبارة زعيم للإدارة الذاتية الديموقراطية لحزب الاتحاد الديموقراطي بقوله:
(المطالبة بدولة كوردية ليس من أخلاقنا)، بمعنى أن هكذا مطالبة ليست أخلاقية!!! أي
لا دولة كوردية في تركيا ولا في سوريا في المدى المنظور، فلماذا هذا التهديد
العسكري الفاضح؟
إن آتاتورك الطوراني العلماني، عدو الإسلام
والشعوب غير التركية في بلاده لم يُرغَم على الذهاب إلى “إجازة”، بل لايزال قابعاً
في وعي كل الأحزاب السياسية في تركيا، ومنها حزب السيد أردوغان، ولايزال قبره أهم
نقطة استقطاب سياسي وجماهيري وعسكري وأمني في العاصمة التركية… وتثبت السياسة
التركية بعد الانتخابات الأخيرة أن إنكار الهيمنة الآتاتوركية والزعم بأن أردوغان
يقود البلاد نحو “دولة الخلافة” ليس إلاّ هراءً ومكاءً
وتصدية…
ولكن رغم هذا كله، فهل على الشعب الكوردي والشعوب
غير التركية الأخرى في البلاد اللجوء من الرمضاء إلى النار، وتفضيل التنسيق مع
الأحزاب الطورانية اليمينية على التعاون مع حزب السيد أردوغان الذي يضم أعداداً
كبيرة جداً من الكورد، فهذا ما يجب أن يتناقش عليه السياسيون الكورد والعرب وسواهم
بجدية قبل الدخول في أي تحالف تحت قبة البرلمان التركي.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني مقدمة حين تنهار الدولة المركزية، وتتعالى أصوات الهويات المغيّبة، يُطرح السؤال الكبير: هل تكون الفيدرالية طوق نجاة أم وصفة انفجار؟ في العراق، وُلد إقليم كوردستان من رماد الحروب والحصار، وفي سوريا، تشكّلت إدارة ذاتية وسط غبار المعارك. كلا المشروعين يرفع راية الفيدرالية، لكن المسارات متباينة، والمآلات غير محسومة. هذه المقالة تغوص في عمق تجربتين متداخلتين، تفكك التحديات، وتفحص…

طه بوزان عيسى منذ أكثر من ستة عقود، وتحديدًا في عام 1957، انطلقت الشرارة الأولى للحركة الكردية السياسية في سوريا، على يد ثلة من الوطنيين الكرد الذين حملوا همّ الكرامة والحرية، في زمن كانت فيه السياسة محظورة، والانتماء القومي جريمة. كان من بين هؤلاء المناضلين: آبو عثمان، عبد الحميد درويش ،الشاعر الكبير جكرخوين، الدكتور نور الدين ظاظا، ورشيد حمو، وغيرهم…

عبد اللطيف محمد أمين موسى إن سير الأحداث والتغيرات الجيوسياسية التي ساهمت في الانتقال من حالة اللااستقرار واللادولة إلى حالة الدولة والاستقرار في سوريا، ومواكبة المستجدات المتلاحقة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، تكشف بوضوح أن المتغيرات في سوريا هي نتيجة حتمية لتسارع الأحداث وتبدل موازين القوى، التي بدأت تتشكل مع تغيرات الخرائط في بعض دول الشرق الأوسط، نتيجة…

اكرم حسين اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي. أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً. كالهند،…