الحزب السياسي الكوردي بين الانشقاق والاتحاد

جان كورد
((في هذه اللحظات أتصوّر بعض زعمائنا في كفنٍ يجر وراءه
كرسياً محطماً ثمنه بعض
القروش.))
حسب ظني (والظن لا يغني عن الحقيقة شيئا) ليس هناك حزب
سياسي كوردي في غرب كوردستان لم يتعرّض إلى انشقاق أو انشقاقات، ولم يحاول إعادة
توحيد صفوفه ولملمة ما انشق عنه في وحدةٍ تنظيمية أو اتحاد أو العمل معاً ضمن
تحالفٍ أو جبهةٍ أو مجلسٍ ما.  وهذه الظاهرة ترافق مسيرة حركتنا الوطنية – القومية
منذ أول انشقاق حدث في الحزب الديموقراطي الكوردي (البارتي) في 5 آب 1965، نتيجة
الخلافات المستفحلة بين تيار الأستاذ عثمان صبري (آبو) ورفاقه الآخرين الذين برز
منهم بشكل مستمرٍ حتى اليوم الأمين العام للحزب الديموقراطي التقدمي، الأستاذ عبد
الحميد حاج درويش، وفي حين تخلّى الأول عن العمل التنظيمي في رئاسة الشق الذي سمي
فيما بعد بالحزب اليساري الكوردي، فإن الثاني لايزال حتى اليوم أميناً عاماً للشق
الآخر، منذ نصف قرن، وبذلك يمكن له دخول كتاب (الجينيسيس) لطول الفترة كرئيس حزب
سياسي “تقدمي ديموقراطي” من دون انقطاع. 
الانشقاق عن الحزب الأم (البارتي) توالت في ظل
مختلف قياداتها، وقد تعرّضت للانشقاق أيضاً “القيادة المرحلية” للحزب التي تشكلت في
جنوب كوردستان تحت رعاية قائد ثورة أيلول المجيدة هناك (1961-1975)، الجنرال مصطفى
البارزاني، الذي استدعى قيادتي الطرفين المنشقين عن بعضهما في عام 1965، كما استدعى
شخصياتٍ وطنية عديدة، وعرض عليهما فكرة التوحّد من جديد، لأن في الوحدة قوة،
والكورد ضعفاء من عدة نواحٍ، فتم وضع منهاجٍ مشترك وانتخاب “قيادة مرحلية مشتركة”،
إلاّ أن طريقة وخطوات تنفيذ العهد لم تنجح، وكان للنظام السوري آنذاك بعد “الحركة
التصحيحية” لحافظ الأسد في عام 1970 دورٌ في تمزيق الوحدة التنظيمية للكورد، إذ
أرسل رئيس الدولة محمد الخطيب شخصاً (من كورداخ) للاتصال بالسيدين عبد الحميد حاج
درويش ورشيد حمو (من قيادة أحد شقي البارتي المنحل وكانا في بغداد) واقناعهما بأن
“القضية الكوردية – إن وجدت – فستحل في  دمشق وليس في بغداد، وإلاّ فإن قائد الحركة
التصحيحية في حزب البعث العربي الاشتراكي سيبني جسراً على نهر دجلة ليعبر الكورد
السوريون عليه إلى حيث البارزاني، وكان الأسد يخاف من أن يستغل صدام حسين وجود
السياسيين الكورد في بغداد. 
وجرت عدة انشقاقات بعد ذلك
الانشقاق الذي جاء بعد توحيد ، زعم كل القائمين بها أنهم “سائرون على نهج
البارزاني”، وكأن هذا النهج هو سلاح لزعزعة الوحدة التنظيمية للحزب السياسي
الكوردي، وليس منهج كفاحٍ وتضحية بالمال والأنفس في سبيل حرية الكورد وكوردستان،
كما عهدناه منذ انطلاق أوّل انتفاضة كوردية في جنوب كوردستان في أربعينيات القرن
الماضي، وفي حين نجح الحزب الديموقراطي الكوردستاني في احتواء الانشقاقات التي حدثت
في صفوفه منذ تأسيسه في عام 1946 وإلى اليوم، وذلك بفضل القيادة الحكيمة للبارزاني
الخالد، ومن بعده أبناءه ورفاق دربه المخلصين، فإن الحزب الديموقراطي الكوردي
(البارتي) في سوريا قد فشل في هذا المجال فشلاً ذريعاً حتى قبل وقتٍ قصير، ولا تزال
نتائج فشله المستمر منعكسةً سلبياً على نضالات شعبنا الكوردي.  وهنا يجدر القول بأن
الأستاذين إبراهيم أحمد وجلال حسام الدين الطالباني قد عادا أيضاً إلى كوردستان
العراق، بعد أن انشقا باسم المكتب السياسي عن الحزب الأم، وحاربا لسنواتٍ عديدة ضد
قيادة البارزاني مصطفى (1966-1970)، وبذلك انتهت الأزمة التنظيمية للحزب إلى حدٍ
كبير، وإن الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي أعلن الأستاذ جلال الطالباني عن تأسيسه
في عام 1975 ببيانٍ شامل عبر جرائد حزب البعث العربي الاشتراكي (الثورة، البعث،
الجماهير) في دمشق، بعد انهيار ثورة أيلول المجيدة في العام ذاته، قد أكّد على أنه
حزبٌ “مستقل” ولا علاقة له بالحزب الديموقراطي الكوردستاني وليس منشقاً عنه،
وتعاملت معه القيادة الجديدة للديموقراطي الكوردستاني كحزبٍ منافس، وفيما بعد
كحليف، وليس كطرفٍ منشقٍ عنه. في حين عادت إلى صفوف الديموقراطي الكوردستاني
المجموعات المنشقة عنه بعد الهزيمة المريرة، مثل مجموعة الدكتور محمود عثمان
(اللجنة التحضيرية للحزب الديموقراطي الكوردستاني) ومجموعة الأستاذ الشهيد سامي عبد
الرحمن (حزب الشعب الديموقراطي الكوردستاني). كما يجدر بالذكر هنا أن الاتحاد
الوطني الكوردستاني قد تعرّض أيضاً للانشقاق مؤخراً فخرج منه بعض الكوادر الهامة
وشكلت “حركة التغيير ” التي يقودها أحد أقرب المقربين سياسياً إلى المام جلال، ألا
وهو الأستاذ نوشروان مصطفى.  
وبالتأكيد، تعرضت مختلف الأحزاب
الكوردية في شمال وشرق كوردستان أيضاً إلى انشقاقات عديدة وخطيرة، وأهمها الانشقاق
الحادث في أعرق الأحزاب السياسية الكوردية، الحزب الديموقراطي الكوردستاني –إيران
الذي أسسه رئيس جمهورية كوردستان في عام 1945، الشهيد قاضي محمد، وحتى في هذه
الظروف العصيبة ومرحلة الإعدامات اليومية التي يعاني منها شعبنا في شرق كوردستان،
فإن الحزب “الديموقراطي” هذا قد فشل حتى الآن في توحيد تنظيمه مع الأسف، بعد
محاولاتٍ غير موفقة.
وفي شمال كوردستان، ثمة أحزابٍ تعرضت لعدة
انشقاقات فأصابها الضعف والهزال، وكل المحاولات الجارية لتوحيد الصفوف تتعثّر
لأسبابٍ عديدة…والموضوع هنا متشعب ومحزن. كما أن حزب العمال الكوردستاني أيضاً قد
تعرّض لانشقاقات متتالية، انتهت بإراقة دماء المنشقين وتصفيتهم جسدياً… سواءً
أكانوا في كوردستان أو خارجها. وذلك رغم تماسكه الفكري وستالينية تنظيمه السياسي
والعسكري، والحكاية هنا تطول أيضاً…
اليساريون والتقدميون
والاشتراكيون، لم يكونوا أوفر حظاً من الديموقراطيين والمحافظين، فتزعزعت تنظيماتهم
أيضاً، على الرغم من توافر “عقيدة فكرية” لها، وفي حين نرى ظهور خلافات فكرية حادة
للغاية على صفحات الصحف اللبنانية و”الحزبية” بين جناحي خالد بكداش (الكوردي) ورياض
الترك في الحزب الشيوعي السوري، على أثر الانشقاق بينهما في سبعينيات القرن الماضي،
فإن مثل هذه النزاعات حول المسائل الفكرية لم تكن عاملاً هاماً في انشقاقات الأحزاب
الكوردية / الكوردستانية، وكل ما هنالك هي أن بعض المجموعات المنشقة عن حزبٍ من
الأحزاب، سمت نفسها ب”البديل الثوري” أو ب”النهج الإصلاحي” أو ب”الوحدوي الأصيل”،
إلاّ أن أقل الخصومات في ساحة التناحر التنظيمي كان فكرياً. وحتى التنظيمات التي
ظهرت من توحد أحزاب أطلقت على نفسها اسم (يكيتي) أي الوحدة أو الاتحاد، فقد تفتتت
هي الأخرى تنظيمياً، وانشق عن المنشقين منشقون، وهكذا… ويعزي بعض المراقبين هذه
الانشقاقات إلى تواجد أيادي للدوائر الأمنية السورية داخل تنظيماتنا السورية، إلاّ
أن الأوضاع التنظيمية لأحزابنا في أجزاء كوردستان الأخرى ليست
بأفضل.
الخلاف الظاهر في انشقاقات الحركة مصدره كامنٌ في
الخلفية الاجتماعية المتخلفة للقيادات التي ولدت وترعرت في عهد الحرب الباردة
وناضلت في ظل نظمٍ قمعية دكتاتورية ومستبدة، منعت الحريات السياسية وأرغمت الأحزاب
على ممارسة العمل السري، وبناء تنظيمات هرمية التراكب، قابلة للمراقبة الدائمة من
فوق، إضافة إلى اضطرار هذه القيادات لموالاة أحزابٍ كوردستانية “حليفة” بذرائع
مختلفة، منها الحاجة إلى المال والإعلام اللذين بهما يمكن الإبقاء على الحزب على
قيد الحياة…
حتى إن التحالفات والجبهات والمجالس والهيئات
المشتركة التي أسستها أحزابنا، في مختلف أنحاء كوردستان، قد تعرضت للانفراط، ماعدا
“التحالف الكوردستاني” ضمن البرلمان الاتحادي العراقي، فلا يزال متماسكاً والحمد
لله ويعبّر إلى حدٍ ما عن إرادة شعبنا في جنوب كوردستان.
وحيث
أن هذه التحالفات والمجالس تزعم اتفاقها على انتهاج “نهج كوردستاني واحد”، فإن
السبب -كما يبدو – في انفراطها وعدم قدرتها على تحقيق “الاتحاد” القوي بينها كامنٌ
في ضعف الإيمان بالديموقراطية، على الرغم من أن جميعها أو أغلبها تحمل اسم
“الديموقراطي” أو  تملأ برنامجها / منهاجها السياسي بالكلام المعسول والكثير عن
“الديموقراطية”… 
والنقطة الأخرى هي عدم تعزيز فكرة “النقد
البناء والنقد الذاتي” لا في البيت ولا في المدرسة ولا في أماكن العبادة، ولا في
الحزب السياسي… وأتذكر أن بنداً خاصاً في محضر الجلسات الحزبية كان يدعى “بند
النقد والنقد الذاتي”، وكان في معظم الأحوال آخر بندٍ للتحدث حوله في الاجتماعات
الحزبية، قبل تحديد موعد ومكان الاجتماع التالي، إلاّ أنني لم أشعر في يومٍ من
الأيام بأن المسؤولين الحزبيين يؤمنون بتطبيقه وتنفيذه فعلاً، إذ كان الحديث عند
تلك النقطة لا يدوم سوى دقائق معدودة أو يؤجل إلى الاجتماع
القادم.
إن خير مثالٍ لانعدام الديموقراطية التي يكثر التشدّق
بها في الحزب السياسي الكوردي هو ما جرى لدى وعلى أثر التصويت على تكوين “قيادة عمل
مشتركة” في اجتماع المجلس الوطني الكوردي مع مجلس شعب غرب كوردستان، بعد عودة
مندوبين عنهما من جنوب كوردستان وتأكيدهم هناك أمام سيادة رئيس الإقليم وأمام الرأي
العام بأنهم سيعملون وفق ما اتفقوا عليه وبروح التآخي وحسب الأصول الديموقراطية
والتوافق الوطني الضروري في بعض الأحيان، وقصة الإخفاق والدجل السياسي ونقض العهود
من قبل بعض أحزاب غرب كوردستان طويلة ومرعبة…
نعم، لابد من
دمقرطة الحزب السياسي الكوردي” ولابد من تطبيق تام لمبدأ “النقد والنقد
الذاتي
” وترسيخه في البيت الكوردي، في المدرسة، في ورشة العمل، في دور
العبادة… وفي الحزب السياسي، فإن لم تتمكن قيادات الأحزاب من معالجة الخلل في هذا
الأمر فلتنزع عن وجوهها قناع “الديموقراطية” وبراقعها التي ترتديها في المناسبات،
أو لتحلّ نفسها فتفسح بذلك الطريق أمام الجيل الصاعد، أمام الشباب الذين يحاربون من
أجل إزالة ركام النظم الاستبدادية التي ولدت في ظلها قياداتنا السياسية ولم تتمكن
من نزع أفكارها من رؤوسها في عهد الحرية والديموقراطية هذا مع
الأسف…
 في هذه اللحظات أتصوّر بعض زعمائنا في كفنٍ يجر
وراءه كرسياً محطماً ثمنه بعض القروش.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سعيد عابد* في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني ألقى المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي خطاباً أمام مجلس الخبراء، مؤكداً على الدور الحاسم الذي تلعبه هذه الهيئة في اختيار “المرشد المقبل”. وأعرب عن شكره لاستعدادهم، وحثهم على اليقظة في أداء هذا الواجب الذي وصفه بأنه ضروري لضمان استمرارية النظام ومنع انحرافه. ويعتبر المجلس، الذي أنشأه مؤسس النظام روح الله الخميني،…

صدرت للكاتب والباحث د. محمود عباس مؤخراً ثلاثة كتب جديدة، وبطباعة فاخرة، ضمن سلسلة مخطوطاته التي تتجاوز الأربعين كتابًا، متناولةً القضايا الكوردية من مختلف جوانبها: النضال السياسي، والمواجهة مع الإرهاب، والتمسك بالهوية الثقافية. تُعدّ هذه الإصدارات شهادة حيّة على مسيرة د. عباس، الذي يكتب منذ أكثر من ربع قرن بشكل شبه يومي، بثلاث لغات: العربية، الكردية، والإنجليزية. إصدارات الدكتور محمود…

اكرم حسين تستند الشعبوية في خطابها على المشاعر والعواطف الجماهيرية، بدلًا من العقلانية والتخطيط، حيث أصبحت ظاهرة منتشرة في الحالة الكردية السورية، وتتجلى في الخطاب السياسي الذي يفضل دغدغة المشاعر الجماهيرية واستخدام شعارات براقة، ووعود كاذبة بتحقيق طموحات غير واقعية، بدلاً من تقديم برامج عملية لحل المشكلات المستعصية التي تعاني منها المناطق الكردية. إن تفاقم الاوضاع الاقتصادية وانتشار الفقروالبطالة، يدفع…

خالد حسو عفرين وريفها، تلك البقعة التي كانت دائمًا قلب كوردستان النابض، هي اليوم جرحٌ عميق ينزف، لكنها ستبقى شاهدة على تاريخٍ لا يُنسى. لا نقول “عفرين أولاً” عبثًا اليوم، بل لأن ما حدث لها، وما يزال يحدث، يضعها في مقدمة الذاكرة الكوردية. لماذا عفرين الآن؟ لأن عفرين ليست مجرد مدينة؛ هي الرئة التي تتنفس بها كوردستان، والعروس التي تتوج…