«حزب العمال الكردستاني» والحرب على سلاحه

هوشنك أوسي
15 آب (أغسطس) الجاري، يكون مرّ على انطلاقة «حزب العمال
الكردستاني» المسلّحة 31 سنة. خلال هذه العقود الثلاثة، حوّل «الكردستاني» سلاحه
إلى أيقونة قوميّة ووطنيّة بوصفه سبب «انبعاث» الشعب الكردي في تركيا، وصار يحتفل
بهذه المناسبة، حتّى في فترات الهدنات العديدة التي أعلنها من جانب واحد. على
المقلب الآخر، تشكل العسكرة والسلاح جزءاً أساسيّاً من التكوين النفسي والاجتماعي
للمواطن التركي، باعتبار العسكر هم سبب تشكيل الدولة السلجوقيّة وثم العثمانيّة،
وبعد ذاك تحرير تركيا من الاحتلال الأجنبي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس
الجمهوريّة سنة 1923.
مناسبة هذا الكلام أن سلاح «الكردستاني» صار العقدة
الكأداء التي تعترض إبرام تسوية سلميّة نهائيّة بينه وبين أنقرة. فالأخيرة تشترط
إلقاء السلاح، قبل إبرام أي اتفاق نهائي، بينما «الكردستاني» يريد ضمانات قانونيّة
وتعديلات دستوريّة جديّة قبل إلقاء السلاح، بحيث لا يكون إبرام أي اتفاق سلام نهائي
بمثابة استسلام مفروض على «الكردستاني». 
وتبدو مبررات الأخير أقرب إلى الإقناع، خاصة إذا ما تابعنا السيرة المريرة والدامية
لتعاطي تركيا وحكوماتها المتعاقبة مع الكرد والقضيّة الكرديّة، منذ نشأة الجمهوريّة
لغاية اللحظة. إلى ذلك، هناك حجم التنازلات التي أبداها أوجلان، زعيم «الكردستاني»،
للحكومات التركيّة، قبل اعتقاله وبعده، بحيث وصل التنازل إلى مسألة إلقاء السلاح،
وتوقّف عند ذلك.
الحقّ أن «الكردستاني» تمّ استخدامه كسلاح ضدّ تركيا من قبل
النظام السوري، إبان عهد حافظ الأسد، بين 1984 حتى 1998. وحين أوشك هذا «السلاح»
على إقحام سورية في حرب ضروس مع تركيا، سارع الأسد الأب إلى إلقائه، عبر إبرام
اتفاقيّة أضنه الأمنيّة في خريف 1998، والطلب من أوجلان مغادرة سورية، ثم إرسال
المخابرات العسكريّة السوريّة صورة عن جوازه المزوّر (قبرصي) إلى السلطات التركيّة
كي تلاحقه!
كذلك استخدم كل من إيران واليونان وقبرص اليونانيّة وأرمينيا
«الكردستاني» سلاحاً ضد تركيا. وبعد ان اكتشف أوجلان زيف كل الكلام المعسول الذي
كان يسمعه من اليونانيين والأرمن والروس والإيرانيين والسوريين…، أراد لتوّه
إقناع الحكومة التركية، وهو على متن الطائرة التي اختطفته، أنه «يريد خدمة تركيا».
وأثناء المحاكمة، اعتذر من أمهات الجنود الاتراك القتلى، وألف كتباً داخل السجن ذكر
فيها أنه يريد وضع «كل الإمكانات العسكريّة والسياسيّة والتنظيميّة لحزبه في خدمة
تركيا، في حال إبرام تسوية نهائيّة. لكن كل الحكومات المتعاقبة لم تكترث بتنازلات
أوجلان ومناشداته ونداءاته.
ويبدو أن «الكردستاني» وسلاحه، صارا «سلاحاً» خفيّاً
بيد «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، بغية التلويح به للناخب التركي، وفق منطق بشار
الأسد: «أنا أو الإرهاب»!. ذلك أنه لو كانت هنالك نيّة صادقة وجادّة لدى الحكومة
التركيّة لحلّ القضيّة الكرديّة في شكل عادل ومنصف، وتفكيك «الكردستاني» وإجباره
على إلقاء السلاح، في شكل سلمي وسلس، ومن دون إراقة قطرة دم واحدة، لما لجأت إلى
الطريقة الفاشلة إيّاها، التي ثبت عجزها وإفلاسها على مدى عقود، ومؤداها تدمير
وتصفية «الكردستاني» بالعنف والحديد والنار!. وما تمّ عكس ذلك، إذ إن استخدام الحل
العسكري زاد «الكردستاني» صلابةً وتجذّراً في مجتمعه، وزاد من مشروعيّة بقاء سلاحه
باعتباره «دفاعاً عن النفس». فكيف له أن يلقي السلاح فيما الطيران التركي يقصفه
بوحشيّة؟!.
اللافت في تجربة «الكردستاني» وتعامل الدولة التركيّة معه، أنه كلما
شارف على الاستنزاف أو التضعضع، أتى هجوم عسكري تركي واسع النطاق يعيد إليه الحيوية
والنشاط والاستنهاض السابق!. واللافت أكثر أن الهجوم الأخير للحكومة التركيّة عليه
لا يحظى بأي دعم أميركي أو أوروبي واضح وصريح، قياساً بالهجمات التركيّة السابقة
على الحزب. فقد طالب حلفاء تركيا في أوروبا وأميركا بضرورة العودة إلى طاولة
المفاوضات مع «الكردستاني». وهذه نقطة تسجّل للأخير، خاصّة أن «الكردستاني» منخرط،
في شكل غير مباشر عبر «حزب الاتحاد الديموقراطي – PYD» و «وحدات الحماية الشعبيّة –
YPG» في التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» الإرهابي. هكذا ملأ «الكردستاني» الفراغ
الذي تركته تركيا في هذا التحالف!.
لا بل يتّفق الحلفاء الأميركيون والأوروبيون
على أن الحليف التركي دعم «داعش» على صعد عدّة، وعرقل التحالف ضد التنظيم أيضاً،
بينما «الكردستاني» المصنّف على لائحة المنظمات الإرهابيّة، قاتل «داعش»
ببسالة!.
خلاصة القول إن سلاح «الكردستاني» هو الآن مصلحة أوروبيّة وأميركيّة في
محاربة «داعش» والتنظيمات التكفيريّة الجهادية في سورية وتركيا، وهو مصلحة إيرانيّة
– أسديّة في محاربة تركيا، ومصلحة لـ «العدالة والتنمية» إذ يجعله فزّاعة تجذب
الناخب القومي التركي للتصويت للحزب الإسلامي الحاكم بوصفه «يحمي أمن واستقرار
تركيا». ويرى الكثيرون من كرد سورية أنه لولا سلاح «الكردستاني» لفتك «داعش»
بالمناطق الكرديّة السوريّة.
وسط هذين التداخل والتعقيد، والتصعيد التركي
الجنوني ضدّ «الكردستاني»، ومع انعدام وجود أرضيّة مشتركة سياسيّة وقانونيّة مشجّعة
وضامنة وموحية بالثقة بين الأكراد والحكومة التركيّة، سيكون صعباً التكهّن بقرب نزع
سلاح «الكردستاني»، ولن ينفع القصف الجوي لمعاقله حتّى لو استمرّ لثلاثين سنة أخرى.
فالنار لا تطفئها النار، كما أن جبال قنديل سلسلة شاهقة شديدة الوعورة من الهضاب
والوديان والكهوف التي لن تنفع في تسويتها بالأرض عشرات القنابل الذريّة. وحتّى لو
تمت تصفية «الكردستاني» بهذه الطريقة، فستظهر مئة «حزب العمال الكردستاني»، جديد،
يحمل السلاح ضد أنقرة. وبالتالي، لا مناص أمام تركيا إلاّ التنازل الدستوري والجدّي
والحقيقي أمام أكرادها، حتّى لو بعد مرور مئة عام آخر من الحرب عليهم.

جريدة
الحياة

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…