سجون عبد الله أوجلان الكثيرة!

هوشنك اوسي


في 15 شباط (فبــراير) الجــاري، مرّت الذكرى
السادسة عشرة على جريمة اختطاف واعتقال مؤسس حزب العمال الكردســتاني وزعيمه
عبدالله أوجلان. إحياء هذه الذكرى الأليمة، صار بمثابة العرف والطقس والتقليد
الحزبي لدى العمال الكردســتاني، إذ يتم إصدار البيانات المنددة بهذا اليوم،
والمتخمة بالعبارات الطنانة من قماشة أن «القائد والحزب والشعب أفشلوا هذه المؤامرة
الكونية على الأمّة الكرديّة»! بينما ينحو الفرع السوري من الكردستاني (حزب الاتحاد
الديموقراطي) منحى أكثر تطرّفاً في إحياء المناسبة والتنديد بها، عبر تعطيل الحياة
العامّة في المناطق الكرديّة السوريّة!
هذه الجريمة الدوليّة، الكاملة الأوصاف، لجهة ضلوع جهات دولية عدة فيها، أبرزها
نظاما حافظ الأسد وحسني مبارك، وأميركا، واسرائيل، وروسيا، واليونان، كشفت عن مدى
التورّط الإقليمي والدولي في التراجيديا الكرديّة، وفي الوقت عينه، فجّر اختطاف
واعتقال أوجلان المجتمع الكردي وحوّله كتلة من نار، داخل وخارج تركيا، ليظهر أوجلان
في قاعة المحكمة، داعياً إلى التهدئة والسلام والحوار وطيّ صفحة الحرب وسفك الدماء،
معتذراً من أمّهات الضحايا الجنود الأتراك.
لقد استنهض اوجلان الكرد في تركيا
للمقاومة والدفاع عن الهويّة القوميّة، إلى درجة التطرّف، بعد عقود من حملات القهر
والصهر للأكراد منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
كما لجم وضبط إيقاع
العمال الكردستاني من داخل سجنه، بحيث ظهر الحزب أداة تنفيذيّة، ليّنة ومطواعة
لأوجلان، أكثر من كونه مؤسسة، وعقد شراكة بين قياداته وقواعده وجماهيره التي كان
لها الدور البارز في صناعة أوجلان. وعبر إمساك الأخير بـ «خناق» الحزب،
ايديولوجيّاً وسياسيّاً وحتى تنظيميّاً، نجح في الإمساك بزمام قيادة الشارع الكردي
الموالي للكردستاني، وترويضه وإدارته تطويعه، وفق ما يراه مناسباً. فإذا قال
أوجلان: الاستقلال والدولة الكردية الخيار الأمثل للكرد، استجاب الحزب والموالون له
من دون نقاش، جاعلين كتب اوجلان «انجيل» الشعب والحزب والوطن. وإذا قال: «الانفصال
والدولة القوميّة، خيار متخلّف، ووبال على الكرد، وصنيعة الامبرياليّة والحداثة
الرأسماليّة»، استجاب الحزب والموالون أيضاً لرأيه بوصفه القائد الأسطوري الذي
يفكّر ويقرر بالنيابة عن الحزب والشعب والقضيّة والوطن.
على امتداد تاريخ حزب
العمال الكردستاني (1978-2015) لا يمكن العثور في أدبيات الحزب والتقارير السياسية
الصادرة عن مؤتمراته، على أيّ من قياداته الحزبية البارزة أو من كوادره المتقدّمة
يقف منتقداً أوجلان علناً. وكل المنشقّين عنه، والذين ينتقدونه الآن، ما كانوا
ليوجّهوا كلمة نقد واحدة بحقّه أثناء تواجدهم ضمن الحزب! يعزو الكثيرون ذلك إلى
طبيعة الرهبة والكاريزما الستالينيّة التي كان يتمتّع بها، على رغم كونه إنساناً
مدنياً، لم يطلق رصاصة واحدة، أو لم يعش لحظة واحدة مع مقاتليه، في ساحة المعركة،
داخل تركيا.
أوجلان، في السنتين الأخيرتين اللتين سبقتا اعتقاله، لطالما كان
يهدد الحزب بتقديم الاستقالة، إذا لم يطوّر الحزب نفسه، بما ينسجم وطروحاته
وأفكاره. ودائماً كان يشكو من «أن رفاقه لا يفهمونه، أو أنهم يفهمونه على نحو
خاطئ»! ولكنه لم يقدم على الاستقالة، كما هدد! وقبل انطلاق المفاوضات الأخيرة، بين
أنقرة وأوجلان، وحتى بعدها، كثيراً ما هدد بالانسحاب من العملية السياسية، وترك
الحبل على الغارب، وانه في حال عدم تفاوض الأتراك معه بشفافية وجديّة، سوف يفقد
السيطرة على الحزب، ويسيطر عليه المتطرّفون. وكثيراً ما حذّر الأتراك من خطورة
تبعات نفض يديه من الحزب والعملية السلمية. لكنه لم ينفذ أيّاً من تهديداته تلك!
واستمر في قيادة الحزب منذ 1978 وحتى الآن. (37 سنة!).
تساؤل كهذا ليس مشروعاً
لدى الموالين لأوجلان، إذ يعتبرونه انتقاصاً من هيبته وتجربته النضاليّة
والسياسيّة. لكن لا مناص من التلميح الى ضرورة إجراء مراجعة نقديّة لتجربة هذا
الزعيم الكردي المهم والإشكالي. وهذا السؤال، الضروري والمتأخّر، يجب أن يطرح على
نطاق واسع بين أبناء الشعب الكردي، وخصوصاً الموالين للعمال الكردستاني، بالتزامن
مع حلول الذكرى السنوية السادسة عشرة لجريمة اختطافه.
وأعتقد أن أوجلان في سجن
إيمرالي (وبصرف النظر عن درجة الاتفاق والاختلاف معه)، أكثر حريّة، على صعيد
التفكير والمراجعات النقديّة من فترة وجوده في سجنه المفتوح السابق، تحت رحمة نظام
حافظ الأسد. فهو تحرر من الضغوطات والإملاءات التي عاناها ما يقارب العقدين.
زد
على ذلك حياة العزلة والتجريد في إيمرالي، التي علّمته الكثير، ودفعته نحو القراءة
والتمعّن في الأحداث والتاريخ والسياسة، ومحاولة إجراء مراجعة نقديّة لتجربته
وتجربة حزبه.
صحيح أن نظام الأسد الأب، منح كامل حريّة التحرّك والنشاط والتدريب
والمعالجة لعناصر وقيادات الكردستاني ضمن الأراضي السورية واللبنانية، لكن الصحيح
أيضاً أن ذلك لم يكن مجّانيـــاً، بل لقاء مقابل سياسي، داخلي كردي سوري، وإقليمي
أيضاً.
وهذه الحقيقة، من المؤسف القول إن أوجلان وحزبه، كانا وما زالا لا
يعترفان بها، إذ اعتبرا نظام حافظ الأسد صديقاً للشعب الكردي، لمجرّد تقديم الدعم
والمساندة للعمال الكردستاني، وقبله للحزبين الكرديين العراقيين الرئيسين، بزعامة
جلال طالباني ومسعود بارزاني. ذلك أنه يستحيل على نظام الأسد الأب أن يكون صديق
الشعب الكردي، وأن يتنكر، في الوقت عينه، لوجود 3 ملايين كردي سوري، ويهضم حقوقهم،
ويسعى إلى تعريبهم، وإلهائهم وزجّهم في حرب ضد تركيا، لم يكن لهم فيها ناقة ولا
جمل.
أما السجن الثالث الذي يعيشه أوجلان فسجن الدوغما العقائدية الحزبويّة التي
يسعى الكردستاني الى إبقاء زعيمه فيه. انه سجن التأليه وعبادة القائد التاريخي
والتنزيه عن الخطأ وتجريم انتقاده. لكنْ لئن كان وجوده في سجن حافظ الأسد «المفتوح»
اختياريّاً، وفي سجن إيمرالي إجباريّاً، فإن أوجلان ضالع في وجوده ضمن سجن الدوغما
العقائديّة الحزبيّة، الأخطر والأفدح.
* كاتب كردي – سوري


 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…