د. ولات ح محمد
بعد صدور النتائج الأولية لانتخاب رؤساء البلديات التركية وظهور تقدم مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو في إسطنبول وشعور حزب العدالة والتنمية بهزيمة نكراء مدوية اعترض هذا الأخير على تلك النتائج وطالب بإعادة الفرز في مناطق عدة في كل من إسطنبول وأنقرة. يبدو أن ذلك لم يرق لواشنطن فصرح نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية روبرت بلادينو بأن “الانتخابات الحرة والنزيهة أساس كافة الديمقراطيات، أي يُعتبر قبول النتائج المشروعة أمراً ضرورياً، ولا ننتظر أقل من ذلك من تركيا …”. فجاء الرد من الحزب الحاكم المهزوم نسبياً بأنه “لا يمكن لأي مؤسسة تابعة لدولة أجنبية أن تكون مصدراً لشرعية نتائج الانتخابات في تركيا”.
دعوة الإدارة الأمريكية إلى احترام النتائج في كل من إسطنبول وأنقرة وعدم إعادة الفرز قد تكون مؤشراً على أن واشنطن ترغب في مغادرة العدالة والتنمية الحكم في أنقرة بعد أن تعددت وتعمقت بين العاصمتين في السنوات الأخيرة خلافات تعود جذورها إلى آذار مارس 2003 عندما منع البرلمان التركي مرور قوات التحالف بقيادة أمريكا من أراضيها باتجاه العراق لضرب قوات صدام حسين آنذاك.
إذا كان هدف واشنطن من تأييد فوز المعارضة التركية هو فقط إضعاف أردوغان وحزبه وحكومته، وبالتالي إبقائه ضعيفاً وبحاجة إلى الحليف الأمريكي، فإن ذلك أمر طبيعي ولن يغير من المعادلة الكوردية الحالية شيئاً، بل يعني أن واشنطن ستظل تضع القوة الكوردية العسكرية والسياسية في حساباتها في المنطقة، وستظل تقدم الحماية لتلك القوة من أي تهديد قد تتعرض له. أما إذا كان الهدف من ذلك هو إسقاط أردوغان وحكومته وإيصال المعارضة في الدورة القادمة إلى السلطة فإن ذلك لو تحقق سيكون له تأثير كبير في الحد من دعم واشنطن للكورد في روجآفا عسكرياً وسياسياً أو إدارياً في المستقبل؛ فمن غير المنطقي أن تدعم واشنطن الكورد في روجآفا أو في تركيا ذاتها يوماً ما في ظل وجود حكومة تركية صديقة لها وتحظى بقبولها كما كان عليه الوضع في العقود الماضية.
كان من السهل على واشنطن (بل ربما من مصلحتها) أن تدعم طرفاً مناهضاً لأنقرة – أردوغان بغية إضعاف حكومة العدالة والتنمية أو حتى إسقاطها. لذلك لم يكد أردوغان أن يتوقف عن اتهام واشنطن بدعم جماعة فتح الله غولن للقيام بالانقلاب العسكري الفاشل صيف 2016، حتى بادر إلى اتهامها بدعم خصم آخر تمثلَ هذه المرة بوحدات حماية الشعب (الكوردية) ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية في غرب كوردستان. ولكن في المقابل ما كان لواشنطن أن تفعل كل ذلك ضد رغبة حليفتها التركية لو كان في أنقرة حكومة تحظى بموافقة الإدارة الأمريكية ورضاها؛ فلو كان حزب الشعب الجمهوري – مثلاً – هو الحاكم في أنقرة بالتزامن مع التطورات في سوريا منذ 2011 هل كانت واشنطن ستتجاهل اعتراضات الحليف التركي وتقدم للكورد منذ 2017 وحتى الآن كل هذا الدعم المعلن وتحمي مكتسباتهم الإدارية من الحليف التركي ذاته؟.
تركيا حليفة لأمريكا وشريكة في حلف الناتو منذ ستينيات القرن الماضي، وبينهما علاقات قوية على أكثر من مستوى وتستند إليها في رسم سياساتها في المنطقة، ولكن يهمها كثيراً طبيعة نظام الحكم في أنقرة وكذلك طبيعة الحاكم وتتصرف على ذلك الأساس؛ فمثلاً لم تضع واشنطن حزب العمال الكوردستاني على قائمتها للإرهاب بسبب ارتكاب الحزب أعمالاً إرهابية ضد المصالح الأمريكية، بل تلبية لطلب أصدقائها في الحكومة التركية آنذاك، بينما لم تفلح كل اعتراضات الحكومة الحالية في منع واشنطن من تقديم الدعم والحماية لوحدات حماية الشعب ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية.
من هنا يمكن القول إن مجيء الحزب الجمهوري إلى السلطة سيجعل واشنطن أكثر استماعاً وتلبية لطلبات الحاكم الصديق في أنقرة، بل ستعمل على تقوية الحكومة التركية الجديدة عندما تكون بقيادة ذلك الحزب الصديق، وذلك على العكس مما يحصل الآن؛ فإذا كانت الإدارة الأمريكية راغبة في وصول أو إيصال الشعب الجمهوري إلى السلطة فهذا يعني أن حساباتها بخصوص علاقات تركيا مع خصومها سوف تتغير مع تسلم هذا الحزب مقاليد الحكم، وبالتالي سيتراجع دعمها (وكذلك الدعم الأوربي) وحمايتها للكورد.
المفارقة هنا أن الكورد أنفسهم ممثلين بحزب الشعوب الديمقراطي قد دعموا مرشح الشعب الجمهوري في كل من أنقرة وإسطنبول للفوز برئاسة كل من البلديتين الكبريين، ومن دون مقابل أو اتفاق مرحلي أو استراتيجي معلن، بل لم يحظَ حزب الشعوب الديمقراطي حتى بكلمة شكر من الحزب الفائز على دعمه وتأييده وفضله لأن رفاق كليجدار أوغلو ربما كانوا يخشون من غضب جمهورهم على كلمة الشكر تلك.
ثمة رأي يقول إن تسلم حزب أتاتورك CHP للسلطة سيحسن من وضع الكورد في شمال كوردستان لأنه حزب علماني ذو توجه غربي ساع إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي وأن هذا سيجبره على تلبية الشروط الأوربية في ترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن هذا سيصب في مصلحة الكورد هناك. الواقع أن مثل هذا الرأي يتناسى أن الحزب الجمهوري هذا ليس جديداً على السلطة، بل حكم تركيا عقوداً طويلة، ولم يعترف يوماً حتى بوجود الكوردي ولغته على الجغرافيا التركية ولم تجبره شراكته الأوربية على التقدم خطوة واحدة تجاه الكورد الذين لم يذوقوا في كل عهوده على مدى قرن كامل إلا المرارة، بل إن ما يعانيه الكورد من تغريب نفسي واجتماعي وثقافي ولغوي هناك في مدنهم وعلى أراضيهم ليس إلا نتاج هذا الحزب وسياساته تحديداً. فما الذي سوف يتغير لديه الآن وهو الذي عارض حتى عملية السلام الفاشلة التي جرت بين الحكومة التركية وحزب العمال الكوردستان وتوقفت في 2015م؟.
بناء على كل ما سبق ينهض السؤال الآتي: ما مسوغات حزب الشعوب الديمقراطي في دعم حزب الشعب الجمهوري وإنجاح مرشحه (بغض النظر عن النتائج النهاية) في كل من أنقرة وإسطنبول؟. وماذا ربح أو سيربح الكورد عموماً وحزب الشعوب الديمقراطي خصوصاً من فوز حزب كليجدار أوغلو الآن أو في المستقبل؟.
إن أفضل ما يمكن للكورد أن يفعلوه في الفترة القادمة – من وجهة نظر هذه القراءة – هو أن يستفيدوا من هذه الفجوة التي تزداد اتساعاً وعمقاً كل يوم بين الإدارة الأمريكية والحزب الحاكم في أنقرة، لا أن يساعدوا أصدقاء واشنطن في تركيا على استلام السلطة؛ فقد كان وجود أردوغان تحديداً وحزبه في السلطة أحد الأسباب التي دفعت إدارة ترامب لدعم الكورد في سوريا بتلك الصورة العلنية وذلك الزخم غير المسبوق متجاهلة اعتراضات الحاكم التركي المنبوذ أمريكياً. أي أن ذلك الدعم وتلك الحماية لم يكونا حباً بالكورد وإنما كرهاً بأردوغان، فماذا لو ذهب “المكروه”؟!.