في هذا الحوار، مع أحد عمالقة الصحافيين الكورد، وأحد المبدعين في الشعر والرواية والكتابة، تحدث الصحافي والكاتب الكوردي، إبراهيم يوسف عن أعماله الروائية والشعرية والمواضيع التي تتناولها في كتاباته الصحافية العديدة، والمتعددة، وقال لـ”العالم الأمازيغي”:”صحيح أنني كردي، وأعتز بكرديتي، إلا أنني أكتب باللغة العربية التي أحبها حقاً، وعملت حوالي ثلاثين سنة على تدريسها، وهذا لا يعني أنني أهمل لغتي الكردية الأم التي كتبت في مطلع شبابي بها بعض القصائد التي غناها أكثر من فنان كردي. الكردية لغة بيتي، إلا أن العربية كانت اللغة المفروضة التي كتبت بها.. أكثر”.
وأضاف في حواره الطويل مع الجريدة :”لا يمكن أن تكون هناك سوريا موحدة، من دون أن يتحقق للكردي حقوقه في الوجود، وأنا ممن يرون أن الحل الفيدرالي-الآن- هو الأنسب بالنسبة للكرد، ضمن خريطة سوريا، مع تأكيدي: أن هناك خريطة كردستان مجزأة، وإن لم يتم القبول بحقوق الكردي فمن حقه أن يظل يطالب من أجل تحريره وكردستانه!”
وحول العلاقات الأمازيغية/الكوردية، قال الكاتب إبراهيم يوسف ” ثمة الكثير من الملامح المشتركة بين الكرد والأمازيغ، في الحقيقة، وهو ماعانياه طويلاً بسبب اغتراب الشعبين عن جذورهما في سبيل رباط تخلى عنه الآخر، ما أدى إلى تهديد هويته واعتباره من عداد هوية أخرى. ما يلفت نظري، في أهلنا الأمازيغ، أن كل محاولات محو هويتهم لم تجد، إذ لا يزالون يقبضون على الجمر، وهو نفسه حال الكرد، أضف إلى كل ذلك: أصالة الشعبين. شجاعتهما. حملهما للقيم، بروح-جبلية- عارمة”.
حاوره: منتصر إثري
نبدأ بالسؤال الكلاسيكي، من يكون ضيفنا وكيف تود أن تقدم نفسك للقراء؟
ليس أصعب على المرء، ولاسيما: الكاتب، أن نسأله: من أنت، لاسيما إذا كان ذلك في إطار حوار مدون، أو مسموع، أو مرئي، لاعتبارات كثيرة، يمكن التوقف عند اثنين منها، أولهما أن من شأن الحوار أن يكشف عن المحاور معه- بفتح الواو- ناهيك عن أمر آخر، وهو أن المرء قد لا يعرف ذاته، لاسيما عندما يكون من عداد المشتغلين في عالم الثقافة والإبداع، باعتبار أن ما ينتجه لطالما يكون ملتصقاً بلحظته. بوجدانه، بل بحواسه المستنفرة كلها، ولعله في مثل هذا الامتحان الصعب يبخس قدر منجزه كنص، وقدر نفسه كناص. دائماً أفضل في الحوارات التي تجرى معي- وهكذا كنت أفعل وأنا في موقع المحاور- بكسر الواو، أن أسلط أضواء ما، خافتة، أو جد كاشفة بجكتورية على اسم ضيفي، وإن كانت هذه الطريقة تقليدية في عالم الحوارات، وأنا أحسبني على هذه المدرسة التي قد تصادر دور الآخر. المعني بالحوار، خارج دائرة المحاورين، وأعني بذلك: المتلقين!أمام سؤال كهذا- وقد طرح علي مثله من قبل غير مرة- أقول: إنني امرؤ حالم. هذه الصفة أعرفها في نفسي، ولعلي اكتشفتها متأخراً. كان الحلم زوادتي طويلاً. كانت النطع الذي ذبحت عليه مشاريع كثيرة، إذ كنت أتصور أن رغبة الشاعر في وضع حد لمآسي الكون. مآسي أهله. شعبه. مآسي البشرية، من الممكن أن يتحقق من خلال كتابة قصيدة، بيد أنني الآن، وأنا على مشارف الستين من عمري بت أدرك أن كل ذلك كان مجرد أوهام، لأن الحلم الذي لا يترجم بالجهد. بالمكابدة، بالتعب، ليس سوى أضغاث أحلام. ليس سوى بنات أحلام. ليس سوى أحلام يقظة، أو كما نسميها تهيؤات، وأوهاماً. أجل، من الجميل أن يحلم المرء. الحلم اكتشاف عظيم، ولكن إذا قورن ذلك بالاشتغال عليه لدحرجته من تخوم المستحيل إلى مساحة الممكن. هذه النزعة الحلمية جعلتني أعيش الكثير من الرومانس، من جهة اللاانتماء إلى الواقع، وهو ما كان يجعلني ألا أعدم الخير حتى لدى من في يديه مسدس يصوبه علي. حتى من قبل من يعاديني، ويخطط لمحوي، إذ ظللت طويلاً أؤمن أن العالم مبني على الخير، وأن نقيضه في الثنائية التي تشير إليها الدراسات الفلسفية والتاريخية أي الشر إنما هو افتراضي.فتحت عيني في أسرة: الأب رجل دين ورث مكتبة عن أبيه، وورث جدي المكتبة عن جده عن أبيه. من المناظر الأولى التي وجدتها أمام عيني قراءات أبي للقرآن الكريم، ولكتب الفقه والشريعة والتصوف والنحو والصرف والأدب. إنشاده لقصائد بعض الشعراء المتصوفة في الأدبين الكردي والعربي، بالإضافة إلى بعض القصائد القومية لكل من الجزري والخاني وجكرخوين. ضمن هكذا أجواء صرت أردد على نحو عفوي بعض القصائد السجعية، وأكتب على أية ورقة تقع بين يدي. ألتقط أية قطعة جريدة استخدمت كلفافة لما يجلبه أبي من حوائج من المدينة، فأقرؤها، أعرف على نطاق القرية ب: الشاعر، ومازلت منذئذ، أحاول أن أؤكد حسن نوايا أبناء قريتي تل أفندي التي أصبحت، الآن، على مقربة رمية قنبلة، أو ثؤبة عربة تركية روسية مصفحة، لاسيما إن قريتي هذه كانت- ثاني حقل بترول- تم التنقيب عنه في سوريا بعد”الرميلان”، وأجل استكماله، ربما لأن مجاريها تصب، أو ستصب في أمكنة أخرى أقل تكلفة!
حدثنا قليلا عن أعمالك الروائية والشعرية والمواضيع التي تتناولها في كتاباتك؟
أول ما زعمت إنتاجه: الشعر، كما يعرف أبناء قريتي التي ولدت فيها. كتبت قصائد نثرية مقفاة، هي بحسب تصنيفها النقدي الذي فهمته، لاحقاً، من عداد السجع، الذي أقلعت عنه، ما إن أدركت أن للشعر أوزانه وبحوره، وهو ما جعلني أعتمدها في بواكيري الأولى في منتصف السبعينيات، قبل أن أكتب قصيدة العمود، فالتفعيلة إلى جانب قصيدة النثر، تدرجاً نحو: تكوين الملمح، من وجهة نظري. في تجربتي الشعرية كنت من عداد جيل مظلوم، باعتبارنا فطمنا على القيم الكبرى، وكنت أزعم بأنها تنئي بالشاعر وجمهوره عن همه الطبقي والإنساني، وذلك بموجب قناعاتي اليسارية التي تلت، بل امتزجت ببعض قناعاتي الدينية، الريفية-باعتباري ابن قرية- وإن كنت قد تركت القرية في الثانية عشرة من عمري، لأدرس في المدينة. أجل، فلطالما كنت أعد قصائد نزار قباني لا تخدم رؤية أمثالي في قراءة الواقع، وإن كانت قصيدته”بلقيس” وأنا طالب ثانوية ستستفزني، وتجعلني أستنسخها بخط يدي، بعد أن وصلتني عن طريق صديق أصغر مني بحوالي السنتين، ربما، وهو الشهيد عدنان ملك الذي قضى غدراً، وهو يحمل بين جوانحه أعاصير حلم عظيم. نشرت المقال، ونشرت القصيدة، والقصة، واشتغلت كثيراً في عالم الصحافة، لاسيما الحزبية المجانية، إذ انشغلت بهموم عامة الناس. هذا الانشغال الذي جاء من خلال عنايتي بالبسطاء. بالمظلومين. بالمضطهدين، ما دفعني لأكتب لهم، لأرافع عنهم، وأنسى قصيدتي. قصتي. مسرحيتي. طويلاً، طويلاً، قبل أن أعود إليها، وما إن عدت إليها حتى بدأت ضغوطات النظام السوري علي، على لقمة أسرتي، ما اضطررت للسفر خارج البلاد للعمل، وما إن وجدت موطئ قدم لي في بلد خليجي هو الإمارات حتى بدأت الحرب في بلدي، الأمر الذي جعلني أن أكون شبه متفرغ لها، أي لمتابعة شأن الحرب، في أقل تقدير.هكذا الهم العام استلبني، إلا أنني كتبت بعض ما يمكن كتابته من نصوص شعرية أوقصصية أو روائية. كل ما كتبته هو عن ألم شعبي. ألم مواطني وشركائي في البلد. ألم الإنسان.روايتي الأولى- شارع الحرية- وشارع الحرية هو شارع منزلي في مدينة -قامشلي- الذي خفق فيه قلبي للحب لأول مرة، وكتبت فيه قصيدتي الأولى التي اطمأننت بأن أوقعها باسمي، كتبتها بعد أن استهدف تنظيم داعش هذا الشارع الذي أقيمت فيه مؤسسات تابعة للإدارة الذاتية الكردية، وراح ضحيته عشرات الجيران والمعارف وأبناء المدينة، ناهيك عن مئات الجرحى، وهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها ما دعا إلى غياب أسر كاملة فيها. هذا العالم، بالإضافة إلى رؤيتي للشقيق الكردي الذي ظهر- فجأة- وحكم المكان، ولم يراع أهله، بل راح يطبق نظريات متهالكة في العنف ضد أهله جعلني أكتب هذه الرواية، وإن كنت أعود لأقف إلى جانب هذا الشقيق عندما يتكالب عليه العالم كله، حتى من خدموه، وفق مؤامرة استهدفت الكرد، وتواطأت بموجبها أمريكا مع المهندس الروسي- الوصي على النظام، لتغييب الكردي الذي قاوم داعش، كما شقيقه في إقليم كردستان، وراحا يدفعان الضريبةروايتي الثانية- شنكالنامه- كتبتها عن السبايا الإيزيديين، وعن جرائم تنظيم داعش، ومن بينهم أبو بكر البغدادي، وفيها رصد لمعاناة الكريمات الإيزيديات على أيدي إرهابيي داعش، كما إن فيها رؤية لمصير داعش. نالت الرواية إعجاب كثيرين ممن قرؤوها، وأترك تقويمها للقارئ الكريم.
بأية لغة جاءت أعمالك الإبداعية؟
صحيح أنني كردي، وأعتز بكرديتي، إلا أنني أكتب باللغة العربية التي أحبها حقاً، وعملت حوالي ثلاثين سنة على تدريسها، وهذا لا يعني أنني أهمل لغتي الكردية الأم التي كتبت في مطلع شبابي بها بعض القصائد التي غناها أكثر من فنان كردي. الكردية لغة بيتي، إلا أن العربية كانت اللغة المفروضة التي كتبت بها أكثر، إن لم أقل كل قراءاتي، إذ يحدث أن كنت أقرأ الكثير من الكتب بالعربية مقابل قراءة نص أو كتيب بالكردية لأنها كانت ممنوعة، ولو كتبت بها قصيدة حب. لقد رضعت حليب أم عربية مع مجموعة أمهات كرديات، وذلك خلال فترة مرض ف والدتي رحمها الله لتعالج في أحد المشافي، وأبعد عنها بعضاً من الوقت. أخي في الحليب كان اسمه إبراهيم، وقد توفي خلال فترة الحرب، في حادث لا يصدق. إذ سقط من فوق كرسي استوي فوقه يعالج لمبة كهرباء لمحل تجاري صغير كان يعمل فيه خلال فترة ما بعد دوامه المدرسي كمعلم ابتدائية، وهو توأم طفولتي إلى جانب قلة آخرين: الشاعر البلغاري من أصل كردي خضر سلفيج وسيف الدين محمد ومحمد عبد الله، من أبناء قريتي التي لا يمكن أن أنساها.
المعروف أنك صحافي وروائي وشاعر، ترى أين يجد ضيفنا راحته؟ وما السبب؟
اشتغلت كثيراً في عالم المقال، وبت أكتب بشكل مضاعف منذ إبحارنا في فضاء- الإنترنت- بالتناسب مع ارتفاع وتيرة معاناة إنساننا، اضطرابات مكاننا، والأسئلة التي باتت تواجهنا، إذ لامناص من مواجهتها، لاسيما من قبل امرئ مثلي لم يعتد أن يدير ظهره لآلام الناس. أما القصيدة فهي هوائي الروحي الذي أتنفسه، بيد أن لجوئي إلى عالم الرواية التي انقطعت عن كتابتها بعد مخطوط يتيم لم يلق النور هو أنها فضاء واسع يمكن من خلاله تناول قضايا وأحداث كبيرة، ذات تفاصيل، وتشعبات، تضيق بها القصة أو القصيدة أو حتى الملحمة أو المقال أو الدراسة.أتذكر أنه بعد تراجيديا الإيزيديين في سنجار/شنكال كتبت قصيدة ملحمية بعنوان شنكالنامة، لقيت إعجاب من قرؤوها لأنها كتبت ونشرت بعد أيام قليلة من وقوع الجريمة النكراء بحق البشرية، إلا أنني أحسست أني لم أقل شيئاً، بالرغم من أنني كنت من أوائل الصحفيين الذين رصدوا هذه المأساة في سلسلة مقالات منها ما نشر في جريدة”النهار” اللبنانية، إذ ثمة إحساس كبير كان في أعماقي هو أنني لم أؤد دوري في تناول هذه المأساة، إلى أن كتبت روايتي- شنكالنامة- التي أحسست خلالها أنني قلت شيئاً ما.
ما الذي يغذي فيك روح الإبداع أو ما أطلق عليه «فيتامين الكتابة» إن جاز التعبير؟
منابع الكتابة من جهة، ودوافعها من جهة أخرى، لهي جد كثيرة بالنسبة إلي كإنسان كردي يتعرض شعبه ليس لظلم مزدوج: قومي ووطني، فحسب، بل وإلى الظلم الطبقي الذي عانينا منه باعتباري كنت منتمياً إلى- الطبقة الفقيرة- التي تعتمد على جهدها، ولم أسع لكسب المال كما سواي، ناهيك عن ظلم آخر يمكن أن نسميه ظلماً أممياً، هو ظلم الغرب الذي وضع خرائط المنطقة، وأعني هنا خريطة سايكس بيكو 1916،وهل أحدثك عن ظلم الأخوة في الإسلام. الكردي الذي حرر القدس في زمن صلاح الدين والكردي الذي قضى على داعش، حتى شركاؤه. حتى أخوته في الدين صلبوا خريطته على طاولة الأجنبي، وتحت توقيعه وبصمته ليتفرغوا لتذويبه ضمن شرنقات لغات أخرى غير لغته. شرنقات التفريس والتتريك بل والتعريب. هذه بعض دواعي الكتابة أليست بكافية؟ثمة نسغ من حب. نسغ من التشبث بالحياة. نسغ يدعو للإصرار على الوجود إزاء محاولات المحو، وهي كافية أن تملأ قرطاساً كبيراً بحجم – الكرة الأرضية- نتاج حبر الكردي وحبه، ولذلك فإنك لترانا نصر على الكتابة، كما يصر مقاتلنا على الدفاع عن حقه في الوجود، في مواجهة التاريخ والجغرافيا المزورين اللذين تربت أجيال متتالية على اعتبار أن الكردي- كما الأمازيغي- هما ضيفا مكانه، بينما يعد أي ضيف حقيقي على المكان بأنه صاحبه، بالرغم من أن الكردي يصرعلى شراكة شريكه الحقيقي أياً كان!
إلى أي حد تجدون اهتمام المجتمع الكوردي اليوم بالشعر والرواية؟ وكيف تنظرون لواقع الرواية الكردية؟
لأكن دقيقاً، أنه مع انتشار وسائل الإعلام والتواصل والاتصالات وثورة التقانة فإن القارئ الكردي- بدوره- بات يتوجه إلى قراءة ما هو- سريع- بل بات بدوره يعتمد الصورة الإلكترونية، إلا أن متابعتي لأرقام مبيعات معرضين كرديين للكتاب هما: معرض الشهيد هركول في قامشلي ومعرض هولير، وبالتواصل مع بعض الناشرين تأكدت بأنه لا يزال هناك تعطشاً للكتاب، وأن دائرة القراءة بوساطة الأوعية الإلكترونية باتت تتسع، لاسيما بعد كسر حدود الرقابة في ظل ثورة المعلوماتية، أو أكاد العولمة، بالرغم من تحفظاتي عليها، باعتبار ما يمارس من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الآن، تجاه الكرد في محطات: كركوك- عفرين- سري كانيي/ رأس العين”أو روج آفا” ما هو إلا ترجمة للجانب المرعب من العولمة.
دعنا نعرج على الوضع السياسي والإنساني في المناطق الكوردية بشمال سوريا، حدثنا قليلا عن ما يجري على الأرض؟
ثمة شعب كردي توزعت خريطته بين دول عدة: سوريا- تركيا-العراق-إيران…، هذا الشعب ظلم وقهر تاريخياً، وحاول أن يسترد بعض ملامحه في أكثر من محطة، إلا أن الدول العظمى التي طمست حقه، استعادت الكرَّة، وبقيادة: روسيا البوتينية وأمريكا الترامبية، ومن خلال عراب مهووس باستعادة عصر الفتوحات ألا وهو: أردوغان، مغتصب الرئاسة في تركيا، ومن دون أن ننسى ما يخطط له في إيران من قبل- ملالي طهران- المتأيتين- لقد كان الكردي في خط النار الأول في مواجهة داعش، ومن قبله المستذئبين من الفصائل الراديكالية وقد طهر المكان منها، إلا أن هناك من لا يريد للكردي أن تكون له لغته، وحضوره، ما دفع بأردوغان لأن يتسول من قادة العالم الضوء الأخضر لقاء تنازلات له عن حلفائه من السوريين في الغوطة، وحلب، كي يكون خادماً للنظام البعثي الحاكم، يعيدهما إليه، ليبيع حلفاءه، أكثر من مرة،على نحو بخس، مقابل أن يسمح له بمحاربة الكرد واجتثاث جذورهم، وتقطيع أوصال مكانهم، وإغراقه بالمستوطنين وبقايا داعش ممن احتلوا بعض مدن المكان، وبطشوا، وفتكوا، ودمروا، أمام أعين العالم. هذا ما يجري في عالم يمثل كل من: ترامب وبوتين راعيي”الأخلاق” المتجردين من القيم والأخلاق.
انتم تعلمون بأن سوريا تحولت إلى ساحة لنزاعات إقليمية ودولية منذ سنة 2011، هناك تجاذبات واصطفافات وتغيرات..؛ فأين الكورد وموقعهم من كل هذه المعادلات؟
شارك الكردي في الثورة السورية منذ بدايتها، ووقف شبابنا الكردي مع المدن السورية التي ثارت على النظام، بالرغم من أن لا أحد منها وقف مع الكردي عندما انتفض في العام2004، وكان أبناء تلك المحافظات سنداً للنظام نفسه الذي ثاروا عليه، إلا أن الكردي لم يكترث بالأمر، انطلاقاً من حسه الوطني والإنساني، ليفتح صفحة أخرى، من أجل سوريا “تشاركية”، يعيش فيها إلى جانب بقية مكونات سوريا وهو ابن القومية الثانية في البلاد، إلا أن ما حدث أن-المعارضة- التي تم اختراقها من قبل النظام وتركيا غدرت به، كما النظام. هذه صورة أولى لواقع معاناة الكردي، وسيكون المشهد أكثر درامية إذا عرفنا أن دولتين كبريين هما: روسا وأمريكا رعتا الغدر بالكردي الذي يحارب بقايا داعش، في الداخل، ويواجه بعض الميليشيات السورية المأجورة المرتزقة التي تعمل بتوجيه وتخطيط من أردوغان،بدعوى حماية حدود الأمن التركي، وإن كان ذلك بوساطة ميليشيات سورية تابعة للائتلاف والحكومة السورية المؤقتة، وهي تعد طلائع الاحتلال لأرض سورية، وتصرّ على أنها: الجيش الوطني، مع أنها تابعة للمحتل التركي؟؟؟
كيف تنظرون لمواقف الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا من التدخل العسكري التركي وما يقترفه نظام أنقرة في خرق لكل القوانين والمواثيق الدولية؟
ثمة محرك وحيد للدول الكبرى، وعلى رأسها: أمريكا وروسيا، هذا المحرك هو المصالح المشتركة، بعيداً عن الأخلاق والقيم، إذ إنه من العار لتاريخ أمريكا أن يتخلى رئيسها عن الكرد الذين كانوا يمثلون الشريك الرئيس في القضاء على داعش، وذلك بعد مرور مجرد أشهر، مطلقة يد أردوغان المتعطش لسفك دماء الكرد، ولأعترف-سلفاً- أن الشارع الأمريكي، وبعض مؤسساته أدانوا ما قام به “البيض الأبيض” ورئيسه من غدر بحق الكردي.من جهة أخرى، فإن ما تم من احتلال، وفق اتفاق بين أمريكا وروسيا وتركيا، على حساب الكرد، كان نتيجة سلسلة من تنازلات تركية، ولأنني حالم، كما قلت في بداية لقائنا، فإنني لواثق أن الكردي لابد وأن يحرر كردستانه الكبرى، ومن بينها كردستان تركيا التي تضم أكثر من خمسة وعشرين مليون كردي، كما أن نهاية أردوغان الذي ترتفع الأصوات لاعتباره مجرم حرب ستكون جد وخيمة، وهو ما أستنتجه من ثقتي بدورة الزمن!
محللون أجمعوا على أن أمريكا هي من أعطت الضوء الأخضر لتركيا لتشن هجومها العسكري على وحدات حماية الشعب الكوردي، في نظركم لماذا تخلت أمريكا عن حليفها اقصد “قسد”؟
من تخلى عن الكرد هو الرئيس التاجر ترامب، إلا أنه تعرض لضغوطات هائلة من مؤسسات أمريكية كبرى، ما دعا الأمريكيين يعيدون النظر في الاتفاق، وما عودة القوات الأمريكية المنسحبة من المناطق الكردية إليها، كما حدث اليوم:الأربعاء، إلا نتاج ذلك. أما إن تسألني عن السبب، فإنني أقول لك: عندما يحكم العالم أزعر، منفلت، عديم القيم، وجشع كما ترامب فهكذا تكون الأمور.
البعض يتحدث عن صفقة بين “واشنطن” و”أنقرة” ضحيتها الشعب الكوردي، ما تعليقكم؟
أجل، ما يتعلق بالصفقة، وكما قلت من قبل إنما هو صحيح، إلا أن حديثنا، هل سينجح المقامرون في إتمام الصفقة. إن دروس التاريخ التي تعلمنا منها تبين أنه لا يمكن تغييب شعب ما عن مسرح الحياة لطالما لديه إرادة البقاء، وشعبنا الكردي-كما أهلنا الأمازيغ- كما بقية الشعوب المضهدة في العالم، لاسيما التي كانت ضحية :أخوة الدين، لابد من أن يعودوا إلى مسرح التاريخ، بما يليق بهم من مقاومة، وإصرار على النصر والحرية والتحرر.
باعتباركم صحافياً متابعاً لما يجري في المناطق الكوردية، هل كنتم تتوقعون هذا السيناريو خصوصا بعد كل تضحيات الكورد وتحرير مناطقهم وعامة شمال سوريا من “داعش”؟
أجل، شخصياً كنت أتوقع أن تتم مؤامرات ما على الكرد، لاسيما في ظل فرقتهم، وانقسامهم، بعد أن استبعد الشقيق الذي هيمن بالقوة على المكان شقيقه، بالرغم من أن هذا الأخير هو من مثل أهله الكرد عبر التاريخ. هو من كان لسان حالهم. هو من كان طليعتهم.
ما هي الحلول التي ترونها مناسبة اليوم للقضية الكوردية؟ وهل تعتقدون بأن النظام السوري سوف يضمن حكما ذاتيا ل “روج آفا”؟
لو أن النظام السوري كان صادقاً مع نفسه، ومع شعبه لما ألينا إلى ما انحدرنا إليه، بعد كل ما تعرض له السوريون: هجرة أكثر من نصف سكان سوريا خارج وداخل البلاد، ونسف البنية التحتية وتكبد مليون ضحية، وأكثر من مثل هذا الرقم من الجرحى وذوي العاهات الدائمة لما يزل يفكر بعقلية طغاة التاريخ الذين بأيديهم مفاتيح الفرق الناجية بوطنيتها، وغير الناجية أو الخائنة.إلى اليوم لا يعترف النظام بحقوق الكرد إلا ضمن: حقوق المواطنة، ولعل الأسوأ منهم:المعارضة الأخوانية الأردوغانية.لا يمكن أن تكون هناك سوريا موحدة، من دون أن يتحقق للكردي حقوقه في الوجود، وأنا ممن يرون أن الحل الفيدرالي-الآن- هو الأنسب بالنسبة للكرد، ضمن خريطة سوريا، مع تأكيدي: أن هناك خريطة كردستان مجزأة، وإن لم يتم القبول بحقوق الكردي فمن حقه أن يظل يطالب من أجل تحريره وكردستانه!
كيف تتوقعون تعامل النسيج الكوردي مع كل هذه المستجدات والاصطفافات الدولية؟
ماخلا إقليم كردستان، فلا أتوقع أن هناك من يعمل بدأب من أجل قضيتنا ككرد سوريا، بالرغم من أن إقليم كردستان موجود ضمن خريطة بلد آخر، إلا أن رئيسه مسعود بارزاني لا يتخلى عن أهله كرد سوريا، وهو نفسه تعرض لغدر:أمريكي/ترامبي، إيراني، تركي، بغدادي. للكرد أصدقاء، هؤلاء الأصدقاء أعول عليهم كثيراً، ولا أيأس البتة، وإن كنت موقناً أن لا صديق للكردي أن يقف معه إن لم يقف هو مع ذاته، ووقفته مع ذاته لا تبدأ إلا بإزالة كل حواجز السياسة”الوهمية” ما بينه نتيجة مشاريع حزبوية دخيلة لا علاقة لنا بها البتة.
هل في نظركم ساهم البيت الداخلي الكوردي-الكوردي في ما يجري من التغيرات على الأرض؟
ما تمَّ من إنجاز كان نتيجة خزان دماء شباب كرد سوريا وهم ليسوا أبناء حزب محدد، من وقف ضد داعش مدافعاً عن أهله لم يفعل ذلك من أجل حزب محدد، أما الخلافات الكردية/ الكردية فقد كان لها تأثير سلبي في تسهيل الاستمراء على الفتك بالكردي، ولا أعني هنا تواطىء جهة وازنة البتة، لأن كل كرد سوريا إنما هم مع قضيتهم وشعبهم، بالرغم من جدار السياسة-الطارئة-العازل، والمفرق.
ما هي الحلول التي ترونها مناسب لإعادة ترتيب البيت الكوردي وردم الاختلافات؟
أن يكون قرار كرد سوريا بأيديهم، وألا يكون هناك أي حضور لأية جهة كردستانية في صياغة القرار، أو القيادة، باعتبار أن لك جزء كردستاني، ضمن واقع تجزئة خريطة الكرد، خصوصيته، وهذا لا يعني البتة عدم دعم كل طرف للآخر-عند الحاجة- من دون أن يكون ذلك بدافع الهيمنة على ابن المكان ومكانه!؟.
ما تأثير ما جرى ويجري في روج آفا على الأجزاء الكوردية الأخرى؟
إننا ككرد سوريا فرحنا عندما استطاع إقليم كردستان أن يكلل نضاله، ومقاومته، عبر عقود، بأن يكون له حضوره في بلد اتحادي، وإننا سنفرح إن يتحقق لأهلنا في أجزاء كردستان الأخرى، ضمن خريطتي إيران وتركيا ذلك، كما أن أية انتكاسة يتعرض لها أي جزء كردستاني فإنها تنعكس علينا جميعاً.
نختم اللقاء معكم بالعلاقات الأمازيغية الكردية، ماذا تعرف عن هذه العلاقات؟ وما هي أوجه التشابه بين القضيتين؟
أنا جد معني بالشأن الأمازيغي، ولي أصدقاء أمازيغ كنا نتراسل أيام البريد الورقي، وإن كان ممنوعاً علينا-في الطرفين- أن نسترسل في رصد معاناتنا، إلا أن تواصلنا كان ثقافياً، وفي مرحلة إلغاء حدود الرقابة، مع مطلع الألفية الجديدة، فقد حقق التواصل خطوات أفضل. ثمة الكثير من الملامح المشتركة بين الكرد والأمازيغ، في الحقيقة، وهو ما عانياه طويلاً بسبب اغتراب الشعبين عن جذورهما في سبيل رباط تخلى عنه الآخر، ما أدى إلى تهديد هويته واعتباره من عداد هوية أخرى. “ما يلفت نظري، في أهلنا الأمازيغ، أن كل محاولات محو هويتهم لم تجد، إذ لا يزالون يقبضون على الجمر، وهو نفسه حال الكرد”، أضف إلى كل ذلك: أصالة الشعبين. شجاعتهما. حملهما للقيم، بروح-جبلية- عارمة.
كيف تنظرون للتضامن الأمازيغي مع القضية الكوردية من خلال بيانات وتنظيم احتجاجات أمام سفارة “أنقرة” بالرباط؟
ثمة غبطة كبرى في قلب كل كردي وهو يتابع حالات تضامن أهله الأمازيغ مع قضيته، ورفعهم لرايته، وترديدهم لاسمه أمام مقر دبلوماسي رمزي للمحتل التركي الذي عانينا كلانا: أمازيغ وكرداً من وطأتهما، وهو ما لن ينساه الكرد، ومؤكد أن هذا التضامن لم يكن مستبعداً، لأننا كشعبين تعرضنا للاضطهاد، ونشأت بين نخبنا وشارعينا علاقات وثيقة هي ليست وليدة المصادفة والعفوية، وإنما هي مبنية على أسس راسخة، وثمة مستقبل عظيم ينتظر علاقات كلا الشعبين، بكل تأكيد.
كيف يمكن تطوير علاقة الشعبين؟
ثمة الكثير الذي يمكن الحديث عنه، من خلال تنظيم التعاطف، والتودد، والتعاون بين شعبينا. بل بين شعبنا الواحد، وذلك من خلال إطلاق جمعية صداقة بفروع رسمية في مكانينا، وأن يتم مد الجسور الثقافية بيننا، على أسس راسخة، ومن بين ذلك: ترجمة الأدبين الكردي لدى أهلنا الأمازيغ، والعكس، وتشكيل لجان للتعاون في المهاجر، وأتصور: أن حكومة إقليم كردستان قادرة-من جهتنا- الآن، الإرساء لذلك، وهكذا ضمن: روج آفا، التي بت ألفظ اسمها-كما هو- بعد إعلان أردوغان حربه على الكرد. كنخب ثقافية، أناشد، للالتقاء، على مستويات واسعة، عبر إقامة مؤتمر شامل للجانبين الأمازيغي الكردي، على أن تنبثق عنه لجان متعددة لترسيخ هذا التعاون.
كلمة حرة؟
أشكرك. أشكر جريدتنا، وأدرك، أن مثل هذا الحوار معي، هو من صميم مابين شعبينا من علاقات، وحب، ورغبة حقيقية في أن نعيش في وئام وسلام، ضمن أرخبيل من الثقافات التي طالما حضت على محونا وابتلاعنا، وتغييبنا.