ماجد ع محمد
الدُّرجُ الأوَّل: شذوذ القراءة
يُخال للكثير ممن كانوا من متابعي الصحف السورية قبل الثورة، وكأن الإعلام السوري وبالأخص المطبوع منه، كان وما يزال له دور كبير في اِنتشار ظاهرة الشذوذ في مقاربة عملية القراءة، حيث كنا في سورية قبل 2011 لا نقارب الصحف الرسمية الثلاث ( تشرين، الثورة، البعث) إلاَّ من الصفحات الخلفية، كمحطة يلتقي فيها طائفة لا بأس بها من القراء كمتنفس وحيد لهم، وحتى لا نُتهم بالشذوذ في تعاملنا مع كل ما يصدره النظام من جرائد، ولئلا يصبح الدخول إلى عالم المعرفة والثقافة والعلوم حصراً من الأبواب الخلفية، لجأنا من باب إبعاد ذلك الهاجس عنا إلى الصحف الموالية للنظام كجريدتي الوطن وبلدنا، ومن ثم عرجنا إلى صحف أحزاب الجبهة الوطنية التقديمة كصحفية النور أو صوت الشعب أو قاسيون، ولكن العيون بقيت معلقة بالصحفات الأخيرة لكل ما ذُكر.
والغريب أن الأمر نفسه تكرر حتى بعد انتقالنا إلى تركيا في 2014، إذ رغم الشوق المحراق لغرف محتويات الصحف المعارضة التي كانت تصدر في تركيا، إلاّ أن شغف الإلتهام الكلي لها لم يدم طويلاً حتى هب رأينا أنفسنا ونحن لا نعاقر كما السابق صحف المعارضة إلاّ من نفس الأبواب التي كنا ندخل منها إلى صحف النظام والموالاة، وتبيّن لنا في الأخير بأن ثمّة مشكلة جوهرية في طبيعة تفكير السوريين القائمين على المؤسسات الإعلامية برمتها، وبدا ذلك جلياً عندما عارضنا إعلام النظام وبنفس الوقت قلدناه في إعلامنا المعارض، تحدثنا عن مقابح النظام وبنفس الوقت حاكينا مثالبه، رفضنا استبداده بالكلام ومن ثم مارسناه بأنفسنا في المناطق الخارجة عن سيطرته، لوّحنا بالأردية الداخلية والخارجية لفساد النظام في ساحة، وفي ساحةٍ أخرى تمرغنا بالذي كنا ندّعي القرف منه عند النظام، ولأن ثمة مشتركات جوهرية بين النظام والموالاة والمعارضة من الناحية السلوكية للكثير من القادة والأفراد في الحياة اليومية، لذا بقيت الصفحات الخلفية هي كالحديقة الخلفية للبناء المسلح الذي يقصده السكان، وغدت الأبواب الخلفية للصحف بمثابة متنفس حقيقي لكل من كان غير منتمٍ أصلاً لفيلق الشواذ؛ كما بدت معارضتنا لسلوكيات النظام أشبه بالمعارضات الشعرية (فن يمارسه الشعراء اللاحقين لإحياء تراث الشعراء السابقين) وليست معارضة مبنية على مرتكزات سياسية قائمة بذاتها ومناهضة قيمياً وفكرياً وسلوكياً لفلسفة وآلية عمل النظام.
الدُّرجُ الثاني: جمهورية المثليين
مع أننا لم نسمع بجرائم كبيرة ارتكبها المثليون بحق رفقائهم أو بحق باقي أفراد المجتمع كما يفعل المتطرفون الدينيون عادةً ـ مسلمون، مسيحيون، هندوس ـ من يوم لآخر في كل بقاع العالم، ورغم أن وجود المتطرف في المجتمع كوجود قنبلة موقوتة بين حشدٍ من الناس، حيث أنه قادر في أية لحظة على أن يتسبب بقتل العشرات من الأبرياء، مع ذلك نرى الغالبية من أبناء مجتمعاتنا تحارب اجتماعياً المثلية والمثليين أكثر من أرتال التطرف القابل للإنفجار؛ وللتخلص من إشكالية هذه العداوة الوجودية، لا بأس في البحث عن حلولٍ ترضي ميول المجتمع، بالرغم من أن تلك الميول المجتمعية في معيار العدل والحق والإنصاف متحاملة جداً على المثلية ومتسامحة أكثر من اللازم مع التطرف الديني، على كل حال فباعتبار أن الله هو واهب الحياة حسب المنظور الديني، فهذا يعني بأنه ليس من حق البشر التدخل في الشؤون الربانية وإصدار الأحكام بحق الآخرين نيابةً عنه، لذا فبما أن المثليون هم من مخلوقاته مثلهم مثلنا تماماً، وتجنباً لإصدار أي حكم ضدهم بناءً على سلطة الموروث والعادات والأعراف الاجتماعية، وبعيداً عن عقلية الصراعات التناحرية بين معشر المثليين وحشود الطبيعيين، فهنالك وسيلة مهمة لكارهي عشيرة المثليين، تفيد التخلص من تبعات وجودهم في المجتمع بكل أدبٍ واحترام، وقد تقود تلك الآلية إن تم الاعتماد عليها مبدئياً، ومن ثم الأخذ بها عملياً، إلى انقراضهم من تلقاء أنفسهم، وطبعاً بدون أن تلحق تلك الآلية راهناً الأذى أو الإهانة بأي شخص منهم، والآلية تقوم على إنشاء منطقة أو مدينة خاصة بهم ليمارسوا فيها حياتهم بشكل اعتيادي بعيداً عن سطوة المتدخلين في شؤون أجسادهم، ولكن شريطة أن يكون الذكور لوحدهم، وكذلك الأمر يكون للإناث مقاطعات خاصة بهن، وهذا حسب تصور الحياديين والرماديين واللاأدريين ليس محط اجحافٍ بحقهم، طالما أنهم اختاروا هذه الطريقة للحياة غير مكرهين، وبذلك فبعد تأمينهم في جمهورياتهم الخاصة بهم، لن يتكاثروا كباقي الكائنات، ومع مرور الزمن، ومع عدم وجود أية ولادات جديدة بينهم، فستكون الآلية كفيلة بالخلاص من تأثيراتهم المحتملة على المجتمع، والتخلص ربما كلياً من تبعات وجودهم مع تتالي السنين، وذلك بطريقةٍ حضارية باردة رغم تضمينها لشيءٍ من الخبث، ولكنها مع ذلك طريقة خالية من ممارسة أي أذى أو عنف لفظي أو بدني بحق أحدٍ منهم.
الدُّرجُ الثالث: حواضن المثليين ماضياً وحاضراً
بديهي أن العلم والمعرفة وامتلاك الحجج والبراهين تمد المرء بالقوة اللازمة للدفاع المنطقي عما يؤمن به الإنسان، ومن كل بد أن التسلح بالعلوم الدينية والدنيوية في مجتمعاتنا الشرقية يمد المرءَ بالجرأة أكثر في طرح قضيته أياً كانت تلك القضية، وهذه الجرأة بدورها تحيلنا إلى مثالٍ جدير بالاستشهاد به ألا وهو الإمام الجزائري محمد زاهد لودڤيك، الذي ابُتلي بالمثلية الجنسية كغيره، ورغم محاولاته الدؤوبة للفكاك منها، حيث لم يفلح المبتلى في مسعاه بالرغم من انخراطه في الطقوس الروحانية، الممثل بتديُّنه منذ الصغر وحفظه القرآن بأكمله وهو بعمر 17 سنة، وحيث أن الإنشغال والتفكير بالحالة التي وجد نفسه فيها، أدى به إلى تقديم أطروحة دكتوراه عن “الإسلام والمثلية الجنسية” عام 2012؛ واللافت أكثر أنه في حوارٍ معه في موقع الأيام24، بتاريخ 23/10/2016، يشير لودڤيك إلى أنه بعكس أحوال المثليين في الوقت الراهن الذين يفرون بجلودهم من الدول الإسلامية إلى الدول الأوروبية للعيش بأمان وحرية في تلك البلاد بعيداً عن الخوف من الناس وهواجس الاعتداء عليهم أو إذلالهم إجتماعياً، حيث كانت الدولة العثمانية ملاذ آمن للمثليين المسيحيين في سورية والعراق طوال فترة تلك الامبراطورية، كما كانت الدولة العثمانية آنذاك حسب لودڤيك مقصد الفارين من وجه الاضطهاد الذي كان يُمارَس بحقهم في الغرب المسيحي بسبب المثلية الجنسية.!!!
الدُّرجُ الرابع: حس المسؤولية لدى المثلي
نختتم الأدراج ببوح مثليٍّ سوري يدعى رئيف الشّلبي في اسمه المستعار، شلبي الذي بالإضافة إلى اسلوبه الشيق في طرح قضيته بلغة راقية وسلسة، لديه حس عالي بالمسؤولية تجاه الأب والأهل بوجهٍ عام؛ فالبوح والاعتراف هو من شخصٍ يحتقره معظم أفراد مجتمعنا ويشمئزون منه إن تم الحديث عنه أو عمن هم من عترته في المحافل الاجتماعية، وقد يُعامل بكامل الاحتقار عندما يمر من الشارع بالقرب ممن يعروفون شيء عن شذوذه الجنسي، ولكن كتساؤل غير بريء هل يا ترى ارتقى مئات الأصحاء من الساسة والكتاب والفنانين وربما الكثير من الناس العاديين إلى مستوى الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر لديه، إلى مستوى ذلك الاحساس المرهف لدى الشخص المثلي في الفقرة التي سنوردها أدناه، ذلك الحرصُ الذي دفعه لعدم ذكر اسمه واسم عائلته ليس احتقاراً لذاته، ولا كرهاً بما يعانيه، ولا خشية على نفسه، ولا تهرباً من النطق بحقيقة ما هو عليه، إنما فقط لئلا يُحطّم نفسية ومعنويات والده أمام الناس والمجتمع؛ ومن باب المقارنة فهل ثمة سياسي قُبيل إصداره قراراً ما قد يضر مئات الأشخاص فكّر بتبعات قراره مثلما فعل هذا الشخص المثلي تجاه والده فحسب وليس تجاه المجتمع ككل؟ وهل من شيخٍ وقبيل إصداره فتوىً تهدر دماء الغير أو تستبيح ممتلكاتهم وأعراضهم فكر بما قد يحدثه بفتواه الدموية والفساد المتوقع حدوثه من وراء تلك الفتوى التي أطلقها بدون أي تفكير بعواقبها؟ عموماً لم تكن التساؤلات من قبلنا إلاّ لكي تلجأ أيها القارئ العزيز إلى المقارنة وذلك بعد قراءة بوح المثلي، وإليكم اعتراف الشخص الحقيقي والوهمي في آن، وحيث يقول رئيف: “أعترف أن اسمي ليس رئيف واسم عائلتي ليس شلبي، ولكن لي أباً يرى العالم في ضوء عيوني، بات اليوم على مشارف الثمانين، كنتُ كلما أتذكره أثناء الكتابة أشعر بأنياب ومخالب تخرج من الطاولة والكرسي وتنغرس في قلبي وأحشائي، لن أكسر قلب والدي الذي أفنى عمره من أجل سعادتي، لن أخبره بحقيقتي وأجازف بصحته ومحبته واعتزازه بي، سأبكي عليه يوم يموت بحرقة مضاعفة، حرقة خسارته وحرقة جهله الطويل بأهم قصة في حياتي، لكني لن أجازف وأراه مكسوراً مصعوقاً حزيناً أو ظالماً قاسياً غضوباً، معه ومن أجله فقط، سأتعايش مع ذلك المزيج الغريب من التورية والكذب الذي أطلق عليه العرب قديماً كلمة “تقية”، أما بعده ومع سواه، فلا بديل لي عن الحقيقة، لا بديل لنا جميعا”.
في ختام الدروج الأربعة وبعد عروجنا إلى منشطات الشذوذ في الصحافة المحلية في بلدنا، وبعد الحل الأفلطوني المفترض لمعشر المثليين في مفازاتهم الخاصة، يبقى ثمة فارق جوهري بين محمد زاهد لودڤيك صاحب أطروحة الدكتوراه، وبين حالة رئيف الشّلبي، الذي كتب مادة طويلة بعنوان أنا “الشاذ” نشرت في 15 تشرين الثاني 2018 بموقع الجمهورية، والذي ما يزال يخاف من كشف هويته بالرغم من مرور ثماني سنوات على الثورة السورية، مع العلم أن الثورات عادة ما تجرف أمامها الكثير من تراكمات الماضي، ولكن يظهر بأن الثورة السورية حتى هذه اللحظة اكتفت بتقديم الضحايا وتدمير البنية العمرانية للبلد، ولم تصل ضرباتها حتى الآن إلى البنية الجوفية للمجتمع، لذا ما يزال الرجل يخشى من أن يكون لإعلانه عما يشكو منه وقع كارثي على والده بالدرجة الأولى ومن بعده العائلة وربما المحيط الاجتماعي كله، هذا إن أفشى بسر جسده، بينما لودڤيك لا يشعر بالحصار المجتمعي له، كما لم تضيّق اسرته الخناق عليه، وغدا مقبولاً منهم خاصةً بعد أن فاتَح والده بمشكلته، وتفهّم الأب حالته، حيث كان والده معه خطوة بخطوة في محاولاته للتخلص من مشكلته بدون أي ضغط أو إكراه أو استحقار للولد، وقَبِل الأبُ برحابة صدر حقيقة ولده كما هي، بل ودعا كل أفراد عائلته ليتقبلوا حال الولد كما هو، لا كما يريدون له رغماً عنه أن يكون على غرار حالة رئيف مع مجتمعه السوري.