ماجد ع محمد
من كل بد أن العنصرية ليست مقتصرة على من آمنوا بنظرية التفوق العرقي لدى هتلر مِن الألمان، ولا هي مقتصرة على من يؤمنون بديباجة “شعب الله المختار” من أتباع الديانة اليهودية، وهي على كل حال قديمة قِدم الإنسان والحضارات البشرية، أما عن العنصرية كمفهوم، فيورد السيد محمد عاشور في كتابه (التفرقة العنصرية) 18 تعريفاً لها، وقد ذكر في التعريف الأوّل منه بأن العنصرية هي “نوع من الاستعلاء النابع من شعور فئة بأنها عنصر سيّد، ثم ترجمة هذا الشعور إلى واقع سياسي واجتماعي واقتصادي” وهو على ما يبدو ما يتم ترجمته واقعياً في الوقت الراهن من قِبل بعض مواطني كل من لبنان وتركيا تجاه اللاجئين السوريين.
وبخصوص الاستعلاء والفوقية والتمييز على أساس الهوية أو اللون، ثمة ورقة بحثية مهمة قدمتها الجامعة البهائية العالمية لمؤتمر دربان (جنوب أفريقيا) عن العنصرية والتمييز العنصري، ونشرت الورقة على الانترنت في عام 2009 وجاء فيها “أن التفرقة العنصرية لا تنبع من البشرة بل من العقل البشري، وبالتالي فإن الحل للتمييز العنصري والنفور من الآخر وسائر مظاهر عدم المساواة ينبغي، أولاً وقبل كل شيء، أن يعالج الأوهام العقلية التي أفرزت مفاهيم زائفة، على مر آلاف السنين، عن تفوق جنس على آخر من الأجناس البشرية”، والمفارقة الغريبة بشأن التمييز العنصري على أساس اللون واسطورة التفوق العرقي والنفور من البشرة السمراء أو السوداء، ذكر إدواردو غاليانو في كتابه مرايا بأن “العنصرية تنتج فقدان ذاكرة، وذلك في رفض البشر جميعاً ما يتعلق بحقيقة أصلهم الافريقي، وحيث من أفريقيا بدأت الرحلة البشرية في العالم، ومن هناك بدأ أبوانا آدم وحواء غزو كوكب الأرض”.
والعنصري لا شك سيرفض نظرية غاليانو جملةً وتفصيلا، وذلك لأن الماضي المشترك ذاك يجعله بسوية من يرى نفسه أعظم قدراً منهم، بل ويبدو أن المعجب بذاته لحدود الشعور بتفضيله على معظم باقي الأقوام من البشر، والمنبهر بأناه القومية أو الوطنية أو الدينية إلى حالة الهوس إعجاباً بمخيال الفوقية، ففي حمأة التبجح والنرجسية العرقية ينسى تركيبته الجرثومية (العَلقية) وحيث ورد في سورة العلق من القرآن الكريم ” خلق الإنسان من علق” أي من علقة، أي مجرد قطعة دم غليظة، وهي نطفة أشبه بدودة صغيرة أو جرثومة، وعمن ينسى بسهولة ذلك الماضي العلقي الجرثومي لمجرد أن يغدو صاحب مال أو سلطان، ورد في نفس السورة ” كلا إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى” أي أن بعض البشر سرعان ما ينسون تركيبتهم ومما تكونوا وجُبلوا، وذلك لمجرد أن يعظم شأنهم وترتفع مكانتهم الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية أو السياسية، وحيث ينتابهم الشعور وقتها بأنهم صاروا بغنى عن الآخرين.
وعن المناخ والتربية العنصرية يقال بأن الأطفال الذين يتعاملون مع نظرائهم بطريقة عنصرية فظة هم في الأغلب، ممن تشربوا العنصرية في بيئاتهم الاجتماعية المحلية، وهو لدليل على أن العنصرية محيطة بهم بدايةً من منبتهم الأسري، لذا تراهم يحاكون سلوك وممارسات ذويهم، ويضعون ربما لاشعورياً حوافرهم على حوافر ملقنيهم، أي أنه سلوك مُكتسب من البيت الذي ترعرعوا فيه، وقد بيّنت الدراسات “أن السلوك العنصري المكتسب لدى الأطفال في سن الثالثة إنما هو فقط البداية لما سوف تكون عليه شخصية الطفل فيما بعد، فمنذ سن الثالثة يبدأ الطفل في صقل مفهوم العنصرية في شخصيته، حتى تمام العاشرة، حينها تصبح صفة في شخصيته لا يمكن تغييرها”، ومن كل بد أن ما من دولة تطبع كتب خاصة تحث محتواها الأطفال على التعبئة العنصرية، أو التربية العنصرية على غرار كتب مناهجنا الدراسة بسوريا التي كانت تحمل عناوين مثل: التربية الموسيقية والتربية الدينية والتربية القومية… الخ، إلا أن ثمة مناهل معيّنة يغرف منها الطفل علومه العنصرية سواء أكان عن وعي أم لا، والتربية العنصرية عملياً تتم عبر مشربين رئيسيين أحدهم: ما يتلقفه الطفل من أهله في البيت من تلميحات أو إشارات تتراكم مع الأيام والتي عادةً ما تكون عبارة عن شذرات من العنصرية اللامباشرة، والتي تتجمع كمياه السواقي مع الزمن وتصبح مادة جاهزة مركونة في قاع الطفل، والمشرب الآخر هو المدرسة التي تربي الأطفال على العنصرية ليس من خلال الزرع المباشر لكراهية الآخر، إنما من خلال الإعلاء المبالغ فيه من شأن العرق أو القومية التي ينتمي إليها الطفل، وهذه النرجسية القومية هي واحدة من أهم العتبات التأسيسية من عتبات تربيةٍ عنصريةٍ غير مباشرة.
وبديهي أن تداخل التقريظ الزائد للأنا القومية في البيت والمدرسة ينتج عنه ثقافة عنصرية حتى ولو لم يكن المصابُ يعي تماماً بأنه شخص عنصري بامتياز، وكأمثلة واقعية على ذلك فقد علمتُ من ذوي أطفال بعض من نعرفهم من السوريين في مدينة اسطنبول، أن أولادهم يطالبونهم بعدم المجيء إلى المدارس، لعله آلية من آليات الاحتراس لدى الطفل، وذلك لئلا يعرف زملاؤهم التلاميذ من الأتراك بأنهم سوريون، وبدوري سألت بعض النسوة بهذا الخصوص قائلاً: وأين المشكلة إن عرف التلاميذ بأن الطفل الذي يدرس معهم سوري؟ فقالت إحداهن: يظهر أن زيارة ذوي الأطفال من السوريين للمدارس لها تبعات سلبية على الطفل، وتؤثر في علاقته بمحيطه، وأردفت قائلة: إن طفلي أكثر من مرة قال لي لا تدخلي إلى المدرسة، وقفي بعيداً أمام الباب الخارجي للمدرسة، وسأأتي أنا إليكِ إن لمحتك من بعيد! وذلك لأن طفلها أخبرها من قبل بأن أقرانه في الصف منذ أن عرفوا بأن ثمة زميل لهم سوري، فقاموا بمقاطعته بالجملة ولم يعد أحد يرغب بمحادثته أو اللعب معه ولا أحد يتقرب منه أو يتسامر معه، وفوقها ينادونه في النازلة والطالعة بالسوري وكأنه نكرة؛ وهذه النظرة الفوقية والاستعلائية تجاه اللاجئ السوري لا شك لم تأتي من فراغ، ومن كل بد ليس هناك كتاب في المنهاج المدرسي يحضهم على التفرقة العنصرية وممارستها، ولكن من المؤكد أن ما يتلقفونه في المنزل، وفي الشارع، إضافة إلى ثقافة تمجيد الذات القومية في المدرسة جعلت الأطفال يقاربون قاموس العنصرية ويتداولونه عملياً من دون درايتهم بأضراره.
على كل حال صحيحٌ أن شعوب ودول آسيا وأفريقيا استعانت بالكثير من النظريات الغربية، كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، واستفادت من التنظيرات القومية والدينية والاممية، واستلهمت فحوى عشرات النظريات الاقتصادية والعلمية والفكرية والثقافية، ولكن العنصرية الممارساتية على أرض الواقع في بلد ما كـ: لبنان أو تركيا أو أي بقعة مشرقية أخرى هي منتوج محلي صرف، ولا شأن للغرب بها، باعتبار أن ذلك المنتج يتم لملمة محتوياته من البيئة المحلية، ومن ثم يُطبخ محلياً بالتوازي في البيت والشارع ومؤسسات الدولة، ويتم إيداع المواد الأولية لذلك المنتج على مراحل طويلة في معمار الطفل، حيث يتم وضع المنتج كالقواعد والشيناجات والأعمدة في أسفل بنيان البرعم الذي يفرزها سلوكياً لاحقاً عندما يصل لمرحلة الإيناع والبلوغ، وذلك بناءً على كل ما تشرّبه في السابق من المناهل التي ذُكرت أعلاه.