د. ولات ح محمد
في لقاء مع الصحافيين يوم الاثنين الماضي وجه أردوغان كلامه إلى دول حلف الشمال الأطلسي (الناتو) معاتباً: “هل ستقفون إلى جانب حليفكم في الناتو أم إلى جانب الإرهابيين؟ بالطبع لا يستطيعون الإجابة”. أما اليوم الأربعاء فقد تساءل باستغراب أمام البرلمان التركي “متى كان حزب العمال الكوردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي أعضاء في الناتو؟ لا أعلم ذلك”، واعترف بأن “تركيا تمر الآن بفترة صعبة وفترة حرجة نوعاً ما”. هكذا عبر أردوغان عن المأزق الذي أوقع نفسه ودولته وشعبه فيه بسياساته المتهورة وحساباته الخاطئة وبإصراره على دخول الشمال السوري تحت حجج يعلم حلفاؤه وأصدقاؤه جيداً أنها واهية ومفترضة وأنهاغطاء لطموحاته التوسعية.
بعد أن سحب ترامب عدداً من جنوده من المناطق الحدودية ظن أردوغان أنه سيكون قادراً على تكرار سيناريو عفرين بسهولة؛ إذ اعتقد أن أمريكا قد خرجت وأن روسيا ستواصل سكوتها (خصوصاً أن الروس وعلى مدى شهور أيدوا حقه في الحفاظ على أمنه القومي)، وبالتالي ظن أن الطريق ستكون ممهدة أمامه لاجتياح كل الشمال السوري وهو ما هدد به وذكره مراراً بأنه سيواصل تقدمه حتى الحدود العراقية.
فجأة وخارج حساباته تلقى أردوغان طعجة قوية بإعلان ق س د اتفاقاً مع الروس يقضي بانتشار الجيش السوري على الحدود مع تركيا. هذا التفاهم الذي وصفه أردوغان بـ”الصفقة القذرة” كان صفعة له وخلطاً لأوراقه وخططه وقد أدخله في وضع ميداني صعب؛ فلا هو قادر على التقدم لأنه سيصطدم بالجيش الروسي (وهو الذي توسل قبل عامين لبوتين كي يسامحه على إسقاط طائرة واحدة)، ولا هو قادر على التراجع وإنهاء العملية، لأنه بذلك سيقضي على مستقبله السياسي الذي رهنه بهذه العملية، كما أنه سيبدو ضعيفاً ومهزوزاً وارتجالياً في عين جمهوره.
الطعجة الثانية تلقاها أردوغان من خلال التنديد الدولي الواسع لعمليته العسكرية ومطالبته بإيقاف العملية والانسحاب من سوريا فوراً، وهو ما لم يكن في حسبانه البتة وجعله في وضع دبلوماسي صعب، لأنه بات عليه تحدي كل العالم، وهو أمر مستحيل بالنسبة إليه. أردوغان المطعوج من كل الأطراف أوروبياً وأمريكياً وعربياً ما عدا قطر بات ـ نتيجة لهذا الاتفاق المفاجئ ـ مثل الدائخ الذي يلتف حول نفسه وهو لا يعلم من أين أتته الضربة ولا ماذا عليه أن يفعل، فراح يتهجم على أوروبا وعلى أمريكا ويتهمهما بدعم الإرهاب. أما في الداخل فصار يلقي القبض على كل صوت يعترض على عمليته الإجرامية حتى وإن كان عبر منشور فيسبوكي.
بيان وزراء الخارجية العرب الذي سمى عملية أردوغان العسكرية بـ”العدوان” كان الطعجة الثالثة له. وقد طالبه البيان بالانسحاب الفوري وهدده بفرض عقوبات، فراح يتهم الجامعة العربية بأنها فقدت شرعيتها وأنها لا تمثل العرب. الطعجة الأخيرة كانت اليوم بإعلان قوات سوريا الديمقراطية الاستيلاء على عربة للجيش التركي (وليست للميليشيات) في حالة سليمة ومرسوم عليها العلم التركي، ما يعني أن تلك القوات قامت بعملية استيلاء على العربة وأن جنود أردوغان تركوها في أرضها ولاذوا بالفرار.
أردوغان المطعوج الدائخ المتخبط أعلن أمس أنه لن يقابل الوفد الأمريكي (نائب الرئيس ووزير الخارجية) فعاد الناطق باسمه اليوم وأعلن أن أردوغان سيقابل الوفد غداً. المطعوج يشن منذ صباح اليوم هجوماً عنيفاً على رأس العين أملاً (قبل مقابلة الوفد الأمريكي) في تغيير المعادلة التي أظهرت فشله حتى الآن وضعف حيلته أمام مقاومة أسطورية من طرف مقاتلي ق س د فاضطر على إثرها لاستدعاء تعزيزات أخرى لقواته ومرتزقته، على الرغم من ميزة الطيران التي يتفوق بها على القوات المدافعة.
قبل نحو عام نشرت مقالاً بعنوان “ورطة أردوغان .. هل من مخرج؟” تحدثت فيه عن تفاصيل ورطة أردوغان التي أوقع نفسه فيها نتيجة سياساته العدائية للكورد حيناً والانتهازية والترقيعية حيناً آخر وسردت فيه بالتفصيل كل خياراته التي رأيت آنذاك أنها جميعاً خاسرة بالنسبة إليه. الآن بمغامرة دخوله الأراضي السورية وضع أردوغان نفسه وجيشه وحكومته تماماً في قلب تلك الورطة التي أشرت إليها آنفاً وكأنها تتويج لكل ممارساته وأخطائه وتخبطاته خلال السنوات الماضية.
أردوغان لم يكن ليكتفي بتل أبيض ورأس العين (التي لم يتمكن منها حتى الآن)، بل كان سيواصل احتلاله وعدوانه (كما أعلن مراراً) حتى الحدود العراقية، أي إلى معبر سيمالكا. كوردياً هذا يعني أمرين: الأول أن أردوغان وميليشياته سيحولون تلك المدن والقرى إلى ساحات حرب ويرتكبوا فيها إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً وتغييراً ديمغرافياً، تلك الأهداف التي ذهبوا من أجلها أساساً إلى هناك. أما الثاني فهو أن أردوغان بوصوله إلى تلك البقعة كان سيطبق حصاراً على إقليم كوردستان لخنقه وزعزعة استقراره للتخلص من “الصداع” الكوردي إلى الأبد ولتلقين “كورده” درساً كي لا يفكروا بشيء من هذا القبيل يوماً ما.
أمام هذه اللحظة المصيرية (تكون أو لا تكون) وفي ظل الفارق الكبير في الإمكانات العسكرية بين الطرفين وبعد الانسحاب الترامبي العلني والواضح لم يكن أمام القائمين على إدارة شؤون الناس هناك سوى القيام بخطوة استباقية عاجلة للحفاظ على أرواح الناس ومنع حدوث كارثة جديدة، خصوصاً أن الأيام الأولى للعدوان أظهرت أن الموقف الدولي سيقتصر على الإدانات والمطالبات بالانسحاب، وأن الموقف الدولي الجاد المانع لعدوان أردوغان إذا جاء فقد يأتي متأخراً بعد أن يكون سلطان زمانه قد حقق مآربه وابتلع المنطقة وشرد أهلها ووقعت الكارثة، بحيث يصبح من المستحيل إعادة الأمور إلى مجاريها الطبيعية من جديد. من هنا يمكن اعتبار ما حصل خطوة صحيحة في زمانها المناسب، بل يمكن القول إنها أفضل ما كان يمكن فعله في تلك الظروف.
يرتكب خطأ كبيراً من يظن أن اتفاق ق س د مع الروس قد تم من دون موافقة أمريكية. مازال في حوزة تلك القوات كميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية، ومازالت العلاقة بينهما قائمة ولا يمكن للروس أن يتولوا رعاية تلك القوات بدون تنسيق مع الأمريكان. أكثر من ذلك قد تشكل تلك القوات نقطة التواصل والالتقاء والتوافق بين واشنطن وموسكو في المسألة السورية مستقبلاً، على الأقل في ظل الإدارة الأمريكية الحالية. كل ما تم ويتم الآن يحصل برضى أمريكي وبتنسيق روسي أمريكي تام. ذلك هو الأمر الذي انطلى على أردوغان فأوقع نفسه في الفخ الذي سيقدم للخروج منه الكثير من التنازلات في الأيام والأسابيع القادمة أو سيذهب إلى المزيد من التورط إذا اختار العناد والمكابرة والصوت العالي.
في الأيام الأولى للعدوان نشرت مقالاً بعنوان (ترامب السكران والمريض أردوغان) قلت فيه إن “أردوغان سيكتشف قريباً أنه قد ارتكب بفعلته هذه خطأ لم يرتكبه في كل حياته السياسية، وأن الكحل الذي أراد أن يجمّل به عيونه قد أعماها إلى الأبد. (…) سقط أردوغان أو أسقط نفسه من حيث لا يدري أو أسقطه ترامب من حيث يقصد أو لا يقصد. (…) أردوغان سيعض أصابعه حتى القطع ندماً على خطيئته الكبرى”.
لو لم تنتج تفاهمات ق س د مع الروس شيئاً سوى حماية أرواح الناس وبقائهم في بيوتهم سالمين آمنين وحفظ كراماتهم ومنع التغيير الديمغرافي للمنطقة والحفاظ على المدن من الدمار ومنع دخول العصابات إليها وعدم تكرار جريمة عفرين المستمرة حتى الآن لكان ذلك كافياً، لأن ذلك هو الأهم الآن في مثل هذه الظروف، ولأن كارثة كتلك لو وقعت لا قدر الله فإن المقالات القوية والبيانات النارية والشتائم الموجهة لأردوغان وتحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك، كل ذلك لن يعيد لأبناء المنطقة أرواحهم وأعزاءهم وبيوتهم وكراماتهم ولن يعيد للمنطقة أمنها وسلامتها أبداً وسيضيع الجميع وسينتهي كل شيء. وقد يقول أحدهم حينذاك، بل سيقول: … ولماذا لم تستدعوا قوات للنظام إذاً؟.