د. ولات ح محمد
“لم نمنح أنقرة الضوء الأخضر للهجوم على الكورد” عبارة كررها كل مسؤولي الإدارة الأمريكية وفي مقدمتهم رئيسهم دونالد ترامب نفسه. وهذا ما شجع بقية العالم على التنديد بالعدوان التركي. ولكن في المقابل تحدثت وسائل الإعلام وتحدثت أوساط كثيرة عن ضوء أخضر منحه ترامب لأردوغان يسمح له بدخول المنطقة. فهل حقاً حصل أردوغان على ذلك الضوء؟. سُربت أمس إلى الصحافة العالمية رسالة كان ترامب قد بعثها إلى أردوغان في اليوم الأول لبدء الهجوم التركي في 9/10/2019 على تل أبيض ورأس العين وباقي المدن الكوردية. البيت الأبيض أكد لوكالات الأنباء صحة الرسالة، وهذا نصها كاملاً:
“عزيزي سيادة الرئيس:
دعنا نتوصل إلى اتفاق جيد. أنت لا تريد أن تكون مسؤولاً عن قتل الآلاف من الناس، وأنا لا أريد أن أكون مسؤولاً عن تدمير الاقتصاد التركي.. وسأفعل ذلك. لقد أظهرت لك عينة صغيرة بالفعل فيما يتعلق بمشكلة القس روبنسون.
لقد عملت بجد لحل بعض مشاكلك. لا تخذل العالم. يمكن إبرام اتفاق رائع. الجنرال مظلوم مستعد للتفاوض معك وهو على استعداد لتقديم تنازلات لم يقدموها من قبل. لقد أرفقت بسرية نسخة من خطابه لي الذي تلقيته للتو.
سينظر إليك التاريخ بشكل إيجابي إذا قمت بذلك بطريقة إنسانية (…) وسوف ينظر إليك إلى الأبد كشيطان إذا لم تحدث الأمور الجيدة. لا تكن رجلاً متصلباً، لا تكن أحمق..
سأتصل بك لاحقاً”.
لغة الرسالة وتوقيتها وكذلك النقاط الواردة فيها تظهر بوضوح أنه ليس هناك ضوء أخضر منحه ترامب المزاجي والمتهور والسكران لأردوغان المغامر والحاقد والمتخلف. ويمكن أن نتلمس ذلك في نقاط عدة من الرسالة نفسها:
1ـ من الواضح أن الرسالة تعبر عن استخفاف ترامب بشخص أردوغان من خلال عبارات مثل إشارته إلى أنه عاقبه في قضية القس روبنسون وأنه قادر على فعل أكثر من ذلك، ومثل قوله “سينظر إليك التاريخ كشيطان” وقوله “لا تكن أحمق”. مثل هذه العبارات لا يمكن لرئيس أن يخاطب به رئيساً يحترمه. ترامب خاطب أردوغان بهذه الطريقة لإشعاره بأنه غاضب من عناده وإصراره على القتال ولإشعاره بأنه أصغر من أن يتصرف كمتمرد كما يشاء وأنه إن فعل فسيعاقب. وهذا دليل على أن ترامب مارس ضغوطاً على أردوغان لحمله على التراجع، وليس دليلاً على منحه ضوءاً أخضر. أضف إلى ذلك أن من يرى أردوغان بهذه الصورة المهينة والصغيرة لا يمكن أن يمنحه “مكافأة” الضوء الأخضر لغزو حلفائه الذين لطالما عمل معهم وكال لهم المديح.
2ـ يعرض ترامب على أردوغان أن يتوصلا إلى اتفاق جيد: أن لا يقتل أردوغان الناس مقابل ألا يقوم هو بتدمير الاقتصاد التركي. وهذا يعني أمرين: الأول أن ترامب حتى اللحظة الأخيرة كان يطالب أردوغان بألا يخوض مغامرته العسكرية تلك وكان يعرض عليه حلولاً وكان يهدده بتدمير اقتصاده إذا تمادى في عمليته العسكرية، ويذكّره بأن ما فعله باقتصاده في قضية القس روبنسون هو شيء بسيط مقابل ما يمكن أن يفعله به لو ارتكب جرائم بحق الناس. الأمر الثاني أن كلام ترامب خال من السياسة، ويركز فقط على الجانب الإنساني”لا تريد أن تكون مسؤولاً عن قتل الآلاف من الناس”. وهذا تحذير لأردوغان من ارتكاب جرائم حرب قد تتم مساءلته عنها.
هذا التهديد الواضح يبين أن ترامب لم يمنح أردوغان ضوءاً أخضر ـ كما يشاع ـ لغزو الشمال السوري وقتل الكورد كما يشاء؛ فالضوء الأخضر في العموم يعني أن طرفاً ما يقول لطرف آخر: اذهب، هي لك، افعل ما تشاء وكما تشاء. الرسالة تعبر عن عكس ذلك تماماً، إضافة إلى أن تصريحات ترامب منذ اليوم الأول تدور في هذا الفلك نفسه.
3ـ يشجع ترامب أردوغان على توقيع اتفاق “رائع” مع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، ويقول إنه اتصل بذلك القائد الذي أبدى استعداه الآن لتقديم تنازلات لم يقدموها من قبل. وهذا يعني أن ترامب كان يفاوض السيد عبدي من أجل الوصول إلى حل وسط وأنه حصل منه على تنازلات وأرسل جواب السيد عبدي مرفقاً بالرسالة إلى أردوغان ويدعوه إلى قبوله. وهذا يعني بدوره أن المفاوضات والمشاورات بين ترامب وقيادة قسد كانت قائمة ومستمرة وأن قسد قدمت بالفعل تنازلات لتفادي المواجهة العسكرية وأن أردوغان لم يقبل بها وأصر على خوض مغامرته. وهذا يؤكد مرة أخرى أن ترامب لم يمنح أردوغان الضوء الأخضر لغزو روجآفا.
4ـ يستخدم ترامب في رسالته سياسة العصا والجزرة مع أردوغان؛ فهو من جهة يقدم له حلولاً توصّل إليها مع قيادة قسد من أجل احتواء الأزمة سلمياً، ومن جهة ثانية يهدده بتدمير اقتصاده إذا تجاوز الحدود. وما دام أردوغان هو الذي رفض مقترحات ترامب وحلوله فمن الطبيعي معاقبته لا مكافأته بإعطائه “ضوءاً أخضر”.
إذا كان الأمر كذلك فما الذي حصل إذاً، وكيف تمكن أردوغان من انتزاع موافقة ترامب أو عدم ممانعته للقيام بعدوانه السافر البغيض؟. ما حصل من وجهة نظري هو الآتي: ترامب كان قد وعد ناخبيه قبل ثلاث سنوات بأنه سيسحب جنوده من مناطق الصراع والحروب. أردوغان استغل ذلك قبل عام ولعب على هذا الوتر ومارس ضغوطه على ترامب حتى دفعه إلى الإعلان في 18/12/2018 عن سحب قواته من شرق الفرات.
هبّ فريق ترامب آنذاك في وجه القرار ودفعوه إلى التراجع عنه بطريقة أو بأخرى أو تجميده لأنه كان ضد المصالح الأمريكية. لم يقطع أردوغان الأمل وظل يلح على ترامب في لقاءاته به وفي اتصالاته، حتى حدثت هذه المرة ثلاثة أشياء اجتمعت ودفعت ترامب لاتخاذ قراراً حاسماً بالانسحاب: الأول، هو أن المسافة الزمنية في المرة الماضية بين قرار الانسحاب وبين الانتخابات الأمريكية كانت طويلة وكان بإمكان ترامب تأجيل الانسحاب تحت الضغوط مؤقتاً. أما هذه المرة فلو أنه رفض الانسحاب (وقد صار حديث الإعلام) لأرسل رسالة إلى ناخبيه بأنه لن يسحب جنوده ـ كما وعد ـ وأنه قد يعرض حياتهم للخطر. وهذا غير ممكن بالنسبة إليه وقد أصبحت الانتخابات على الأبواب الأمريكية. لولا ضغوط أردوغان لربما استطاع أن يؤجل قرار الانسحاب بضعة أسابيع أخرى أو شهوراً قليلة ولكنه كان سيتخذ القرار في كل الأحوال، بغض النظر عن حجم القوة التي سيحتفظ بها والتي قد يعود ويزيد من تعدادها فيما بعد، ولكن بعد الانتخابات.
الأمر الثاني أن أردوغان لعب على الناحية النفسية لترامب مستغلاً غروره وعجرفته حين قال له قبل ثلاثة أسابيع تقريباً: إن المحيطين بك لم ينفذوا قرارك السابق بالانسحاب من سوريا. هذه العبارة ربما أثارت حفيظة ترامب ودفعته إلى إعلان قرار الانسحاب من خلال مكالمة تلفونية فقط ودون التشاور مع أحد ليثبت للجميع أنه صاحب الكلمة العليا وأن قراره يجب أن ينفذ، ودون أن يلتفت هذه المرة إلى كل الاعتراضات من كل فريقه ومن كل الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء.
الأمر الثالث والعاجل الذي دفع ترامب لاتخاذ قرار الانسحاب هو أنه أدرك أن أردوغان مصر على تصدير أزمته الداخلية للخارج لتحقيق “انتصار” وهمي يرضي به جمهوره، وأنه لن يتراجع مهما كان الثمن. وهنا كان أمام ترامب أحد خيارين: إما أن يصطدم مع الجيش التركي الشريك والحليف في الناتو (وهذا مستحيل) وإما أن يسحب جنوده من مناطق الاشتباك كي لا يتعرضوا لخطر قذيفة طائشة أو خاطئة أو متعمدة فيخسر نفسه وجمهوره، فقرر الانسحاب إلى الخلف.
من خلال هذه الرسالة يبدو أن ترامب لم يمنح أردوغان الضوء الأخضر ولكن الظروف والمعطيات والحسابات الداخلية والانتخابية وعناد أردوغان وعدم إمكانية الاصطدام بالجيش التركي فرض عليه سحب جنوده فأرسل تلك الرسالة التهديدية لأردوغان للتخفيف من آثار عدوانه. ولهذا أيضاً هدد أمس وحذر أردوغان من التعنت في مباحثاته مع الوفد الأمريكي اليوم في أنقرة قائلاً: إذا فشل الوفد الأمريكي في مباحثاته في أنقرة سأدمر الاقتصاد التركي. ذلك اللقاء الذي لا أتوقع أن أردوغان سيبدي أية مرونة فيه وبالتالي سيعرض نفسه ونظامه لعقوبات قاسية.
أي رئيس أمريكي (طبيعي) يستطيع منع أردوغان من ارتكاب هكذا جريمة حتى لو لم يكن في سوريا جندي أمريكي واحد. ولكن ترامب الغريب في مواقفه وقراراته الضعيف في أدائه الرئاسي والذي ابتلي به العالم لم يستطع أو لم يحاول أو لم يعرف منع العدوان على روجآفا، ولكنه أيضاً لم يمنح الضوء الأخضر كما أراد أردوغان أن يوحي للعالم بذلك لتنفيذ عدوانه؛ فلو كان هناك ضوء أخضر لكانت المصيبة أكبر. أما تسريب الرسالة فهو مقصود لإهانة أردوغان وكسره وفضحه أمام العالم وتبرئة الذات من هذه الجريمة كما أرى.