ماجد ع محمد
تذكر المرويات بأن بعض رواد الفلسفة في بلاد الاغريق ممن كان هاجسهم الأوّل والأخير إيقاظ الرعية من سباتها، باشروا بمهماتهم التنويرية كمنقذين جوّالين يجوبون الشوارع والميادين العامة، كما تفعل بعض الحركات الجماهيرية في الوقت الراهن لأهداف تنظيمية صرفة، وحيث أن رافعي شعلة التنوير آنذاك بدؤوا العمل على تنوير العقول البشرية مجاناً، بدون غاية شخصية أوعشائرية أو دينية أو حزبية، وذلك من خلال حقن أدمغة العامة بالأسئلة الكفيلة بالتفاعل مع مرور الوقت، ومن ثم البدء بالتفجير التلقائي، التفجير الإشراقاتي الداخلي الذي لا يهدّد حياة أحد من البشر، إنما وظيفته كانت محصورة في إطار بث فلاشات الوعي في أروقة الفرد ومدار الجماعات، بغرض تحرير عقول أصحابها وليس من أجل استثمارها أو جعل الحشود الجماهيرية مطية للوصول إلى أهداف على الأغلب تناهض أماني الجمهور.
وبديهي أن يُنظر إلى السياسي المقامر بحيوات الجماهير ككائن أسوأ وأخطر من التاجر، باعتبار أن التاجر الحقيقي الذي لديه مشاريع كبيرة، فعدا عن أرباحه الشخصية يُشغله أمر آلاف العوائل التي تعيش من وراء مؤسساته التجارية، لذا يهمه جداً أن لا يخسر، لأن تفكيره لم يعد محصوراً بنفسه، إنما تراه مشغول بمصير مئات العوائل المرتبطة بمشاريعه، بينما الذي كان كحمّال جنتة أو مهرّب عبر الحدود، لا مشكلة لديه إن هُدمت منطقة ما بأكملها أو بُنيت، لأنه لن يخسر شيء، فلا أراضي، ولا عقارات، ولا أموال غير منقولة لديه، ولا عائلات أو أقارب وعلاقات اجتماعية تربطه بالمكان، فهو في النهاية غير متجذّر، وغير متعلّق بالأرض، وسيحمل حقيبته ويمضي إلى مكانٍ آخر يعرض بضاعته فيه، وبرأيي أن عشرات الآلاف من شعوب المنطقة والكرد على وجه الخصوص، باتوا يرون بأن السياسي الذي يشبه المهرّب أو حمال الجنتة الجوّال، يبقى آخر همٍ لديه إن تعمرت المنطقة التي كان يبيع أوهامه وشعاراته السياسية فيها أو تدمرت.
ورغم بُغضي كفرد من المجتمع لألاعيب وأحابيل الساسة بوجه عام، فلا أنكر بأني على المستوى الشخصي في الحياة اليومية عادةً ما أتحاشى التعامل مع التجار كذلك، ولكني أقر بأنهم ربما كانوا أكثر صدقاً مع الذات والآخرين من الكثير من السياسيين في بلادنا، ونرى بأن الحزب الذي يتجاهل الجرد السنوي هو دون مستوى أردأ تاجر وهو أشبه بعصابة وليس بحزب، لأنه معروف أن أصغر صاحب معمل أو مؤسسة إنتاجية صناعية أو تجارية أو زراعية في نهاية كل عام يقوم بجرد الحسابات لتبيان الربح من الخسارة على مدار السنة التي فاتت، ويضع الخطط للعام الذي سيأتي؛ بينما ثمة أحزاب سياسية ومن عشرات السنين تخسر، وتتقهقر، وتتسبب بدمار المجتمع مالياً أو بشرياً، ومع ذلك ولا مرة قامت بما يقوم به ذلك التاجر، وهو ما يعني بأنه إما أن قادة الحزب لا يعنيهم موضوع الربح والخسارة بما أنه عادة ما يكون الناتج على حساب الجمهور المضحوك عليه ببضعة شعارات ضبابية لا بيان صدقٍ فيها، وإما أن جمهور ذلك تنظيم مجرد سرب مؤدلج وآخر ما يخطر على باله هو أن يسأل أو يشك بمن يسوقه ويعرف إلى أين هو مساق، أو أن يُدرك ما هو مشروع الحزب وخططه، هذا إن كان للحزب أصلاً مشروع آني أو مستقبلي.
وبخصوص المفاضلة بين التاجر والسياسي فمعلوم على مستوى العالم انتشار مئات النصب التذكارية للكتاب والفنانين والعلماء والمفكرين والزعماء السياسيين، وغيرهم ممن أفادوا العالم ككل أو قدّموا أشياء عظيمة لمجتمعاتهم، ودأبت العادة لدى بعض الشعوب في أن يقوموا بتخليد ذكرى الجنود المجهولين الذين لولا نضالاتهم ونُبل مراميهم لما كان لها أي انتصار أو تحرير أو مقاومة مشرّفة، لذا تُنصب لهم التماثيل في الساحات العامة تقديراً لتضحياتهم، وقد قرأنا عنهم في المرويات في أكثر من مكان ومناسبة؛ إلاّ أني ـ وقد أكون مقصراً في التحري ـ لم أسمع إلى الآن إن كان هناك نصب تذكاري أو تمثال لتاجرٍ مجهول في عاصمة من عواصم المعمورة، لذا ومنذ العالم الماضي عملت على تحريض بعض الاخوة من الفنانين التشكيليين في منطقتنا للتفكير جدياً بإقامة نصب تذكاري للتاجر المجهول في منطقة عفرين.
وصراحةً لا أنفي بأني قليلاً ما أحببت التجار على أرض الواقع كما أشرت، كما لم أستطع بناء علاقة حقيقية مع أيٍّ من القادة السياسيين على مختلف مستوياتهم؛ ومع أني لم أسمع عن قيادي من حزب الاتحاد الديمقراطي PYD أنه فضّل تطلعات وآمال وحياة شعبه يوماً على نفسه وعلى المجمع العقائدي في قنديل، ومع كل نفوري من سياسته، وكرهي المماثل لأيِّ حزب مثله يجعل من دماء الأبرياء مجرد وقود لدوام تشغيل ماكينته الأيديولوجية، الأيديولوجيا البارعة في زيادة عدد المقابر، الأيديولوجيا الفالحة في عقد الصفقات السرية والمقامرة بحيوات الناس ومعاشهم ببضعة شعارات قومية؛ إلا أنه على ما يبدو كان هناك شخص شريف موجود بينهم، وبانت بوادر حضوره الخيّر في الأيام الأخيرة من عمر إدارة PYD في منطقة عفرين، إذ وبخلاف السياسي المقامر كان قلب التاجر المجهول على المنطقة وأهلها بغض النظر عن موقفه من تركيا أو النظام أو PYD، ولم يقبل بأن يكون مجرد انتهازي جشع أوان الأزمة، أو مجرد روبوت بيد إحدى القوى المحلية أو الدولية التي ساهمت في تخريب البلد كلٍ على طريقته.
لذا وكما نشير بالعادة إلى مواطن الخلل والقصور والفساد في المجتمع، فينبغي أن نشير كذلك إلى النقاط المضيئة فيه، ونسلط الأضواء على الشرفاء أينما كانوا، ونقدّر عالياً أدوار النبلاء أينما وجدوا، فمن هؤلاء النبلاء المجهولين، تاجر غير معروف في عفرين، ظهر العام الماضي قبيل الانسحاب الكامل لأنصار PYD من المنطقة، وقد قام ذلك التاجر المجهول وقتها بضخ الأموال بكثافة في أسواق المنطقة وبلداتها لشراء كل الزيت المتوفر فيها، وفتَح المعابر لإخراج معظم منتجات عفرين إلى الخارج بسعرٍ جيد جداً في أسوأ الظروف، وهذا التاجر الذي رغم السؤال المكرّر عنه لم نجد أحداً عرفه، أو عرف شيء عنه، ولكن يبدو أن هذا التاجر عاش تجربة مدينة حلب المريرة عام 2013، وعرف كيف أنه أوان الغزوات يُنهب كل شيء يقع في طريق القوات المهاجمة! وكيف باسم التحرير يتم السطو المسلح وسلب كل ما يقع بيد المقاتلين! لذا أراد ذلك الشهم أن يخدم أهل منطقته من دون ضجيج، من دون أن يعرفه أحد، ومن دون أن يُخبر أحداً عما يقوم به، قدّم وخدم بعيداً عن التفكير بغايات دعائية لاحقة كما هي العادة لدى محبي الظهور والتعظيم من الساسة، إنما قدّم كل ما يقدر عليه من دون أن يقوم باستغلال الناس كما يفعل عادةً الكثير من التجار والساسة والعسكر، وذلك في أسوأ مرحلة مرت على المنطقة منذ ثماني سنوات، والذي حقيقة تبيّن من خلال النتائج على الأرض بأنه أنبل من أغلب قادة حزب الاتحاد الديمقراطي المنقادين من قِبل قنديل أو المتواطئين مع أنظمة المنطقة.
ومن باب التذكير مرة أخرى نجدّد القول بأنه فور استتباب الأمن وتخلُّص المنطقة من الأجسام العسكرية التي شوَّهت وجه المدينة، وأعطبت ماكينة الحرية الاجتماعية فيها منذ أكثر من عام ونصف، ينبغي أن يعمل فنانو المنطقة على صنع تمثالٍ بديع لذلك التاجر المجهول الذي يستحق أن يوضع مجسمه وسط المنطقة، وهذا الأمر لا شك لن يتم في ظل سطوة الأنفار العسكرية، إنما بُعيد إنتهاء دورة حياة المجاميع المسلحة من قبل الدول الضامنة كتركيا وروسيا وإيران، لذا فعندما يعود الأمان والسلام إلى ربوع المنطقة ككل، من الضروري جداً وقتها أن لا ننسى قط ذلك التاجر النبيل؛ بينما السياسي الجوّال فينبغي التخلص ليس فقط منه كشخص أو حزب، إنما ويجب تطهير كل ما تركه من أثر في قيعان العقول أو زوايا الأرصفة.