د. ولات ح محمد
ما إن مرت أيام قليلة على الجريمة التي ارتكبها جيش أردوغان وعصاباته بحق الطفل محمد حميد (وآخرين) عندما أحرقوا أجسادهم بالفوسفور الأبيض الممنوع دولياً والمنافي لكل دين وأخلاق وعرف، حتى قرر الشاب/ الرجل علي بشير أن يقف أمام مقر الأمم المتحدة في جنيف ويضرم النار في جسده احتجاجاً وحزناً وغضباً على ما يجري لأهله وعلى سكوت العالم أمام المشهد برمته.
تلك هي حكاية الكوردي: فإما أن يحترق بنيران الحقد والكراهية التي أماتت ضمائر أعدائه وأعمت بصائرهم قبل أن تعمي أبصارهم، وإما أن يحرق هو نفسه بنفسه احتجاجاً على ما يلقاه من ظلم وقهر وتجاهل. محمد أحرقه المجرمون بنار الفوسفور الأبيض لأنهم عجزوا عن هزيمته وهزيمة إرادته فأرادوا هزيمة جسده وشل قدرته على الحركة. ظنوا أن الانتصار عليه بهذه الطريقة سيكون سهلاً.
محمد رمز للكوردي الذي لا يُقهر، لا يضعف قلبه، ينتصر على أعدائه في كل مواجهاته. الكوردي الذي يتفوقون عليه في الآليات والمعدات والوسائل والأساليب والعدد، ولكنه يهزمهم بإيمانه بنفسه وإرادته الفولاذية، فيعمدون إلى شل حركته الجسدية بأساليبهم القذرة. هكذا فعل صدام في حلبجة وفي غيرها.
علي كان جسده بعيداً عن نيران العدو وحقده الأعمى، لكنه كان يرى تلك النيران وهي تلتهم أهله وأحبته وشعبه. شاهد سكوت العالم الكذاب على تلك المحرقة الكوردية كما سكت على جريمتي حلبجة وعفرين من قبل، وكأن الدمار والقتل والتمثيل بالجثث وحرق الأجساد لا يشاهده إلا الناس البسطاء، أما الدول وأجهزتها الإعلامية والاستخبارية فعمياء لا ترى وطرشاء لا تسمع وبكماء غير قادرة على النطق والصراخ في وجه المجرم المدلل في كل مرة. علي بشير أحرق نفسه كي تبلغ رائحة شواء لحمه الطاهر أنوف ذلك العالم ما دامت حواسه الأخرى في حالة عطب أو تعطيل عندما تكون الجريمة بحق الكوردي لا غيره. مقر الأمم المتحدة في جنيف الذي يمثل اجتماع العالم هو المكان الذي اختاره علي لحرق جسده كي يضع هذا العالم أمام مرآة ذاته ليرى صورته الأخرى الكاذبة.
أحرقوا (محمد) وسكت العالم فأحرق (علي) جسده ليكون صرخة في وجوههم ولحظة صدق مع ذاته في وجه نفاقهم وكذبهم وتجارتهم التي لا تنتهي حتى وإن كانت ضحاياها بشراً أبرياء، وهم الذين يلوكون الحديث ليل نهار عن القيم الإنسانية والحضارة الإنسانية والمبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان. إحراق محمد كشف حجم القيح المزمن الذي يحمله العدو المجرم في داخله تجاه الكوردي، أما إحراق علي جسده بنفسه فكشف عن زيف أولئك الذين يتحدثون كثيراً في حالة السلم عن حقوق الإنسان ولكنهم في حالة الحرب وارتكاب الجرائم وموت الأبرياء لا يعرفون إلا حقوق (المجرم) الحيوان.
العدو بقذارته وروح الإجرام التي يحملها في جنباته هو من قام بإحراق جسد محمد أما علي فقد قرر أن يقوم بإحراق جسده بنفسه (وهو بكامل قواه العقلية وبكامل غيرته وألمه على مأساة قومه وبإرادته الحرة التي لا تقهر) ليقول لذلك القاتل الجبان إنك لا تستطيع أن تهزمنا بالحرق. أحرقوا جسد محمد الناشئ واغتالوا طفولته فأحرق علي الشاب/ الرجل جسده الناضج كي يعيش طفلاه روبار وهوزان حياة أفضل مما عاشه محمد حميد وكل أطفال الكورد.
الكوردي في كل مسيرة حياته وقف ويقف بين محمد وبشير: بين كوردي يواجه عدواً مدججاً بكل أنواع السلاح والإجرام والحقد يسعى بها إلى قتله وحرقه ومحوه وإنهائه، وكوردي متسلح بإرادة حرة لا تقهر وإصرار لا يعرف التراجع يحافظ بهما على وجوده ويواجه عدواً لا يكف عن التفكير في كيفية إزالته من الوجود.