نبع الأوهام.. كيف ضحك أردوغان على سوريين لثماني سنوات؟

د. ولات ح محمد 
  
    عندما بدأ السوريون احتجاجاتهم في مارس آذار 2011 بغية إحداث إصلاحات داخلية في سلطتهم السياسية والإدارية كان جارهم الرئيس التركي (الذي كان يعيش أفضل فترات حكمه) يراقب المشهد عن قرب ويفكر في شيء آخر مغاير تماماً لما كان بعض السوريين يفكر به آنذاك: كيف يمكن لي استغلال هذا الحراك وتوجيهه بالاتجاه الذي يخدمني أنا شخصياً ويخدم سلطتي وسلطنتي المتخيلة ويجعل لي يداً قوية في شؤون سوريا القادمة؟. ولتحقيق هدفه كان عليه كسب ثقة السوريين وإعجابهم به فلجأ إلى أقصر الطرق: الكذب، الذي مارسه في ثلاث موضوعات أساسية: الحراك الشعبي، اللاجئين، والانفصاليين الكورد. هذه الموضوعات بالطبع غير منفصلة بعضها عن بعض، بل تتداخل الأولى مع الثانية، كما أن الثانية متداخلة مع الثالثة كما سنرى لاحقاً.  
الحراك الشعبي: أمام تراجع قوات النظام في بعض المواقع تشجع أردوغان وأطلق عبارته الشهيرة “حماة خط أحمر”. صدقه السوريون ومضوا بزخم عال وثقة زائدة ما دام “البطل” أردوعان صاحب الجيش القوي والكلمة “الصادقة” سيكون سندهم عند الضرورة. تبين لاحقاً أن الخط الأحمر لم يكن موجوداً إلا في مخيلة السلطان الذي اكتفى بمراقبة المشهد وتسجيل الفيلم فقط لا غير. وتلك كانت كذبته الأولى. 
    تعقد المشهد بعد التدخل الروسي، إذ بدأ النظام يستعيد الأراضي والمواقع التي خسرها خلال أربعة الأعوام الأولى ولجأ إلى ما سماها “المصالحات” التي بموجبها سلم المسلحون المسلحة أسلحتهم وعادوا إلى بيوتهم. أسقط أردوغان طائرة لبوتين على الحدود السورية التركية. غضب سيد كرملين من سلطان أنقرة وفرض على بلاده عقوبات أنكر تأثيرها في البداية ولكنه سرعان ما اعترف بها، وقبل أن تتفاقم الأمور سارع إلى موسكو لتقديم الاعتذار وتعويض أهالي ضحايا الطائرة وفتح صفحة جديدة.
    هذه الصفحة الجديدة ستنضم إليها طهران لاحقاً ليشكلوا معاً ما سمي فيما بعد بثلاثي تفاهمات واتفاقات آستانا وسوتشي. جرّ أردوغان مخدوعيه من المعارضة السورية إلى المشاركة في تلك الاتفاقات والتفاهمات بعد أن أوحى لهم بأنها في مصلحتهم أيضاً. وهذه كانت كذبة أخرى وأكبر؛ فبموجبها تشكلت ما سميت بمناطق خفض التصعيد التي لم يتوقف فيها التصعيد ولكنها أدت إلى تكبيل الفصائل المسلحة المدعومة أردوغانياً ومن ثم شلها واستسلامها في مناطق كثيرة. 
    وجد أردوغان أن مصالحه تتحقق بالاتفاق مع الروس والإيرانيين، وكان من الطبيعي أن يكون ذلك على حساب حلفائه من المعارضة، إذ لا يمكن للروس والإيرانيين إرضاء أردوغان من دون أن يكون ذلك على حساب أتباعه من المعارضة، فراح يعقد الصفقات على حسابهم، وكان من نتائجها أن تخلى عنهم في حلب وسلمها للروس والنظام مقابل السماح له بدخول جرابلس لإشباع أطماعه السلطانية ولتطويق عفرين وعزلها في انتظار صفقة أخرى لإسقاطها. وجاءت تلك الصفقة التي بموجبها باع حلفاءه مرة أخرى في الغوطة الشرقية مقابل السماح له باحتلال عفرين. 
    اللافت والغريب أن حلفاءه المخدوعين ظلوا يصدقونه ويسيرون خلفه حتى انتهى كثيرون منهم وتم تجميع الباقين في إدلب لينتظروا مصيرهم هناك عقب صفقة أخرى قد تكون أرخص من سابقاتها بكثير. فأية كذبة يحضرها أردوغان يا ترى ليطلقها في وجوه سورييه حين يقوم بتسليم إدلب بمن فيها ليحقق لنفسه بها وبهم آخر مكاسبه الميدانية والسياسية هناك؟. 
    أما آخر أكاذيب أردوغان على ما تبقى من أنصاره من السوريين فهي حكاية اللجنة الدستورية التي صورها لهم وكأنها الحل السحري الذي سيحقق لهم ما لم يتمكنوا منه بالحرب، مع علمه بأن النظام القوي بحليفه الروسي المنتصر عليهم لن يقدم لهم شيئاً وأنهم جميعاً سيدورون في حلقة مفرغة لسنوات طويلة، بعد أن أمضوا سنتين في تشكيل اللجنة!! 
اللاجئون: كان أردوغان أول من أقام للاجئين السوريين مخيمات داخل أراضيه وقال لهم: أنتم ضيوفنا وإخوة لنا، أنتم المهاجرون ونحن الأنصار، وتركيا بلدكم الثاني (سيتبين لاحقاً أنها كانت كذبة كبرى) أملاً في كسب ودهم وثقتهم وكي يظهر في عيون ناخبيه الرئيس “الأب الرحيم العطوف الإنساني” الذي يقف مع المظلوم ويدافع عنه ويؤويه ويطعمه. كان يظن أن الأزمة ستنتهي في زمن قصير كما يشتهي وسيسجل له السوريون والتاريخ “فضله” العظيم و”إنسانيته” البالغة. 
    بعد سنوات اكتشف أردوغان أن تبرم الشارع التركي باللاجئين كان أحد الأسباب الأساسية لخسارته للانتخابات الأخيرة لصالح معارضته التي كانت تطالب بترحيلهم، فراح يمارس عليهم التضييق والكذب كي يدفعهم للعودة إلى بلدهم. وقد كشف تقرير لمنظمة العفو الدولية مؤخراً أن تركيا قبل اجتياحها العسكري للشمال السوري قضت الأشهر الأخيرة في ترحيل اللاجئين السوريين قسراً أو عبر تضليل مارسته عليهم، من خلال جعلهم يوقعون على ورقة قالوا لهم (وهم لا يعرفون اللغة التركية) إنها مجرد وثيقة باستلامهم بطانية من مركز الاحتجاز أو للتعبير عن رغبتهم في البقاء في تركيا. بينما في الحقيقة كانوا يوقعون على ورقة تقول إنهم يرغبون في العودة لبلدهم. وهذه كانت خديعة جديدة كشفت كذبة عبارات الأخوة والضيافة والمهاجرين والأنصار التي فضحتها أيضاً المتاجرة بأولئك اللاجئين مع الأوربيين. 
الانفصاليون الكورد: عندما خاب أمل أردوغان في الاستحواذ (عبر أنصاره) على كل سوريا قرر غزو شمالها، وكان في ذلك بحاجة إلى مجموعة من الأكاذيب يضحك بها على سورييه ويسوغ لهم احتلاله لأراضيهم: الكذبة الأولى كانت ادعاءه إقامة منطقة آمنة لتوطين اللاجئين فيها. أما الثانية فهي الهمس في أذن المعارضة التابعة له بأن عليهم السيطرة على الأرض إذا أرادوا أن يكونوا أقوياء على طاولة المفاوضات وكتابة الدستور. أما الكذبة الثالثة والكبرى فهي قوله لهم إنهم ذاهبون للقضاء على الانفصاليين هناك ومنع إقامة “الدويلة الكوردية” المزعومة في الشمال السوري والحفاظ على وحدة الأراضي السورية. صدقه أولئك السوريون ولم يسألوه: إذا كان في الشمال السوري انفصاليون كورد يهددون أمنك القومي ووحدة الأراضي السورية كما تدعي فلماذا ترسل الأسلحة والطائرات إلى ليبيا؟ هل فيها أيضاً انفصاليون يهددون أمنك القومي؟ ولماذا تقول إن لتركيا حقاً في أراضي ليبيا وتسميها مع أراض أخرى يا أردوغان “جغرافيتنا القديمة”؟. 
    بعد احتلال تل أبيض ورأس العين قال جاويش أوغلو وزير خارجية أردوغان إن التوازنات تغيرت في سوريا بالكامل من خلال عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، وتابع: “إذا كنتم موجودين على الأرض فأنتم موجودون أيضاً على الطاولة.. وإذا كنتم أقوياء على الطاولة فإنكم لا تخسرون مكتسباتكم الميدانية”. هذه هي حقيقة الكذبة الثانية، وهي تكشف الكذبة الأولى وتفضح الكذبة الثالثة أيضاً؛ فكلام الوزير يثبت أن ادعاء أردوغان أن أسباب غزوه الأراضي السورية هي إسكان اللاجئين في منطقة آمنة ومنع إقامة دويلة كوردية والحفاظ على وحدة الأراضي السورية هو كذب في كذب في كذب. والحقيقة أن أردوغان بغزوه الشمال السوري أراد إفراغ المنطقة من سكانها الأصليين (الكورد تحديداً) وتقطيع جغرافيتهم لقطع الطريق على إقامة أية إدارة كوردية محتملة في المستقبل ضمن الحل السوري، وكذلك تقوية موقفه هو شخصياً في التسوية المحتملة للوضع السوري ليكون فيها صاحب كلمة. أضف إلى ذلك رغبته في توسيع جغرافية سلطنته الموهومة تحت مسمى “جغرافيتنا القديمة”. وقد وجد لأكاذيبه آذاناً صاغية من بعض السوريين السكارى بخمرة المتصوف السلطان. 
    في المحصلة قال أردوغان لسورييه من لاجئين ومسلحين وسياسيين: سأغزو بلدكم وسأقتل الآلاف من أبناء بلدكم وسأشرد مئات الآلاف من أبناء بلدكم وسأخرجهم من ديارهم وسأحرمهم من مدارسهم وأعمالهم وسأعرضهم للسلب والنهب وسأجعل منهم أرامل ويتامى كي أؤمن لكم سكناً حديثاً ومريحاً في مناطقهم، فصدقوه (أو أرادوا أن يصدقوه) ورضوا بما قسم لهم أردوغانهم “الصادق”. قبل ذلك لم يجد ابن البلد القادم من دمشق أو حلب أو حمص أو غيرها مشكلة في أن يتم طرد ابن عفرين من بيته ليسكن فيه هو!! 
    قال لهم سأسقط لكم النظام فصدقوه. قال لهم سأدافع عنكم إذا اعتدى عليكم النظام فصدقوه. قال لهم أنتم المهاجرون ونحن الأنصار فصدقوه. قال لهم مصلحتكم في آستانة وسوتشي فصدقوه. قال سأقيم لكم منطقة آمنة لتعودوا إلى بلدكم فصدقوه. قال لهم إن سبب عمليتنا العسكرية في الشمال السوري ليس احتلاله، بل منع قيام “دويلة كوردية إرهابية” ومنع تقسيم بلدكم فصدقوه. قال لهم إن كل ما وعدتكم به ستحصلون عليه في الدستور الجديد فصدقوه. 

    الشيء الصحيح الوحيد الذي خبأه أردوغان عنهم ولم يخبرهم به هو أنه يريد احتلال جزء من أراضي بلدهم لجعله تابعاً له ولدولته. وقد عبر عن ذلك بنفسه عندما قال لجمهوره: “إن أهمية العملية العسكرية في الشمال السوري توازي أهمية العملية التي قمنا بها قبل عقود في شمال قبرص”. المفارقة أن هذه المرة التي لم يكذب فيها أردوغان لم يصدقه السوريون.

     

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…