حيوات مفخخة أخرى في قامشلو

إبراهيم محمود
هذا ليس عزاء لأسمّي المعزَّى، ولا إعلان حِداد، لأعلّق لافتة باسم المتوفى. وليس يوم الاثنين 11-11/ 2019 باليوم المتفرد بفاجعته القامشلاوية، فما أكثر فجائع قامشلو وشقيقاتها مشرقاً ومغرباً وجنوباً. ليس من أحد، وإن كان من أحد لأعزيه، فالجميع معزّون. وكل مقيم قامشلاوي يعيش رعب الحدث الثلاثي بتفجيراته المميتة، عصر هذا اليوم، وأنا أتصورني متنقلاً بين أحبائي الشوارع المألوفة ذات يوم: الجسرين، الوحدة، وصوب الشمال ” حيث كنت ألتقيك يا صديقي الراحل فرهاد عجمو !” وأصافح وجوهاً وقلوباً في الجهات المتقاطعة.
لم يعد من عزاء رسمي في البلد اللابلد، في المدينة اللامدينة، حتى من يموت ” حتف أنفه ” ليس لديه، أو لدى أي من أقربائه، أو أصحابه، إثبات أنه مات موتاً طبيعياً، وفيه، وحوله كل هذا الدمار المهدّد لملايين مؤلفة في البلد. لم يعد من موت طبيعي، حتى هو نفسه أصبح غريباً على اسمه ونوعه، حتى عزرائيله بات في ذهول، ومهام قبض الأرواح.
إنها حيوات مفخخة شديدة اليقظة والدقة، أعِد لها من لحظة البدء بما يُسمى ” الثورة السورية ” ولكم تحفظت على هذه العبارة من لحظتها الأولى، كم تخوفت منها، كما صرحت وكتبت في أكثر من مكان. نعم، هي ثورة انفلات الأمن، الرعب، الكوابيس، انفجار المخاوف، الهجرات القسرية الكبرى، ابتعاد الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم، ثورة القهريات الكبرى، وبث الآلام أنّى التفت، ثورة المكبوتات بجماع أحقادها، وسلالات أوغادها، ثورة النفوس التي انتظرت ساعتها في التباغض والتحارب .
ما حدث هذا اليوم، تذكر يتجدد، بأنه موصول بالأمس وأمس الأمس، وأمس أمس الأمس، وربما يعِدُ سلفه الأول في الموت المفخخ، بأمنه ماض إلى الغد وغد الغد وأبعد من حدود غد غد الغد في ضوء المنظور.
هي ثورة معكوسة، طالما أن هناك من يطلقها دون تحفظ على الأقل، طالما أن هناك من ينظر إلى وجهه في المرآة، ومعرفة ما إذا كان وجهاً بشرياً، أم لا، طالما أن هناك من لم يتحسس أصابعه وما إذا كانت هي ذاتها أمْ مخالبية وغيرها، طالما أن هناك من لم يُسمِع سواه أنه أخطأ حسابياً وهندسياً في تقديره ” الثوري ” كما لو أن الثورة رؤية حسية مباشرة للمرئي وعن قرب، ليكون الدم موحداً، بعيداً عن لغاته، الدم الذي يُسمي أوجاع الجميع ومخاوف الجميع.
هي زلزلة أخرى، في سلسلة منطقة الكوارث التي فقدت بوصة التوازن، وتعيش اختلاف توازن إلى أجل غير مسمى، وقامشلو، كشقيقاتها من المدن الأخرى، بأكثر من لغة، تدفع ضريبتها من ضحايا دون علمها أو علم أهلها، ومن عمار، صار خسفاً، ومن همجية كامنة، وليس مدنية، في مدينة تتنكر لصفتها، تحت وقع هذه الفجائع، هذه الميتات المتسلسلة بالجملة وليس بالمفرّق .
أقولها وأنا ممتلئ بجراحات قامشلو، وصراخات أهليها وانكواءاتهم: شوارع منكوبة، وأحياء منكوبة، وأهلاً منكوبين، ممتلىء بأوجاع ليس هي ختام ما يراد لها أن تنتهي به، فالحيوات المفخخة، أبعد من كونها مجانبة، أبعد من كونها عبثية، قدرية، فما أكثر القتلة، ما أكثر محبي الموت الجماعي، ما أكثر المنذورين لتصفية الآخرين في القرب والبعد .
ليس لي في النهاية المفترضة إلا أن أخاطب من لهم صلة بميزان الصرف الحياتي، وشئون الحياة، أنها لحظة التحدي التي تنذركم بالأعظم، وتعلِمكم بوجوب تسمية الجاري خطأ، والقائم أكثر خطأ، لئلا نشهد نهاية، لا يؤرَخ لها أحد منّا !

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…