د. محمود عباس
بين الحاضر ومستقبل الشعب الكردي، كوارث، ومعاناة، ومآسي، ومسافات زمنية قد تنعدم فيها القيم والأخلاق، ويسود نفاق السياسة وبشاعة الإستراتيجيات والمصالح، وتظهر جهالة حراكنا وبشائع أخطائنا، وسفاهة خلافاتنا، ولربما هشاشة إيماننا اللا شعوري بذاتنا كأمة ذات مقومات قومية متكاملة، أو لنكن أقل قساوة على جلد الذات، لم نبلغ بعد سوية المعرفة أو الإدراك اللاشعوري لمتطلباتنا كقومية واحدة.
فالعائلات المعانية والجريحة في روحها، لا تهمها نداءات دعاة الوطنية. والذين يتضور أطفالهم جوعا، أو يعانون المرض بلا دواء ولا معالجة، وحيث مآسي الغلاء وشح المياه وانقطاع الكهرباء والعيش في رهبة دائمة من المجهول، لا يهمهم الحديث عن القادم المأمول، بقدر ما يهمهم تغيير الحاضر الكارثي. المهجرون يحلمون بعودة إلى دفئ دارهم المستولي عليه المحتلون، وإنقاذ أملاكهم التي أمضوا على جمعها عقود من العمر بل ولربما حياة أجيال سابقة. ففي ظل الكوارث المعيشية يغيب حلم الوطن، ولا ما سيكون عليه القادم من الزمن، فالجائع يهمه اللقمة قبل الوطن.
نتحدث عن الصامدون، والذين يواجهون القادم المرعب، وعن الذين يعيشون مآسي المخيمات التي تنقصها أبسط مستلزمات الحياة، والذين يهمهم قطعة لباس يكسون بها أطفالهم في صقيع الشتاء، ويكافحون من أجل لقمة ساخنة في لحظة يصرخ فيها الأطفال جوعا، والذين يحلمون بالعودة إلى تحت السقف المبني بعرق جبينهم، حيث الأمان، وليس عن تجار الحروب والانتهازيين، ولا عن شرائح القوى السياسية المتصارعة على أكتاف هؤلاء، فلو كان واقع هذا المجتمع يهمهم بقدر ما يهمهم سمعة أحزابهم لتجاوزوا خلافاتهم، وتحرروا من الإملاءات الخارجية.
أصبحنا كالسجناء الذين ينظرون من خلال الطاقة إلى السماء الزرقاء، حالمين بالتجول يوما ما، أحراراً على جغرافيتنا المغتصبة، نوجه أصابع الاتهام إلى بعضنا، متناسين المحتل وإمكانياته، ومتقاعسين عن إنقاذ المهجرين من أمتنا، أو تقديم المساعدات الضرورية للمجتمع المعاني. لا تستأثر اهتمامنا احتمالات إخراج أو طرد المحتل، بقدر ما يهمنا البحث عن ذنوب اقترفناه، فهكذا نعيد المرحلة التي لم يكن فيها العدو يبالي بإمكانياتنا، لأننا أصبحنا كالماضي أضعف من أن نؤثر عليه، نتصارع بين بعضنا، على من هو الجاني والمجني عليه، ونتناسى أن العدو لا يزال هو القاضي.
أغلبية شعبنا المعاني يأس من الحاضر والقادم، لأنه بلغ مرحلة دراية أن الشرائح الثقافية السياسية الكردية الواعية والمأمولة منها إنقاذه لا تزال في أطوارها الأولى، وأضعف من حمل قضيته، وقدراتها لا تزال دون مستوى تلبية مطالبه. وبالمقابل وفي دخيلة نفسه بلغ حافة التأكد على أن الحركة السياسية الحاضرة والمهيمنة على الساحة الكردية، لم تعد فيها الأمل، لقد أصبحت من مخلفات الماضي، وضجيجها غير مسموع إلا من الداخل الكردي، فهي لم تملك ولا تملك أبسط الإمكانيات لإنقاذ ذاتها من هيمنة القوى الإقليمية، ولا القدرة الكافية للتخلص من دورها كأدوات بيدهم، كما وانعدمت فيها احتمالات ترك التخوين، وإلغاء الكردي الأخر، وعدم تصعيد الخلافات. هذه السلبية في القناعات والسوداوية مبنية على ما أدركه خلال سنوات الكوارث الماضية، ورؤية ما يجري على الساحة، وما تعلمه من المآسي وقساوة الحياة المعاشة بين جدران خلعت عنها معالم الجمال والحياة، والتي تزيده هما وكدر.
فعلى خلفية ما نلتمسه، ونراه، نجد أن توضيح قناعتنا بالقادم المتوقع نحو الأفضل للشعب المعاني وتبيان خلفيات الأمل بمستقبل زاهر لقضيتنا، ضروري بقدر ما هو مؤلم حاضرنا، فالواقع الكارثي المهيمن، لن يستمر، والمؤشرات عديدة، وجلها تبين على أن الجاري سيزول، والإعلام المتناول لقضيتنا الكردية بشكل مستمر، ستمطر خيرا، والأرض التي دمرتها جحافل الأشرار ستعود إليها الحياة. فإلى جانب الدعم الدولي، بدأت تظهر بوادر صعود لحراك داخلي بديل عن الحاضر الموبوء، فهناك شريحة من المثقفين والسياسيين الكرد الذين بدأوا يتناولون القضية بأبعادها الوطنية وعلى سويات مفاهيم حضارية واستراتيجية عالمية، وأغلبية المجتمع ينبذ الخلافات الجارية بين القوى الكردية، إلى جانب غيرها من العوامل الذاتية والموضوعية التي تؤكد على أن قادم كردي مبهر سيحل محل الكوارث التي حلت بشعبنا في جنوب غربي كردستان.
فمثلما كثيرا يكون الفشل بدايات النجاح، كذلك تخبص أطراف الحراك الكردي المتصارع مؤشر على زواله، وولادة حركة واعية تملك الرؤية القوية والصحيحة لمستقبل أمتنا. فساذجتها وجهالتها في العديد من المجالات، كانت من أحد أهم أسباب اليأس المهيمن على شعبنا، كما وهي المتهمة إلى جانب الأعداء بحدوث نكساتنا المتتالية، ولا نستبعد فيما لو استمرت على هذا المنحى أن تؤدي إلى خسارتنا لجميع المكتسبات التي حصلنا عليها، وتوسيع حجم الكارثة الجارية، ولربما هدم إرادة الأمة.
القضية الكردية في جنوب غربي كردستان، تجاوزت قدرات ومدارك الأحزاب المتصارعة، فهي تحتاج إلى حراك نوعي، ولا يعني هذا مطالبة الموجودة حل ذاتها، والذي لن يحدث، بل ومن السذاجة توقع حدوثه، أو الإتحاد بين بعضها، أو ظهور أحزاب وتشكيلات سياسية جديدة، ولا مؤتمرات وطنية أو حزبية أو تجمع أحزاب، بل نهضة فكرية لكلية المجتمع، ومجموعة تنويرية ثقافية، وسياسيين على مستوى ثقل الأمة، نوعية الحراك المتوقع لا يزال غير واضح، لكنها ستكون النبوة، مثلما تؤشر المسيرات السلمية الجارية على عصر النهضة القادم إلى الشرق. ولكن يبقى الخلاف بين الثورة الكردية عن غيرها في منطقتنا، أننا نبحث عن الذات القومية الحضارية، وهم من يطالبون بأسقاط الأنظمة أملين بعيش أفضل.
لذلك فعندما نطالب بعضنا ككرد، بعدم اليأس من مجريات الواقع على الأرض، خاصة من الناحية الديمغرافية، وعلى أفاق قضيتنا، ندعمها بتحليل مجريات الأحداث ضمن منطقتنا والتي أصبحت ذات أهمية ومركز اهتمام دولي، ولا نظن أن منابع النفط فيها هي التي تجذب كل هذه القوى، ودفعت بأمريكا وروسيا إقامة معسكرات متجاورة، وتسيير الدوريات على الطرقات ذاتها، مع القوى الإقليمية التي تحاول الاختلاس منهم قدر ما تستطيع، كتركيا التي تعمل المستحيل لتحويلها إلى قبرص ثانية، سكانها من العرب وإدارتها من القوى التكفيرية المنسقة ضمن قائمة الإرهاب لدى أمريكا وروسيا معا، والسلطة السورية تعمل الكثير لعودة مربعاتها الأمنية، وإيران تبحث بكل السبل لإيجاد موضع قدم لها هناك، ويظل أطراف الحراك الكردي المتشتت والمستهلك أوراقه، ومعها الأقليات الموجودة في جنوب غربي كردستان، لاهثين وراء القوى الكبرى والإقليمية فرادى، أملين بدعم ما، إلى درجة أصبحوا لا يعرفون أيها بالإمكان، ليس الثقة بها، بل الاعتراف بها، ومع من ستجد مصالحها، وأيها ستحميهم والشعب من شرور القوى الإقليمية.
mamokurda@gmail.com
الولايات المتحدة الأمريكية
27/11/2019م