شاهين أحمد
لايحتاج المرءُ إلى عناءِ البحثِ والتفكير كي يصل إلى قناعةٍ بأن روسيا أصبحت اليوم اللاعب الأهم في المشهد السوري ، بالرغم من وجود العديد من اللاعبين الكبار بدءاً بأمريكا ومروراً بفرنسا وتركيا وإنتهاءً بإيران وميليشياتها الشيعية …الخ.ومن الأهمية بمكان هنا أن نشير إلى نقطة هامة وهي : لسنا بصدد الدور الإجرامي المعروف الذي لعبته روسيا في الأزمة السورية بمختلف مراحلها ، والذي تجسد في وقوفها إلى جانب النظام والمشاركة في قتل عشرات الآلاف من المدنيين السوريين ، وتدمير الحواضر السورية ، وإنقاذ النظام من السقوط والانهيار.
بل مانحن بصدد مناقشته هنا هو: قدرة القيادة الروسية على التعامل مع الأزمة السورية من مختلف جوانبها ،حيث أثبتت الأحداث يوماً بعد آخر بأن التحرك الروسي كان مدروساً ومتكاملاً من مختلف الجوانب العسكرية والسياسية والإعلامية ، وبأن الدبلوماسية الروسية كانت الأنجح والأكثر قدرةً على فرض رؤية بلدها ورئيسها القوي ” بوتين ” فيما يتعلق بالأزمة السورية ، والجميع يتذكر سلسلة ” الفيتو ” الروسي في مجلس الأمن ، الذي أفشل كل المشاريع التي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين تمريرها من خلال مجلس الأمن الدولي . ولايخفى على أحد ” الثغرة القاتلة ” التي تمكنت روسيا من فتحها في جدار حلف الشمال الأطلسي ” الناتو ” ، وكذلك الدور الروسي في توسيع الهوة الحاصلة بين أمريكا من جهة وحلفاءها في حلف الناتو من جهة اخرى ، وخاصة بين أمريكا وتركيا ، ونجاح الدبلوماسية الروسية في استمالة تركيا إلى جانبها في الكثير من المواقف والقضايا ، وخاصة تلك المتعلقة بالأزمة السورية ، وصولاً إلى تشكيل حلف ثلاثي ( روسي – تركي – إيراني ) ، ومن ثم حرف مسار المفاوضات الخاصة بالأزمة السورية عن مسارها ، ومحاولة إخراج تلك المفاوضات من تحت المظلة الأممية ، من خلال خلق بدائل لمرجعية جنيف للمفاوضات ، وإطلاق مفاوضات موازية في العاصمة الكازاخية ” أستانة ” ، ونجاحها – روسيا – في الفصل بين المعارضة السياسية والعسكرية وسحب البساط من تحت أقدام الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ، من خلال إحضار ممثلين عن الفصائل العسكرية من مختلف الجبهات إلى محادثات “أستانة ” بجولاتها المتعددة ، واستدراج تلك الفصائل شيئاً فشيئاً إلى مستنقع الإستسلام تحت مسمى ” المصالحات ” ومناطق ” خفض التصعيد ” ، والتي لم تؤدي إلى تسليم تلك المناطق إلى النظام دون مقابل فحسب ،لابل أدت تلك المصالحات إلى الاستسلام الكامل وتهجير المدنيين والمسلحين معاً من تلك المناطق ، ونقلها وتوطينها في مناطق أخرى بعيدة في الشمال السوري بشكل عام ومناطق من كوردستان سوريا بشكل خاص . وعملت الدبلوماسية الروسية على إعادة الإعتبار والشرعية للنظام ، حيث قام الرئيس الروسي بطرح إعادة تفعيل إتفاقية ” أضنة ” والعمل وفقها ، وهي إتفاقية أمنية بقيت بنودها سرية لأكثر من عقد من الزمن ، تم التوقيع عليها بين تركيا وسوريا عام 1998 ، وكانت بمثابة نقطة تحول هامة في مسار العلاقات بين الدولتين ، حيث حولت تلك الإتفاقية التوتر الذي وصل حافة الصدام المسلح ، إلى تقارب وتعاون أمني وإستراتيجي على حساب المعارضة في البلدين بشكل عام والكورد بصورة خاصة . وقد لاينتبه المرء للوهلة الأولى لمدى خطورة هذا الموضوع – إعادة تفعيل إتفاقية أضنة – الذي تم طرحه من قبل الرئيس الروسي ” بوتين ” الذي يمتلك الخبرة ويمتاز بالذكاء والحنكة والدهاء ، في المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمعه بالرئيس التركي ” أردوغان ” بعد لقاء قمة بينهما في موسكو مؤخراً، ومحاولة ” بوتين ” تمرير طرحه من خلال الإشارة إلى قانونية التواجد العسكري التركي في الشمال السوري بموجب هذه الإتفاقية ؟!. وأراد بوتين أن ” يضرب عصفورين بحجرة واحدة ” كما يقول المثل ، حيث أراد أن يقطع الطريق على الرئيس التركي فيما يتعلق برغبة بلاده إقامة منطقة ” عازلة ” تحت السيطرة التركية أولاً ، ومحاولة إعادة الاعتبار والشرعية للنظام السوري في حال موافقة تركيا العمل تحت سقف ” الاتفاقية ” وبالتالي إعادة التعامل الرسمي مع النظام السوري ثانياً . لأن الاتفاقية المذكورة كانت بين النظامين التركي والسوري ، وبالتالي تفعيلها يستوجب قانونياً التعامل بين الحكومتين من جديد . وهناك نقطة في غاية الخطورة أراد ” بوتين ” أن يذكر نظيره التركي بها وهي : أن الاتفاقية المذكورة ( أضنة ) جوهرها تقوم على أساس التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب ، مايعني أن بوتين أراد أن يلفت إنتباه ضيفه التركي إلى موضوع هام وخطير فيما يتعلق بمدى ” قدرة ورغبة ” تركيا في التعاون بالمثل في هذا الجانب – التعاون في مجال مكافحة الإرهاب – ومايتعلق بقيادات المعارضة السورية السياسية والعسكرية التي يتهمها النظام السوري بالإرهاب والموجودة في تركيا . وجدير ذكره هنا أن أية عمليات عسكرية تركية بموجب ” اتفاقية أضنة ” داخل الأراضي السورية مرهونة بـ ” عدم تمكن النظام من إزالة التهديد المنطلق من أراضيه ضد تركيا ” بمعنى آخر أن تركيا ” لاتستطيع ” القيام بأي عمل عسكري إلا إذا صرح النظام السوري بأنه عاجز عن إزالة التهديد . وكذلك أراد ” بوتين ” أن يوجه رسالة لنظيره التركي بأنه في حال قبول تركيا بالعمل وفق الاتفاقية المذكورة ، يعني إقرارها – تركيا – بعدم شرعية وجودها العسكري في سوريا ، كون هذا التواجد خارج أي اتفاق أو تفاهم مع ” النظام السوري ” ، وبالتالي يعد خرقاً لمضمون الاتفاقية نفسها ، لأن ” الاتفاقية ” تعطي القوات التركية الحق في تنفيذ عمليات محدودة بعمق ( 5 ) كيلو متر ومن ثم العودة إلى قواعدها داخل بلدها . والرؤية الروسية لملف المنطقة ” الساخنة ” التي باتت تعرف بمنطقة “شرق الفرات” ، ومقارباتها للحلول الخاصة بمستقبل هذه المنطقة تقوم أيضاً على أساس استيعاب النظام السوري لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd وقواته العسكرية ، ومن ثم دمج هذه القوات ضمن مؤسسات النظام العسكرية ، وكذلك عودة كافة مؤسسات النظام العسكرية والأمنية والإدارية إلى هذه المناطق ، والقيام بتفكيك معسكرات الحزب وإزالة مؤسساته ، من خلال عملية إعادة الهيكلة والإحتواء .
ويبقى السؤال الذي يؤرق بال الكثيرين : هل ستنجح روسيا ورئيسها الطموح في استعادة دور ” الاتحاد السوفيتي ” السابق وأمجاده ، وفرض العمل في العلاقات الدولية وقيادة العالم وفق معادلة ” القطبية الثنائية ” من جديد ؟.