م. محفوظ رشيد
أوشكت دولة الخلافة الإسلامية (داعش) قاب قوسين أو أدنى من النهاية الوخيمة المحتومة بإعلان الحلفاء وقوات سوريا الديموقراطية القضاء على آخر جيب انحسرت فيه (باغوز)، وبذلك ستقلب آخر صفحةٌ من مرحلة دموية سوداء عابرة من تاريخ المنطقة، وستترك وراءها آثاراً عنيفةً وأسراراً مخيفةً وأضراراً كثيفة، ستستغرق فتراتٍ زمنية طويلة حتى يتم محوها فكراً وثقافة وسلوكا.. من المجتمعات التي تعرضت أو خضعت لسيطرتها، وستتحول مخلفاتها وبقاياها إلى خلايا نائمة على شكل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة مهددةً الأمن والسلام والاستقرار.
هذه قراءة عامة لما بعد داعش، أما ميدانياً فهناك بعض الدواعش المتشددين مصرونّ على القتال حتى الرمق الأخير، والبعض الآخر منقسمون بين الهروب والاستسلام، يُبت في وضعهم عبر اجراءات “أمنية – استخباراتية- قانونية” دولية معقدة، أما المغلوبين على أمرهم من السكان الأصليين والذين لم تتلطخ أياديهم ولم يتورطوا في الانتهاك والاجرام سيتم إعادتهم ليمارسوا حياتهم الطبيعية في ظل مجالس محلية يتم تشكيلها على غرار باقي المناطق المحررة سابقاً من الرقة ودير الزور..، والتي ستكون تابعةً للإدارة الذاتية لمنطقة شمال شرق سوريا، ومرتبطةً معها مصيرياً إلى حين تطبيق الحل النهائي للأزمة السورية، والذي يبدو بعيداً في ضوء الاستقطابات والتجاذبات الدولية والمبادرات المتعددة المطروحة والتي لم تنضج ولم تدخل حيز التنفيذ بعد.
إعلان أمريكا بالإبقاء على مئاتٍ من قواتها (رمزياً) في المنطقة تؤكد على استمرار تواجدها العسكري لحماية المنطقة ومنع حدوث أية تغيرات ملموسة على الأرض، تسعى لخلقها أطراف أخرى في الصراع القائم وفي مقدمتهم تركيا تحت ذرائع مختلفة، بالرغم من محاولاتها الجادة والحثيثة من خلال عقد اتفاقات وصفقات مع أطراف الصراع، أمريكا حيناً، وروسيا وإيران عبر لقاءات “سوتشي” حيناً آخر.
منذ بداية الأزمة السورية وتحديداً بعد إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية تسعى روسيا لابتزاز تركيا واحتوائها واستخدامها لتوسيع الهوة بينها وأمريكا من جهة، ومن جهة أخرى لانهاء المعارضة الراديكالية المسلحة بما فيها النصرة وداعش التي تحتضنها وترعاها، والتي نجحت روسيا في تحقيق هدفيها، وستخسر تركيا هذه الورقة بشكل كامل لاحقاً، وستصبح هذه الخسارة سبباً رئيسياً لإخراجها من المعادلة السورية كلاعب فاعل ومؤثر بعد حسم إدلب عسكرياً، مركز تجمع الفصائل المسلحة بعد نقلها من الغوطة والقلمون والجنوب بموجب اتفاقات ومقايضات روسية – تركية، وبالتالي فإن المعارضة السياسية الممثلة بالائتلاف ستتضعف أيضاُ وسينتهي دورها بالتزامن مع التأهيل العربي والدولي للنظام الحاكم في دمشق (بدليل انسحاب حكومة أبو حطب الائتلافية المؤقتة من إدلب، وحضور وفد النظام السوري رسمياً لمؤتمر البرلمانيين العرب في الأردن).
كما أن إبعاد تركيا كقوة مشاركة في المنطقة الآمنة، التي تسعى أمريكا وحلفائها في إنشائها بغطاء أممي في شمال شرق سوريا تتقاطع مع أجندات روسيا في إقصاء تركيا من المعادلة السورية مهددة أردوغان بالوثائق التي تمتلكها عن الانقلاب الفاشل والتي تدينه، ووتتلاقى موقفهما من عدم تكرار الانتهاكات الصارخة التي ترتكبها مرتزقة تركيا بتخطيط واشراف من أجهزتها الأمنية والعسكرية المحتلة لعفرين المغتصبة بعد أن تم توثيقها وفضحها وإدانتها من قبل المنظمات الانسانية والحقوقية العالمية لها.
إن فشل سياسة أردوغان على الصعيدين الداخلي والخارجي جعله منبوذاً بالرغم من لعبه على أوتار حساسة لحشد الرأي العام التركي دينياً وقومياً (كمحاربة HDP على أنه إمتداد لـ PKK وجماعة غولن تحت عناوين مكافحة الإرهاب وحماية الأمن القومي التركي)، وهنا لابد من الدولة العميقة التدخل لإيجاد البديل عنه من نفس مدرستة الحزبية (عبدالله غول وأحمد داود أوغلو …) لاستمرار ذات النهج الهجيني (الإسلامي- العثماني ) في حكم تركيا، وبالتالي يستبعد استخدام أردوغان العنف الشديد ضد معارضيه أوالمنشقين عنه كما يمارسه ضد الأحزاب الكردية واليسارية وغيرها، ونتائج الانتخابات البلدية سترسم خارطة جديدة للمشهد السياسي في تركيا (تحجم فيها غطرسة أردوغان وغروره)، وستجعلها أمام خياراتٍ أبسطها تبني سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية والعودة إلى سياسة تصفير المشاكل مع الجوار، وعدم مواجهة حلفائها التقليديين في الناتو لتجنب الفوضى الخلاقة التي ستهدد أركانها في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية والمشاكل الأمنية مع تغول الإسلام السياسي المتطرف في مفاصل الدولة التركية ومؤسساتها.
في إطار التوافق الأمريكي- الروسي لتطبيق الحل السياسي على أساس القرار الأممي 2254 يسعى الطرفان للقضاء على التنظيمات الإرهابية المسلحة وإنهاء العمليات العسكرية، وتهيئة الظروف والأرضية لتنفيذ بنوده، فمع اقتراب نهاية داعش في منطقة النفوذ الأمريكي يتوجب على روسيا حسم الوضع في إدلب وإنهاء النصرة ومثيلاتها من العصابات المسلحة التي تسيطرعلى مناطقها بمثابة حكومات وإدارات مستقلة، وما تحشدات الجيش السوري وقصفه للمناطق المنزوعة السلاح من إدلب (المتفقة عليها) إلا بمثابة تهديد جدي لتركيا لنسف الاتفاق الذي تتماطل في تنفيذ بنودها، واستعادة إدلب بالقوة إلى مناطق نفوذ النظام.
04/03/2019
————- انتهى ————-