الكوردي «الغبي» والكوردي «العبقري»

د. ولات ح محمد
    لماذا لا يتعلم الكوردي من تجاربه ودروسه فيقع كل مرة في الحفرة ذاتها أو في حفرة مشابهة لما وقع فيها من قبل؟. هذا التساؤل بهذه الصيغة أو بغيرها يردده كثير من الكورد ومن أبناء شعوب المنطقة، ويطرحه مثقفون منهم ومنا في محاضراتهم وكتاباتهم. السؤال، إذ يطرحه صاحبه، مشوب بشيء من التهكم واتهام الكورد سياسياً بالغباء؛ فالعاقل لا يقع في حفرةٍ مرتين كما “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”. فهل حقاً تكرار المآسي والإخفاقات وتشابهها في حياة الكورد دليل على قلة عقلهم وسذاجتهم وعاطفتهم التي تغلب فكرهم وتجعلهم ضحية سهلة لألاعيب الآخرين؟.
    لكي نجيب على هذا السؤال سندع كل الكورد الذين مارسوا أو يمارسون السياسة جانباً لنأتي بكوردي مثالٍ مفترض، هو أنموذج في التعقل والحكمة والعبقرية والدهاء، بارع في السياسة والجغرافيا وقارئ عظيم للتاريخ وتجاربه وللفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومتعمقٍ في السياستين الإقليمية والدولية ماضيها وحاضرها، ومن المستحيل أن يقع في أخطاء أسلافه. لذا سنقوم بتسليم هذا العبقري الخبير قيادة الكورد ليرسم هو وفريقه الخطط والسياسات التي يرون أنها ستحقق لهم تطلعاتهم ليكونوا أسوة بكل شعوب العالم أصحاب دولة لا أكثر ولا أقل. فما الذي يمكن أن يحققه هذا الكوردي المثالي الفذ الذي لا يخطئ أبداً؟. 
    يُتهَم الكوردي سياسياً بالغباء والعاطفة وعدم التعلم من التاريخ لسببين: الأول هو تعامله مع الأنظمة المقتسمة لكوردستانه، مع علمه بأنها جميعاً لا تريد له الخير. أما الثاني فهو تحالفه وعلاقاته مع دول العالم الكبرى، على الرغم من تجاربه السيئة معها، إذ تتركه في منتصف الطريق عرضة للقتل والتدمير. فما الذي يمكن أن يغيره هذا القائد الكوردي العبقري في هذين الملفين؟.
    على المستوى الإقليمي يعلم هذا الكوردي الذكي أن أنظمة الدول التي تقتسم جغرافية كوردستانه اتفقت في السابق وستتفق دائماً على إفشاله عندما ترى أنه قد سار خطوة إلى الأمام. ولذلك من الطبيعي أن يقرر عدم تكرار أخطاء أسلافه بالتعامل مع تلك الأنظمة حتى يتجنب خيانتها في المستقبل. ولكنه سيكتشف بعد شهور قليلة أن الغباء يكمن في معاداة تلك الأنظمة جميعها في وقت واحد، لأنه ـ ببساطة ـ مطوق بها، وإذا قاطعها جميعاً فسيحكم على نفسه وعلى شعبه بالموت خنقاً .. وبالغباء أيضاً، وسيدرك أنه مضطر للتعامل مع واحد ـ على الأقل ـ من تلك الأنظمة حتى يكون له متنفساً اقتصادياً واجتماعياً ونافذة على العالم إذا أراد لنفسه ولشعبه الحياة. من هنا إذا تعرض الكوردي في منتصف الطريق إلى غدر ذلك النظام (وهو متوقع منذ اليوم الأول، مثل الموقف التركي من الاستفتاء ومن كركوك) فذلك لا يعني خطأ حساباته وعدم اعتباره من دروس أسلافه ووقوعه في الحفرة ذاتها، بل يشير إلى اضطراره لذلك وإلى خياراته المحدودة. لهذا من الإجحاف النظر إلى تعامل الكوردي مع واحد أو أكثر من تلك الأنظمة على أنه (دائماً) انتهازية ودليل على السير في درب السقوط ذاته، لأنه ببساطة يسير في هذا الدرب “مكرهاً لا بطلاً”. 
    على المستوى الخارجي هذا العبقري الكوردي كغيره من السياسيين العالميين المحنكين والخبراء سينتظر الفرص المناسبة ليقوم باستغلالها لمصلحة قضيته، وسيحاول الاستفادة أيضاً من التناقضات القائمة بين خصومه من الأنظمة وتلك الموجودة بينها وبين القوى العالمية الكبرى، أو تلك الموجودة بين القوى الكبرى ذاتها وسيتحالف مع واحدة أو أكثر من تلك القوى لكي تعطيه دعماً ودفعاً ومشروعية، ولكي تقوم بحمايته من تهديد خصومه له. لكن العبقري المسكين سيكتشف في لحظة ما أن هذا الحليف الدولي الكبير قد تخلى عنه في منتصف الطريق (كالموقف الأمريكي من الاستفتاء ومن كركوك، أو الموقف الروسي من جمهورية مهاباد) لأن مصالحه مع الأنظمة الحاكمة أكبر من مصالحه مع الكوردي. 
    هذا أيضاً لا يعني بأي حال أن العبقري قد تعرض لتلك الخيانة لأنه لا يقرأ التاريخ، وإنما لأنه لا يملك خياراً بديلاً عن تحالفه مع تلك القوة الدولية (إن لم تكن هي تحديداً فستكون غيرها)؛ فهل يستطيع صاحب أية قضية (الفلسطيني مثلاً) أن يحقق شيئاً لشعبه دون مساندة وحماية من قوة أو قوى عظمى؟. شركاء الكوردي المفترضون المحليون يريدون إلغاءه فيلجأ إلى قوة كبرى لأنه مضطر إلى ذلك وليس لأنه بسيط يثق بها أو لأنه مصاب بفقدان الذاكرة. في النتيجة الكوردي مضطراً يتعامل مع اثنين: القريبين أعداء حقه، والبعيدين الذين تركوه دائماً في منتصف الطريق، لأنه في الحالتين لا خيار آخر أمامه.
    دعونا نفترض من جديد أن هذا الكوردي العبقري العاقل والمثقف والذكي جداً قرر أن يستفيد من تجارب أجداده وأشقائه وأعمامه وأخواله وجيرانه الأقربين والأبعدين وألا يتعامل مع أي نظام إقليمي يحتل جزءاً من أرض كوردستانه التاريخية لأنه لا يريد خيراً للكورد. وفي الوقت نفسه قرر ألا يتحالف (كما يطالب بعض الكورد) مع أية قوة دولية كبرى ذات تاريخ سيئ مع قضيته لأنها في النهاية تفضل مصالح حلفائها الكبار في المنطقة على مصلحة الكوردي المسكين فتضحي به، فيبدو في النهاية في عيون قومه وعيون العالم ساذجاً وغبياً لا يستفيد من تجاربه الكثيرة. هذا الكوردي العبقري القوي والغيور ما الذي يمكن أن يحققه بقراره “الذكي” هذا؟ الجواب: لاشيء. والسبب، لأنه سيكتشف بعد قليل أنه (بمقاطعته لجميع الأنظمة المحيطة به) قد حكم على قومه بالخنق والفقر والأمراض المزمنة والجلدية لأنه أغلق على نفسه وعليهم كل المنافذ الممكنة. وسيكتشف أيضاً أنه لن يستطيع أن يتحرك أبداً لتحقيق أي هدف من دون قوة كبرى تدعمه وتحميه، وأنه لو خانته أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا مائة مرة أخرى فإنه في المرة رقم مائة وواحد سوف يضطر للتعامل مع واحدة منها أو أكثر أملاً في تحقيق شيء من أحلامه. وهل لصاحب حق أن ينتصر إذا عمل بمفرده في مواجهة غاصبي حقوقه وأدار ظهره لكل القوى الفاعلة التي بيدها مصير العالم؟. 
    الآن، لماذا تتخلى تلك القوى الكبرى وغير الكبرى عن الكوردي في منتصف الطريق أو قُبيَل آخره؟ الجواب كما ترى هذه القراءة: أولاً لأنها بتضحيتها بالكورد لا تخرب شيئاً قائماً ولا تغير حدوداً مرسومة ولا تخسر مصالحها التي بَنَتْها مع الدول الأخرى منذ مائة عام. أما إذا دعمت الكورد حتى النهاية فإنها ستخسر حلفاءها وأصدقاءها وستجلب المشاكل للعالم بسبب تغييرها للحدود الذي قد تنتقل عدواه إلى أماكن كثيرة بما فيها تلك الدول الداعمة. السبب الثاني هو أن تلك القوى لا تخشى أن تخسر الكورد عندما تتخلى عنهم لأنها تعلم أنها متى مدت يدها لهم مستقبلاً فإن العلاقات ستعود معهم كما كانت، ليس لأن الكورد أغبياء أو مصابون بفقدان ذاكرة، بل لأنها تعلم أنهم مضطرون لذلك، إذ لا خيارات أمامهم كما سبق الحديث.
    كل القادة الكورد الذي خاضوا في هذا السبيل كانوا عباقرة بالنظر إلى الظروف الصعبة التي أحاطت بعملهم، من الشيخ سعيد بيران إلى الرئيس مسعود بارزاني مروراً بقاضي محمد والملا مصطفى البارزاني وغيرهم الذين اتهموا ظلماً بعدم أخذ العبرة من تجارب أسلافهم. من يتابع الكورد في محطات سعيهم الرئيسة لتحقيق حلمهم سيكتشف أنهم في معظم تلك المحطات (سواء أصابوا في تقديراتهم أم أخطؤوا) لم يكن أمامهم سوى ما قاموا به، بغض النظر عن التفاصيل الصغيرة التي لم تكن لتغير من النتيجة النهائية شيئاً. ولذلك يبقى الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجنب الكورد الوقوع في تلك الحُفَر المتشابهة ويجعلهم في عيون الناس أذكياء هو أن يتخلوا عن حلمهم (ولن يفعلوا ذلك) ويقبلوا بالعيش في الدول التي تقتسم كوردستانهم بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية أو وافدين وطارئين وضيوفاً ثقيلي الظل عليها كما يرونهم منذ عقود. ولكن ما دام الكوردي يمضي بهذا الإصرار فإن مثل هذا السيناريو سيبقى قابلاً للتكرار. 
    خلاصة المسألة أن الكوردي مبتلى بأمرين: حلمه الأزلي الذي نشأ قبل قرن، وإصراره على تحقيق ذلك الحلم. الخيارات المتاحة أمامه لتحقيق حلمه ذاك قليلة ومحدودة جداً ومؤطرة ومسقوفة. ولذلك وقع ويقع وسيقع دائماً في الحفرة ذاتها أو في حفر متشابهة ما دام الواقع ذاته مستمراً والمعادلات الإقليمية والدولية ذاتها قائمة. وذلك ليس من غباء، بل لأنه متمسك بحلمه ومصرّ على تحقيقه، على الرغم من معرفته أن الحلول والسبل إليه محدودة، وأن الخصوم والحلفاء لا يعرفون سوى مصالحهم. في طريقه إلى ذلك الحلم لا يملك الكوردي من الخيارات ما تجعله يغير طريقه عن الحفرة التي وقع فيها سابقاً، فيجد نفسه سائراً فيها من جديد، آملاً في أن  تكون الطريق خالية من الحفر هذه المرة، أو أنه ربما يجد في مكان ما من الطريق سبيلاً آخر فيغير مساره ويتحاشى الوقوع في الحفرة من جديد.
    نعم، الكوردي يتحالف مع الآخر الذي يتوقع غدره وخيانته فيقع في الحفرة ذاتها، ولكن ليس لأنه غبي لا يفيد من تجاربه، بل لأنه حالم ومؤمن بحلمه ومحروم منه ومصرّ على تحقيقه. إنه عاشق لحلمه، ولا يملك إلى عشقه ذاك غير هذا السبيل. مَثَل الكوردي في هذا كمثل الفراشة التي تعلم أن رفيقاتها احترقن من قبل عندما اقتربن من النار، ومع ذلك تسير هي أيضاً في الدرب ذاته وتحترق. ذلك لأن الفراشة تعشق النور وليس لأنها تجهل النار. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه: المقال منشور في جريدة بينوسا نوـ القلم الجديد، العدد الأخير (78) كانون الأول ديسمبر 2018.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…