حسين جلبي
قبل خمس سنوات، انطلقت فضائية “روداو” الناطقة باللغة الكُردية؛ من هولير عاصمة إقليم كُردستان، وذلك بامكانيات مادية ضخمة وطموح كبير. أشاع بعض القائمين على “القناة البرتقالية” القول؛ بأنهم لا يسعون لأن تكون قناتهم النسخة الكُردية من فضائية الجزيرة القطرية فحسب، بل إلى تجاوز الأخيرة للوصول إلى العالمية. ولقد تسنى لي مشاهدة “برومو” القناة أكثر من مرة؛ والذي تستعرض خلاله عدداً من مراسليها في بعض العواصم العالمية، ومن بينهم مراسلتها في ألمانيا، التي تقول في معرض التعريف بالقناة، قبل طرح سؤال ـ كما هو واضح ـ على مسؤول خلال مؤتمر صحفي بأن: “قناة روداو هي قناة معروفة جداً..”، فهل القناة هي كذلك فعلاً، وهل المعرفة دليلٌ على الجودة دائماً؟
جاء انطلاق “روداو” بعد تخصيص قناة “زاغروس” التي تبث من الإقليم الكُردي أيضاً؛ ساعة إخبارية ـ باسم برنامج آرك ـ موجهة للكُرد السوريين، وذلك بعد مرور أكثر من عام على انطلاقة الثورة السورية. في الحقيقة كان حدثاً لافتاً أن يجد كُرد سوريا لأنفسهم أكثر من نافذة أخيراً، بعد تخصيص قناة “الأورينت” بدورها ساعة بث باللغة الكُردية، وانضمام قناة “كُردستان24” إلى هذه المجموعة، خاصةً أن لهجة النشرات الموجهة للمناطق الكُردية السورية هي الكُرمانجية، وانتماء معظم كوادر تلك القنوات، أو أولئك العاملين على النشرات الإخبارية للمناطق ذاتها، ومن المفترض في ظل الثورة التي تعصف بالبلاد، وإمكانيات “روداو” المادية الكبيرة، وكفاءة كادرها التي تأتي من الانتماء أولاً؛ أن تلعب دوراً كبيراً في نقل كل الأحداث بتجرد، وتسلط الأضواء بجرأة على كل المناطق المظلمة، بحيث تتحول إلى مصدر مهم، إن لم يكن المصدر الأول، نظراً للظروف المواتية للنجاح التي رافقتها منذ البداية.
استفادت القناة من زخم الثورة السورية، ومن تنوع الحدث في المناطق الكُردية من البلاد، ونقلت الكثير من الأحداث الساخنة في بداياتها، واستصافت ضيوفاً لهم وجهات نظر مختلفة، إلا أن نقطة مقتل القناة بالنسبة للكُرد السوريين، كما هي السبب في متابعتهم لها؛ كانت في الساعة الخبرية الموجهة لهم تحديداً، والتي تأتي مرة واحدة كل أربعة وعشرين ساعة، وذلك مساء كل يوم؛ بعد أن يكون النهار بأخباره الصاخبة قد انتهى، لتأتي ساعة “روداو” الخبرية بأخبارٍ “بائتة” تقريباً؛ وتكون مجرد تذكير ببعض ما علم به الجميع عبر وسائل التواصل الاجتماعي خاصةً؛ بعد أن تناقلوه عمن علم به بوسائله الخاصة، وتفشل بذلك في أن تكون المصدر الأول للخبر، بحيث لم تستطع منافسة الفيسبوك أو صفحات بعض نشطائه، هذا إن لم تكن تنقل عنهم. أما استضافتها للضيوف فقد دخلت ضمن “التنوع الفلكلوري”؛ وخضع غالباً لاعتبارات تتعلق بالمزاج الشخصي والمحسوبية والأجندات بعيداً عن الموضوعية، ولم يكن هؤلاء غالباً أصحاب اختصاص، ولم يمتلكوا بالتالي الامكانيات لتقديم رأي واضح أو تحليل موضوعي، بل كان حضورهم مجرد تسجيل مواقف وتقديم تبريرات،. كما كانت الطامة الكُبرى هي في بعض الأسئلة التي توجه للضيف، والتي تفتقر للمناسبة وتظهر المستضيف بمظهر الجاهل بالواقع، المصر على إحراج ضيفه، وفرض وجهة نظره عليه للعمل به.
لا شك في أن سيطرة حزب العمال الكُردستاني على المنطقة بقوة السلاح، حد من حرية الحركة بالنسبة للجميع، لكن قناة “روداو” التي أفردت مساحة واسعة لمسؤولين في نظام الأسد؛ في نشرتها الموجهة للكُرد السوريين، “جاملت” الحزب كثيراً إلى حد الخضوع له، وتكاد أن تتحول مؤخراً إلى أحد أبواقه، والناطق الرسمي باسم أشخاص هامشيين في إدارته، لولا وجود القناة لما سمع أحد بهم، الأمر الذي يدفع المرء إلى التساؤل عن هوية هذه القناة، وفيما إذا كانت تمتلك استراتيجية حقيقة أو خطة عمل، وعما تريد أن تقوله؛ سوى التواجد بأي شكلٍ كان ومهما كان الثمن، ونشر ما يصل إلى علمها أو ما يتم توجيهها إليه دون فرز، إذ ليس لحصتها الأخبارية العتيدة بداية أو نهاية واضحة، بل تأتي على شكل “خبط عشواء”؛ بحيث قد يتحول خبر هامشي فيها إلى رئيسي تسلط عليه الأضواء؛ ويغيب بالمقابل حدث مهم عن الشاشة؛ بسبب عدم الوعي به أو المنع من تغطيته، وذلك حسب “وردية العمل” كما يبدو، أو التأطير الإعلامي الذي تقوم به جهلاً أو قسراً. والأخبار من جهةً أُخرى لا تبدو أخباراً في القناة، بل مجرد حكايات تحتوي شحنات عاطفية؛ تختلف شكلاً ومضموناً حسب شخص مقدم الحصة، الذي غالباً ما “يُمنن” المشاهدين بوجود القناة، وبما تتفضل به عليهم من أخبار، ويتعامل مع المشاهدين وكأنهم لا مصدر آخر لهم سوى قناته العظيمة، ويتحدث بطريقة الحكواتي، أو كأن برنامجه مسلسل؛ وهو متأكد من حرص الجميع على عدم تفويت إحدى حلقاته، وما زاد الطين بلة في الحلقات الأخيرة من هذا المسلسل، عدا عن ضعفها وكونها مجرد تعبئة وقت، هي بث الكراهية والتحريض على العنف، فبعد التذكير بالفقرة اليومية عن “حرامية الدجاج” في مخاطبة للغرائز، تنتقل القناة إلى فقرات أُخرى، مثل عرض فيديوهات من وسائل التواصل الاجتماعية كما هي، لا تصلح للعرض والمشاهدة، بسبب مخالفة مضمونها للمعايير المهنية للنشر.
لقد كشفت العملية العسكرية التركية في عفرين ضعف الكُرد، وحقيقة حزب العمال الكُردستاني ووظيفته، وعورة الإعلام الكُردي بما فيه قناة “روداو”، والذي حاول التغطية على ضعفه وغيابه من خلال اللجوء إلى الشعبوية، والسير خلف الناس بدلاً من مواجهتهم بالحقائق. كانت صفعة مدوية تلك التي وجهها صحفي تركي يعمل مع “فرانس برس”، قام بنشر صور اللصوص وهم ينهبون بيوت الكُرد وأملاكهم في مدينة عفرين، عقب فرار حزب العمال الكُردستاني من المدينة؛ أمام زحف الأتراك وفصائل سورية معارضة موالية لهم. كانت الصور المنشورة فضيحة للإعلام الكُردي الغائب، قبل أن تكون فضحاً للفصائل السورية المعارضة؛ التي دخلت عفرين على الدبابة التركية باسم التحرير، لكن عناصرها قاموا بالنهب الذي وثقه عدسة الصحفي المشار إليه. بدلاً من وجود مراسلين لها في المنطقة، لجأت القناة التي تحتفل هذه الأيام بالذكرى الخامسة لتأسيسها؛ إلى أسلوب الفيديو وصنع خرائط ومجسمات ضوئية في الأستوديو، ومحاولة تقديم شروحات لما يجري على الأرض، من خلال تصيد الأخبار من وسائل إعلام مختلفة ومن صفحات الفيسبوك، وكذلك من رسائل بعض المواطنين الذين يزودون ذويهم بالأخبار، إلا أنها لم تنجح في تقديم أي جديد، بل كانت متأخرة عن الخبر المتغير على مدار الساعة، وكان الناس خارج الأستوديو يعرفون قبلها وأكثر منها، ولديهم من الصور والوثائق أكثر مما لديها بكثير.
لقد تحولت قناة روداو إلى شبح لقناة بدأت بقوة، لكنها لا تبذل جهوداً لتطوير نفسها؛ وتقديم مادة مفيدة للمشاهد، أو للتغلب على مشكلة عدم وجود مراسلين لها؛ في المناطق التي تعني المشاهد قبل غيرها، إذ يبدو “السلق” سمة واضحة لحلقات متفرقة متباعدة من الأخبار؛ تابعتها لغرض معرفة واقعها، ومحاولة كتابة مادة موضوعية بعيداً عن التجني. والحقيقة هي أن متابعة القناة لم تضف إلى معلوماتي شيئاً، وعدم متابعتها لم يجعلني أشعر بأنني افتقدت شيئاً، بل يشعرك الأمر بأنك تتابع الشئ ذاته بشكل مكرر ومبتذل، والقناة لم يكن لها يوماً سبق صحفي يمكن أن تعوّل عليه. إن قطع القناة بثها بشكل دوري نقريباً، خلال نشرة الأخبار الموجهة للمناطق الكُردية السورية، والانتقال إلى عواصم عالمية لنقل أحداث مباشرة، أو وجود مراسلين لها في دول مختلفة لا يعني بأنها انتقلت إلى مصاف القنوات العالمية، طالما أنها عاجزة عن تقديم الحدث الكُردي الحقيقي بمهنية للمشاهد الكُردي، وهو الذي يستطيع متابعة الأحداث العالمية المباشرة من مصادر أُخرى، إذ أراد ذلك.