شفان إبراهيم
تلطّخ الرياضة بالسياسة في الشارع الكُردي، كامتداد للصراع الكُردي العربي عبر عقود طويلة. لكن نكهة اللطّخ هذه، إنها تبتعد عن الهدف أو لنقل عن الطرف الرئيسي في الصراع، لتصل إلى الطرف المُشارك للكُرد في همومهم. ثمة قمع مزدوج طرف منه الشعوب العربية ومنتخباتها وفرقها الرياضية التي لا تتلقى الاهتمام المادي والمعنوي المطلوب فتكون بأسوأ الحالات والتاريخ الكوروي، وطرفه الأخر قوميات لم تحظى بفسحة أمل أو اهتمام.
عادة ما يكون الصراع بين الضحية والجلاد، لكن اشتغال الأنظمة على تغيير مسار التوجه، يعني اشتغال الضحايا بعضهم ببعض عوضاً عن التوجه صوب الجهة القامعة والجلاد الذي لم ولا يفرق بين الضحايا.
قبل بضع أعوام. تابعتُ إحدى مباريات فريق أربيل في بطولة الأندية الأسيوية في إحدى المطاعم في مدينة قامشلو، لم استطع تفهم طبيعة وتركيبة أبن جنوب الرد في محافظة الحسكة وهو يُشجع نادي من جنوب شرق أسيا. تبادلنا أطراف الحديث الذي بدا واضحاً عليه رغبته في الاختصار قائلاً ” أحسن ما شجع فريق كُردي” علماً أن أبناء جنوب الرّد لم يتمتعوا بالماء النظيف والمُحلى سوى قبل سنتين أو أقل قبل الحدث السوري. أنحصر همه في خسارة فريق كُردي مقابل فريق أخر لا يكاد عقله يسعفه في حفظ أسمائهم الغريبة.
في ليلة مباراة المنتخب التونسي ضد نظيره الإنكليزي، أسعفتني ذاكرتي لمراجعة حواري مع أبن جنوب الرّد. في إحدى المنتزهات الصيفية أنقسم الحضور بين مشجع لتونس وأخر لانكلترا، وهذا الأخير كان وفق شريحتين، الأولى وهي الأكثر كانت تميل لتشجيع الانكليز بشيء من العاطفة الميالة نخو أحد المنتخبات التي يعشقها أو يشجعها أو يرغب أن يجدها فائزة كحال أي شخص طبيعي. والشريحة الأخرى وكانت الأقل رأت في فوز المنتخب الانكليزي ارتياحا من منطلق القضية الكُردية في صراعها مع الأنظمة العربية. هذه اللوحة مواجهة مع لوحة العربي في رغبته بفوز الفريق الأسيوي على نظيره الكُردي، تُلخص بهدوء مجرى التأسيس لذهنيات لا يمكن لها الخروج من التأطير.
بينما كانت تجري مباراة المنتخب التونسي ضد المنتخب الانكليزي كانت المشاعر مختلطة وجياشة وشديدة التباين وتتقاذف المتابعين بين الراغب والراغب بفوز هذا أو ذاك. وكانت الذاكرة الكُردية تتقدح بين أتفاق قسم من الأنظمة العربية ضد التطلعات المشروعة للقوميات والشعوب المغايرة، وبين مظلومية الشعوب العربية جراء فقدانهم الإحساس بآلام الآخرين، وهم الفاقدين لأي حلمً أو حقٍّ في بلدهم. في تلك اللحظات لم يكن المنتخب التونسي سبباً في تجريد مئات الألف من الكُرد لجنسياتهم، ولم يكن المنتخب السعودي سبباً لفقر حالهم وحرمانهم الشديد، كما لم يتسبب المنتخب المصري بتشكيل الحزام العربي وسلب الأراضي الزراعية العائدة بملكياتها للكُرد، ولم يكن بأي حال من الأحوال المنتخب المغربي مُتسبباً بتعريب المدن والقرى الكُردية وتغيير أسمائها وحرمان أبنائهم من تأسيس وافتتاح الجامعات والمعاهد في المناطق الكُردية.
بين كل هذا وذاك. تذكر أحدهم إن المُيتم لم يكن سوى الفريق الأخر. انكلترا صاحبة الشراكة في تتمة تقسيم الأجزاء الكُردية تاريخياً عبر سايكس بيكو. آلا يحق لنا التساؤل لماذا نُشجع انكلترا دون تونس، بعيداً عن عشق أحدهم للمنتخب الانكليزي كحالة عاطفية أو اقتناع بمستوى اللعب وغيره. وهو السؤال عينه الذي يلفح ناصية المشجع العربي الذي يُرهق حنجرته ضد أي فريق كُردي يُنافس أيّ فريق عربي يَبعد عنه آلاف الأميال.
ثمة قواسم مشتركة بين المشجعين العرب والكُرد، فكلاهما أضاع البوصلة وتاها في غياهب المعارك الجانبية بين الشعوب التي تتشابه في مظلوميتها من مراسيم وقرارات تصدر عن أنظمة تلمّ الجميع تحت سياطها.
اللاتوازن الذي يعيشه الرياضي السوري بكُرده وعربه على حدًّ سواء يدفع إلى أمرين أما القسوة أو التمزق الداخلي. ومن كالسوريين يعيشون هذين التركيبين المتحاربين والمتناطحين، تمزقا داخلياً وقسوة في الردّ على الجهة التي لا تمت بصلة لضياعه وفقدانه الإحساس بمصدر الرئيسي للخطر.
حالة الكُردي السوري اليوم تجاه المنتخبات العربية، تُعاكس كثيراً الحالة الكُردية بالأمس والعربية اليوم. فالكُرد كانوا ينظرون إلى المنتخب السوري نظرة تُلخص مطاليبهم في سوريا عبر تمثيلهم في أيّ كيان وتواجدهم الرسمي والدستوري على الصعيد السياسي، وهو ما كان يشبه كثيرا رغبتهم في تواجد من يمثل نادي الجهاد بما يشكله من رمزية فاقعة للكُرد في عموم مناطق التواجد الكُردي في سوريا، وكان الكُرد دوماً يسعون للفصل بين مؤسسات النظام السوري الذي أرهقهم ومزقهم وقسا عليهم بكل شيء، وبين الانتماء لمنتخب يمثل وطناً سعى الكُرد إلى الشعور بالانتماء إليه، ولم ينظر المُهتمين الكُرد إلى المنتخب الوطني بالنظرة ذاتها إلى دوائر القرار والمؤسسات المجحفة بحق قضيتهم العادلة، على الرغم من كون المنتخب الوطني إحدى المؤسسات والرموز الوطنية للدولة السورية.
وبالأمس كان المنتخب السوري يحاول الوصول إلى المونديال، أنقسم السوريون على أنفسهم بين مُشجع ومؤيد له، وبين ناعتاً له بمنتخب النظام، ومنتخب البراميل، ومنتخب القتلة. حديثاً أكتشف السوريون ما أكتشفه الكُرد قبل عقود، حول أن الرياضة والسياسة تجتاح إحداها الأخرى، وأن لا مجال لإنكار دور التأثير النفسي على وضعية المقهور والمظلوم، وأن ضياع البوصلة من سمات الشخصية المقهورة.
لو شارك المنتخب السوري اليوم في مونديال روسيا، إلى جانب من سيقف الرياضي والمُهتم السوري بكُرده وعربه، خاصة لو افترضنا أن المنتخب السوري لعّبَ إلى جانب المنتخب التركي بما قدمته حكومة تركيا للسوريين، وحساسية شريحة واسعة من الكُرد تجاه تركيا، والمنتخب الروسي بما فعلته دولتهم بسوريا وشعبها.
الكُل ضاعَ وسط تمزقه بين القسوة والتمزق. والذهنيات لم تتقدح ولم تتغير ولم تتبدل على صعيد التعامل البيني بين المظلومين والمتشابيهن في مطاليبهم والمتفقين على الخروج بصيغة حكمً تلم شتات الجميع.
قبل أشهر شاركت انكلترا في قهر الكُرد على قلبهم /كركوك/ وبالأمس البعيد تسببت انكلترا بوضعهم إلى جانب العرب دون استشارة أحداً منهم، وتمزيق أحلامهم وتفتيت أواصر القربة وتوزيع الأسر والعوائل بين الخطوط الجغرافية المصطنعة. ومنذ 7سنوات لم تكترث أغلب الدول العربية لمصير الشعب السوري ومعاناته، عدا عن إغلاق حدودهم في وجه السوريين.
لو اتفقنا أن لا فصل بين الرياضة والسياسية، هل يحق للكُردي أن يُشجع الانكليز أو منتخب أي دولة أوربيا أخرى، أم أن الوسط والجغرافية القريبة أبدى وأفضل وأهم، وتساهم في خلق أجواء أكثر رياحة وألفة، من الفرح لخروج منتخب عربي. وهل يحق للسوري أن يتأفف أو يستهجن تشجيع الكُردي لمنتخب أجنبي ضد منتخب دولة عربية لم تكترث لحال السورين، ولو بعلبة واحدة من حليب الأطفال.
بقيَّ أن نقول: لم تغير رياح الربيع العربي الحدّ الأدنى من الذهنيات المتراكمة منذ عقود.