ماجد ع محمد
منذ أن أطلق المواطن السوري، محمد أحمد عبد الوهاب، في بداية الثورة السورية 2011 جملته الشهيرة “أنا إنسان ماني حيوان” رداً على التعامل الفظيع لقوات النظام مع طلاب الحرية، ومن ثم ظهور عبارات مناقضة لجملة عبدالوهاب مثل “أنا حيوان ماني إنسان” للدلالة على مدى الوحشية التي بلغها الإنسان وخاصةً أجهزة أمن النظام وشبيحته، لم يعد ثمة حرج في ذكر اسم أحد الكائنات من عالم البهائم وتسييره في الطرق مع أسراب الأوادم، أو ذكره في أي مكانٍ كان بجوار الإنسان أو بجانب اسمه أو ظله إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك الاجتماع، وطالما قيل سابقاً بأن “من ساواك بنفسه ما ظلمك” فما كنا من الظالمين قطُ أوان الذّكر إذن، بما أننا نعمل في الإعلام، وننتمي إلى تلك الفئة من جهة المهنة والاختصاص، لذا نعتقد بأن الاخوة المتحسسين من كلمة الكلب لو تذكروا بُرهةً الصفات المحمودة للكلاب، مقارنةً بالممارسات الشنيعة والصفات القميئة لبعض البشر لَما زارهم طيف الإنزعاج على ما نقول.
وصحيحٌ بأن البصبصة والترضي والتودُّد والتآلف من بعض سلوكيات الكلب حسب الدميري في كتابه حياة الحيوان الكبرى، إلاَّ أن من عجيب طباعه وفقاً للدميري نفسه: “أنه يكرم الجلة من الناس وأهل الوجاهة، ولا ينبح أحداً منهم، وربما حاد عن طريقهم وينبح بمن كان دنس الثياب والضعيف الحال” وذلك بخلاف بعض الإعلاميين الذين يجدون لذتهم في نهش ذوي الكرامات، والطعن بأصحاب المواقع الاجتماعية الرفيعة، ولا يبلغون كامل نشوتهم السادية إلاّ عند النيل من البسطاء الذين يقدرون عليهم، مع سكوتهم طبعاً وخنوعهم لابدين صاغرين أمام مَن لهم سطوة ونفوذ وسلطان.
أما ما الذي يربط الإعلامي بالكلب فأذكر بأني كنت قد كتبت عام 2012 مادة طويلة عن المشتركات بين الإعلامي والكلب، ولكني لا أتذكر من كل المادة تلك التي بقيَت في منزلي بمدينة حلب بين المكدّس من مجموع أوراقي التي لم يسعفني الوقت لتدوينها على الحاسوب، ولا فطنت حينها لإنقاذها مع كتبي التي حملتها معي إلى القرية، إلاّ أني أتذكر منها هذه الفقرة ” بعض الإعلاميين يشبهون الكلاب في بعض النواحي المتعلقة بالارتزاق ولكنهم يناقضونهم تماماً في الثوابت، مثلاً من الممكن جداً أن يحاكي الذي نقصده تصرفات قرينه الحيواني بالنسبة لسرعة تغيير المنبر الذي يطل منه، مادحاً أصحابه، ممالقاً مَن يسترزق مِن ورائهم، وموجهاً رشقاته الى الآخرين من مساطبهم، كالكلب الذي ينتقل من عتبة إلى أخرى طلباً للإرتزاق، وكلما غيّر موقعه بدأ بالعواء في وجه مَن بقىي في الجِهة التي جاء منها، ولكن الذي يميِّز الكلب عنه، أن الكلب يبقى محتفظاً بإرث الوفاء للأخير، كما أنه لا يتطرف في مواقفه مثل قرينه الآدمي مع من للتو فارقهم، بينما الإعلامي اللئيم فقد يصبح من أكبر الجاحدين لمن أوصلوه الى المنابر، ومَن جعلوه نجماً يشار إليه بالبنان، وهو بخلاف الكلب في المبادئ والوفاء الصرف الذي إذا ما استُدعي من قبل ذويه بعد الضرب والطرد رجع إليهم، وإذا ما لاعبه صاحبه حتى الوصول إلى مناحي الألم، يبقى الكلب حريصاً فيعض صاحبهُ العضَ الذي لا يؤلم، علماً أن أضراسه لو أنشبها في الحجر لنهشته، ويقبل التأديب والتوبيخ بصدرٍ رحب؛ بينما الإعلامي الذي نحن بصدده فمن السهل عليه الإنقضاض على من غذوه، والوثوب على مَن آوه وساهموا في تنشئته وعملوا على تبوئه المراتب العليا ووصوله إلى أعلى المقامات، كما أن الإعلامي المعوّل على البهلوانية بهدف الارتزاق لا غير، فإنه قد ينتقل من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، كأن يكون ذا خلفية ماركسية أو ليبرالية صرفة ثم ولمجرد تغيير الموقع الارتزاقي يصبح متطرفاً طائفياً أو متشدّداً دينياً لا يطاق” هذا ما أتذكره من كل تلك المادة، وهي عموماً كانت في إطار نقد سلوكيات بعض أهل الاختصاص.
ولكن علينا أن لا ننسى مع ذكرنا لكل تلك المثالب الآنفة الذكر، بأن ثمة معاناة جلية تعبّر عن حالة إنفصام حقيقي يعيشها بعض الصحفيين، ولتتصوّر نفسك أيها القارئ بأنك صحفي وتعمل في أحد مجالات الإعلام كعازف ماهر للجهة التي تعمل معها، حيثُ عليك أن تميل معها بدون الشعور بالذنب إن اقترفت الجهة يومياً ولو بيدراً من الذنوبِ، وذلك من غير أن يداهمك أي احساس بالتقصير تجاه كل المجريات القميئة في محيطك، حتى وإن كانت الجهة التي تعمل في ظلها غارقة في الانتهاكات المهنية، أما قصة أن تُخضع نفسك تلقائياً لمحكمة الضميرِ ولا تستطيع السكوت عن الأخطاء، فحينها هيئ نفسك قبل كل شيءٍ للجوعِ والحرمان من أبسط الحقوقِ والإهمالِ العمد، وربما بعد أن تفقد معاشك على صحوة الضميرِ لديك، تُكافأ بالملامة المتلاحقة من قِبل أقرب المقربين إليك، باعتبارك كنتَ غبياً ولا تدري بمصلحتك، وذلك حسب المفهوم الشعبي للمصلحة في عموم البلاد.
كما أن من مساوئ مهنة الإعلام أن الصحفي يبقى مُطارداً بالشكوك ليل نهار، فتغيب عنهُ حالة الاستقرار النفسي لصالح الاضطراب البحثي، ووضعهُ أشبه بوضع الذين أكرمتهم الطبيعة بفضيلة حاسة الشم، فيبقى متحرياً يتبع الروائح حتى يتأكّد من مصادرها الأصلية، وذلك سواءً أكان المصدر من علية الناس أم من خُم الأرجاس.
على كل حال وبعيداً عن بصبصة الكلاب والتزلف، أو الجحود القميء لدى بعض الإعلاميين، فإن الصحفي/ الإعلامي عليه أن يرتقي بما يُقدمه سلوكياً وإنتاجياً، بما أن ألبير كامو كان قد رقّاهُ وسمّاه مؤرخ اللحظة، حيث أن من بعض صفات المؤرخ الحصيف والرصين أن يكون أميناً مخلصاً فلا يكذب، ولا ينتحل ولا يزوّر الوقائع، ولا ينافق أصحاب الجاه والمال والسلطان، ولا يخفي الوقائع والحقائق التى قد لا ترضيه أو ترضي بني جلدته أو المؤسسة التي يعمل بها؛ كما أن الإعلامي هو ليس فقط ذلك الذي يُمطر الناس بالأسئلة، فلو كان الأمر كذلك فهل كانت هنالك حاجة ملحة لكليات الإعلام، باعتبار أن الطفل في بداية تعلمه للكلام أكثر من يُمطر المحيطين به بأسئلته المتواصلة، كما أنك قد ترى جاهلَ الأمور معنياً جداً بطرح الأسئلة التي قد لا تخطر في بال أي فهيم، فهل ثمة داعٍ عندذاك لدراسة الصحافة؟ ما دام الشخصُ أيَّ شخص مفطورٌ على التساؤل، هذا طبعاً إذا ما اختُزلت مهمة الإعلامي كما يراها البعضُ في إعادة طرح أسئلة الشارع، تماماً كالببغاء الذي لا عمل لديه غير التقليد والمحاكاة ومداهمة الضيوفِ بالتساؤلات المستساغة أو المحرجة.