عندما تحتضر مدينة هي قامشلي «عن زيارتي الأخيرة إليها ما بين 18 تموز- 19 آب 2018 »

ابراهيم محمود
11- أطفال قامشلي المشبوهون 
في العودة إلى الطفل الذي يقيَّد أمره إلى مصير مجهول غالباً، جرّاء الجهل أو الاستخفاف به، لأن هناك ما هو أهم منه بالنسبة إلى الذين يتحينون فرصاً شتى لإشباع نهم مالي لديهم. أشير إلى أن ما يعرَف عن المجتمع، أي مجتمع، هو كونه يتوقف في تحديد مستقبله، على نوعية اهتمامه بالطفل، فكيف يكون الحال حين يدفَع به وهو يحمل علب علكة، أو محارم أو قطع بسكويت منتقلاً من شارع إلى آخر، ومن طابق بناية إلى آخر، عارضاً ” سلعته ” وهو يتوسل هذا أو ذاك، ليشتري منه معروضه، وهو في أمس الحاجة إلى أعلى درجات العناية والرعاية واليقظة، لئلا ينحرف أو يصبح قنبلة موقوتة ؟
لقد أرعبتني رؤية أطفال صغار تتراوح أعمارهم بين السادسة وما دونها وحتى الثانية عشرة وأكثر، وهم في حالة رثة ثياباً، وهيئة مريعة محيّا وجه، في شوارع قامشلي، حيث يتواجد الناس: في الأسواق، العيادات الطبية، المكاتب المختلفة، حاملي سلعاً خفيفة مما ذكرت. وهم يلتصقون بالمارة أو مراجعي العيادات الطبّية أو أمام المكاتب والمحلات المختلفة، إلى درجة أنهم يمسكون بأيديهم، ينزلون فيها ” تقبيلاً ” وحتى ” صراميهم ” لينفقوا بضاعتهم الخفيفة، فيجري نهْرهم، أو دفعهم، وأحياناً زجرهم وشتمهم.
سوى أن مشاهد كهذه، إزاء تداعيات الأوضاع ليست بالأمر المفاجئ أو الغريب إذ إن وجهاً من وجوه المجتمع وهو في وضعية الانهيار، أو التحلل، بمقدار التدقيق في رؤية هذه الأجسام الغضة، البريئة وقد شُحِنت بالأوجاع والأحقاد معاً، يكشف عن رعب المردود تالياً .
في وسع أي متتبع لهذه المشاهد أن يوسّع حدود أسئلته، وينوع فيها، باحثاً عن آبائهم، أمهاتهم، أخواتهم وأخوتهم. أين هم، وكيف يكونون هم. عن الأوضاع المعيشية، وأصناف القيم المعتمدة في العلاقات القائمة، ليتلمس نخوراً في العمق، ومن يحرص على إنمائها وإبقائها .
هؤلاء الأطفال، الباعة في غير وقتهم، الأجسام المهيئة لتلقي كل السموم التي يسهل تخيلها من قبل الساعين إلى الإثراء السريع، في مجتمع الإيديولوجيا الضاغطة، دون السؤال عن الأرضية المطلوبة، والمناخ السوي، هؤلاء الكيانات التي يسهل التقاطها والتمكن منها، من خلال أخس الأعمال لا أخلاقية، وحتى أخذها بعيداً وتصفيتها، أو تعريضهم لإغراءات من باتوا يبحثون عن متع فاسدة، ويجدون فيهم بغيتهم، باعتبارهم أدوات مطواعة، أو بطرق مختلفة. هؤلاء، بمقدار استمرارهم وقد امتد بهم العمر، يشكلون أوبئة قادرة على تفريخ أوجه عنف شتى، أن يكونوا هم أنفسهم ألواناً من الكراهيات التي لا تبقي على أي كان، ولا أي شيء. فالطفولة المصادرة منهم، والطفولة التي جرى تسميمها، ها هي قد أتت أكلها، وهي ترد دين المجتمع الذي فرَّط فيهم، وبدءاً من العائلة، من الأقرباء. وحده العنف مرشدهم، ووحده الانتقام بأكثر الصور وضاعة مبتغاهم. فالقنبلة الموقودة باتت معدة أو مهيئة للانفجار، في مرتبة الجلاد والضحية .
أطفال كرد وغير كرد، لا ينبغي النظر إليهم بعين البراءة، وهم يلاحقون المارة أو ظل أي كان لتصريف ” بضاعته “، إنما لزوم التفكير في من يسخرونهم، من يدرّبونهم، من يراقبونهم، من يبتزونهم، ويبقونهم تحت التهديد، فهم باعة ومباعون أولاً، عارضو بضاعة ومعروضون للبيع.
ربما مشاهد كهذه، تكون من العلامات الفارقة الكبرى، والصورة الأكثر وضوحاً على بؤس مجتمع يُسمى بالمجتمع الكردي، وخرافة المستقبل الكردي، ومهزلة القائمين على إدارة أموره وهم وسط هذه التفسخات، أو مؤثر من المؤثرات الدالة على بنية التفسخ المتنامي !
أتراني بالغت في تصوير ما أشرت إليه، أتراني قصدت أحداً غمزاً ولمزاً؟ لمن يفكّر بالطريقة هذه، أدعوه ولو لبعض الوقت، أن يمد بناظريه إلى قامشليـ:ـه، وينظر، ثم يحكم !

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…