ماجد ع محمد
معلوم أن الأيديولوجيا التي تصل لحد الخناق لا تعمل فقط على إنسداد الشرايين الفكرية والثقافية للناس، وبالتالي تحض على رتق كوات البصيرة بوجه عام، إنما قد تساهم أيضاً وبقوة في ترسيخ القيم الصلدة أو الجافة أو المغلوطة في المجتمع، بل وقد تشرعن القبح الفني والأدبي وتشوّه الذائقة البصرية كذلك، ومن أمثلة ذلك، حيث إلى جانب انتشار لوحات وملامح العقيدة الأسدية المنفّرة في كل مناطق النظام، هناك في مناطق الإدارة الذاتية صور وأعلام ولافتات تفوح منها روائح الأدلجة المكبلة للعقل، وكذلك تحمل الشعارات والشاخصات والرايات في مناطق سيطرة الفصائل الاسلامية طابعها المتزمت والدال على الفناء أكثر من الحياة، وهي ليست أفضل حالاً فيما يخص الذائقة البصرية من الفئات السالفة الذكر.
وبخصوص أدلجة الأسراب البشرية سنورد ههنا مثالين صغيرين للدلالة على الحالة القطيعية التي بلغها بعض الفئات من المجتمع السوري، ولن نضرب الأمثال التي تعبّر عما كان يعيشه السوريون موالون أو معارضون إبان ظهور الشيخ عرعور كقائد وسائق لفئة من السوريين، أو ما ظهر مقابله أو بالضد منه لدى النظام ممن راح ينشر بين الطائفة العلوية فيديوهات وقصص عن وحشية الآخر الذي صار إرهابياً بنظر النظام وإعلامه وأعوانه، إنما سيكون المثالين متعلقان بانسياقات جماهيرية أخرى في مرحلة لاحقة، مع ما كان يُقال لهم، ويحفظونه عن ظهر قلب من دون أي تفكير بالرسائل التي يتلقفونها.
المثال الأول:
فأثناء سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على منطقة عفرين، بعد عملية الاستلام والتسليم بينه وبين النظام، وحيث كانت الحرب الإعلامية في أوجها بين أنصار الفكر الأوجلاني وأنصار الفصائل الاسلامية، وفي إحدى المرات كان لي أخ قادم من حلب إلى ناحية جنديريس التابعة لعفرين، فلاحظ بأن الكثير من الأهالي يُفرغون خزانات المياه في شوارع البلدة، فاستفسر عن الأمر، فإذ يأتيه الجواب من أحدهم بأن الجيش الحر سمّم مياه الشرب، لذا اضطروا لإفراغ المياه تلبيةً للنداء من باب الاحتياط، حينها قال أخي لهم ومن قال ذلك؟ فردوا عليه بأن الخبر جاءهم من خلال المكرفونات النقالة التي يعمل عليها بعض نشطاء الحزب في البلدة، حيث أن الأهالي ومن دون أي تفكير بالخبر المذاع عبر مكبرات الصوت باشروا بإفراغ خزاناتهم من دون السؤال عن مدى مصداقية الخبر، ولا جاء على بال أحدهم ليتساءل من أين تتغذى البلدة بمياه الشرب؛ وقال حينها أخي للحضور ألا يوجد بينكم أحداً يُشغل عقله بالموضوع برهةً قبل اتخاذ قرار إفراغ المياه؟ وأردف ألا تعرفون بأن مياه ناحية جنديريس لها مصدرين فقط، أحدهما الآبار الارتوازية للناحية نفسها، والآخر ما يتم استجراره من قرية كفر صفرة وليس من سد ميدانكي! وهنا التزم الجميع بالسكوت الجارح، حيث راحت الحقيقة تطعن وتعري أفك أنصار الأيديولوجيا، وظلوا صامتين غير قادرين على الدفاع عن حياض العقيدة، وشعروا بأنهم كانوا منساقين من قبل الإعلام الشفاهي المؤدلج، كما تساق أية كائنات لم يهبها الله فضيلة التفكير ولو للحظات.
المثال الثاني:
يبدو أن الأدلجة في بعض الأحيان تكون رديفة الغباء، لذا فإن بعض الفصائل التي سيطرت على منطقة عفرين في شهر آذار من العام الجاري بدعم ومؤازرة وتغطية جوية من طيران الجيش التركي العلماني، سرعان ما رأينا بعض عناصرها يتفاخرون بكسر قوارير المشروبات الروحية في ناحية بلبل ومركز مدينة عفرين، ليؤكدوا ربما لمن حقنهم بسيروم الأيديولوجيا بأنهم ينفذون أوامر أصحاب الحقن العقائدية بحذافيرها، ويبدو أن الأدلجة أقفلت عقولهم تماماً ولم يعودوا يدركون أو يتذكرون شيء من قوانين تركيا، أو من نظام الحكم فيها، أو شيء عن طبيعتها الاجتماعية المنفتحة، وإلاّ لما مارسوا سلوك الدواعش ممن يعيشون العقل القروسطي بحذافيره أثناء تنفيذ مهامهم، ولكانوا عرفوا بأن أكبر الملاهي، وأكبر الخمارات، وأكبر أماكن الدعارة هي موجود في الكثير من المدن التركية، وأن كل صنوف الفجور مرخّصة من قبل الدولة، ولا يحق لأكبر حاخام ديني إسلامي التدخل فيها أو منعها، ولكن بما أن الدواعش ومن يماثلونهم في التفكير عبّروا عن الحالة القطيعية التي ارتكسوا إليها، لذا تلاءمت تصرفاتهم مع ما قيل عن “أن الإنسان البدائي أقل صبراً على البحث والملاحظة، وأسرع إلى إطلاق الأحكام الكبيرة”.
وكتتمة للمثال الثاني فإن ما يدعو للاستهجان حقاً هو أن أكثر إن لم نقل مجمل الفصائل العاملة في منطقة عفرين تخرّج منتسبوها سابقاً من بلوكوزات حزب البعث العربي الاشتراكي، وكانوا بناءً على نهج الحزب وتعليمات قائده جاهزين قبل الثورة لنسف أي كردي يسعى لتقطيع جزء من الأرض السورية وإلصاقها بدولة مجاورة، والدولة المجاورة هي طبعاً تركيا وفق مفهوم الأجهزة الأمنية لنظام الأسد وحزبه، فيما أغلب هؤلاء المقاتلين فبعد أن انشقوا عن النظام استمروا بناءً على نفس الذريعة التي رسخها في أذهانم النظام راحوا يحاربون حزب الاتحاد الديمقراطي باعتباره يريد بتر جزء من سوريا لصالح دولة مجاورة، بينما عملياً هم طبقوا ما كانوا يتهمون(ب ي د) به فعلياً، وقاموا بما كانوا يستقبحونه في الحزب المذكور لعشرات السنين، وذلك عندما سعوا جاهدين لفصل كل الشمال السوري وضمه إلى نفس الدولة المجاورة!!! عموماً ما كان هذا التقلب والتغيير سيحصل بقياس 180 درجة من دون أن يرف لمعظمهم أي جفن على ما كانوا يقولونه في الأمس وينفذونه اليوم، إلاّ العماء الأيديولوجي الذي يقودهم من ضفة لضفة كما كانت تُقاد الأسراب البشرية عبر التاريخ.
على كل حال فرغم خطورة الممارسات الميدانية لدى الكائنات المساقة بمزامير الأدلجة، إلا أنهم في نفس الوقت يستحقون الشفقة على الهيستريا التي بلغوها بسبب سطوة الدوافع التقديسية لديهم، وما آمنوا به ويسيرون في ظلاله كالهوام بدون عقل، خاصةً من غدت البارودة لديه مصدر رزقٍ وسلطان؛ أما من يستحقون الاشمئزاز بحق هم بعض من يرون أنفسهم من أهل العلم والمعرفة والثقافة، الذين في الأزمات الكبرى، والمنحنيات القاهرة واللحظات المصيرية، بينوا بأنهم دون المذكورين أعلاه منزلةً، وأكدوا من خلال رؤاهم وتصوراتهم ومواقفهم عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بوجهٍ خاص، بأنهم قادرون على أن يزاحموا الفئات المذكورة أعلاه في ممارسة العنف وارتكاب كافة أنواع الموبقات إن كانوا على أرض الواقع.