ابراهيم محمود
3- ما هو أبلغ من الترجمة في قامشلي :
ما يمكن مشاهدته عيانياً، وما يمتزج ببقية الحواس في بعض الحالات، يستغني عن كل ترجمة. بالعكس، فإن الترجمة، مهما كانت بلاغتها، تسيء إلى المكان بمكوناته. وأن تحل في قامشلي الذاهلة عما يجري فيها، وتجد انبثاق عمارات بمثل هذه الكثافة، وفيض من السيارات المتعددة الماركات والأعمار، والدراجات النارية، وهذا الدبق الصيفي المريب، والحرارة المنبعثة من كل شيء، وكأنك لا شيء، والرائحة المكربنة النفاذة حتى في مساماتك، فهي الإعلام المباشر، وليس الموجَّه بأن ” قامشلوكا Evînê ” خارج التغطية المكانية والزمانية عملياً .
إنني أتحدث فقط عن أشياء وليس سواها، وللمعني بحقيقة الأشياء هذه أن يتساءل عما تفعلها بالذين يقيمون معها علاقات: من جعلوها هكذا، ومن يتعرضون لضغطها، ومن يعانون منها، فلا تعود الأشياء هذه منزوعة القوة، إنما رهيبتها، ولعل فناناً بحجم مفارقات قامشلو وقد استحالت قامشلي، يمكنه أن يقدّم لنا مسوخاً مكانياً. والمسخ كما يتردد، هو التحول الذي يضاف إلى كائن ما، فينزع عنه حقيقته إنسانياً. إن المرئيات في وضعية زوبعة: زوبعة الأبنية وكأنها تعصف عمودياً بمن فيها وحولها وهي بسخونتها واحتضار الكهرباء، وحشرجة المولدات التي تبث أوبئتها وتودعها مستقبلاً غير مؤمَّن من أي سلامة: أي الوعد بتنامي المسوخيات، وسيول المركبات بأنواعها وهي تعصف بالصوت والصورة والرائحة والغبار المتطاير بنفخات مختلفة أفقياً، والتدافق الحديدي في اتجاهين حيث النظام المروري في بؤس حيلته، وهو ما يزيد في إيضاح الجاري على مستوى الحماس الخمس: عنف المبثوث، وعنف المكبوت، لكل ذلك نصيبه من الإسهام في تأسيس مدينة لا تشبه نفسها، ولا أي صورة جاهزة لها.
يمكن الحديث هنا عن المدينة الغول، وهي تتركب، وتظهِر عنفها بأكثر من حالة، ولا أظن أن أياً كان بقادر على وصف الجاري استناداً إلى المكرر والمستهلك كثيراً، وكثيراً جداً: إعلامياً، ومن قبل حرّاس الإيديولوجيات الشمولية، بأن الوضع الاستثنائي للبلد، وللمدينة بالذات ضمناً، يتطلب عدم تناول ما يشاهَد، ما يُسمع ويقال على أنه حقيقة قامشلي ” أي إن قامشلو لما تزل بكامل عافيتها، أو أهليتها لأن تستعيد وجهها الكردي المشدَّد عليه، ولسانها الكردي المتفاخَر به، ومشهديات القامة وغيرها “، إنما هي قامشلو المضيافة، السمحاء، المنفتحة والصبور، وهي تحتضن كل هذا الحضور الضاغط، إلى درجة شعور الأهلي بأنه غريب اليد واللسان ليس في مدينـ” ـته ” فحسب، إنما حتى في بيته أيضاً، جرّاء غزو هذه المؤثرات من الجهات الأربع، وكأن الذين يفصحون عن الجاري في مباراة مع كرم حاتمي، وقد تعمَّم، وليس من سؤال عن النزيف الروحي للمدينة، كنموذج للمدن القائمة في هذه الجهة، وانحدارها الدلالي .
كل عذر يتحول إلى عامل إدانة موجه إلى من يضفي قيمة إضافية/ تجميلية على مدينة تعيش وضعية صراخ وبكاء أخرس، وحشرجة روحية تحت وطأة ما أشرت إليه. وكل تبرير لما يجري ليس أكثر تعرية فورية لخلل يتنامى، يدفع العاجزون عن التنفس الفعلي، والتعبير الصريح عما يعايَن إلى الانطواء على جمرهم الروحي، وثمة رائحة شائطة، يقدّرها من يقرأ في ملامح الوجوه، وتغضناتها، والذين كادوا أن يشيخوا كثيراً قبل الأوان، والذين بلغوا درجة من السطوة هنا وهناك على وقع مفارقات قامشلي بالمقابل. كل ” ملطّف ” لما يصدم الأنوف تزكية للمزيد من الروائح الساعية إلى توسيع نطاق عملها التخريشي أكثر. كل تخفيف لعلة بمثل هذه الضخامة والعلامة، مخادعة للحواس، وللعقل، ولمن يريد سؤالاً يثقِل على ” دماغه .
هذا الحضور الجنائزي يتم لمدينة مغلوبة على أمرها، والمرفق بهذا الكم النوعي من إمارات التسطيح لبنيتها وهي تتنكر لاسمها ورسمها السابقين، وكتاب نعيها العملي يعلو علاها !