ابراهيم محمود
5- منظَّمات ومنظّفات بالمقابل :
قامشلياً: في الشارع الممتد ما بين منتزه ” كبرئيل ” والطريق الذي يمضي بسالكه طويلاً إلى الحسكة، وهو شبه مشلول، لأسباب أمنية وغيرها، تواجه الناظر عدة أبنية محصنة بمداخلها، منها ما يقابل زاوية ” الملعب البلدي ” ومنها ما يقابل شارع ” الكاريز ” الشهير في حي الكورنيش” بنغلادش ” في الذاكرة الشعبية الكردية “، لا بد أن تستوقفه للسؤال عن ” هويتها “: ما إذا كانت إنسانية، وفي أي تخصص، ما إذا كانت تتبع جهة دولية أو خلافها، أم أكثر !
تبعاً لمشاهدتي لها، تبرز تلك، أهم الأبنية بطابعها المنظماتي في المدينة، وإذا كان في مقدور أي كان التعريف بخاصية كل منها من خلال اسمها، إلا أن المحتوى يبقى أعمق من ذلك .
وربما أمكن التذكير بعشرات الجهات التي تستمد أسماءها ومسمياتها وهي مرفَقة بالمساعدات الخارجية، من دول، ومؤسسات دولية ونصف حكومية وغفل من الاسم في مجال الصحة والثقافة والعمل ومختلف المهارات التي تمكّن المرء من تدبير أمور معيشته اليومية، ويديرها من ينتمون إلى المنطقة، ولهم صلات مع تلك الجهات، وملؤهم ثقة بما يعملون، لا ينفكّون يثنون على الجهة/ الجهات الداعمة لهم، باعتبارها تأتي في خدمة ما هو إنساني وبشكل حي….
رأيت ذلك من جهة الأخيرة في شارع ” الوحدة ” كذلك، سوى أن الذي يلفت النظر هو أن ليس من عمل بريء، وأن الذين يتباهون باعتبارهم عاملين لدى هذه المؤسسات/ المنظمات، أو الجهات المتعددة المهام، ضمناً، وفيما بينهم، كمترجمين، كأدلاء، كعاملين ذوي مراتب، لا ينبغي أن يغفلوا عن حقيقة لا يشيرون إليهم، أو لعلهم يتنغصون لحظة الإشارة إليها، أو سؤال أي منهم عن حقيقة المنظمة، الجهة التي يعمل لديها. إن ذلك يدل، وفي الحال، إلى أي درجة يعيش هؤلاء في مجملهم بعيدين عن طبيعة تلك المنظمات، ما تقوم به، وما تخطط له، وما تسعى إليه قبل كل شيء، قبل وطء أرض ” الجزيرة الخضراء بقدمها ” الواثقة الخطى “.
لا بد من التفريق بين العمل المعلَن والعمل المضمر، كما لو أن الصفحات المسوَّدة تتضمن سطوراً وكتابات بـ” الحبر السري “، وهي تشكّل تغطية لكل شاردة وواردة في المنطقة .
من السهل جداً، وفي غمرة شعور أي عامل، حتى وهو معتد بنفسه، ومتقدم في العمر، وذو ثقافة جامعية…الخ، بالحماس إذ يسلسل القياد لمشاعره، وكله ” فتْح شهية ” مع مقابله مسئول المنظمة أو من ينوب منابه أو موكَّل من قبله في مرتبة معينة، فيجيب على أسئلة تخص المنطقة عموماً: بشرها، حيواناتها، نباتاتها وجمادها، كما لو أنه في جلسة منادمة أو أنس، غير مدقق في تتالي أسئلة الآخر. ربما بالعكس من ذلك: شعوره أنه بذلك يثبت قيمة مضافة لديه للآخر.
لكن بنية المنظمات هذه، لا تنفصل عن طبيعة عمل ” المنظّفات ” وهي بطابعها الكيميائي حيث المضار أكثر، خصوصاً لحظة غياب المعرفة الدقيقة بتركيبتها. أي ما يصل المنظمات ببنى الدول المتنفذة في الغرب، وأميركا كامتداد لها، وكيف تعتمد سياسات مختلفة، متعددة المسارات في بلوغ مراميها، ليتأكد لها في كل خطوة تخطوها مدى ضحالة الوعي بالذات، وقدسية المكان، وخطورة العلاقات بين أهليه، وهم بتعدد لغاتهم، ولا بد أن الذين يعرّفون بأنفسهم أولي أمر المكان، أو مصرّفي القوة عن قرب، معرَّضون للمساءلة مباشرة عن هذا البعد الرهيب .
ما رأيت، ما عانيت، هو أن لائحة ” الأدوية ” التي تلوّح في مواجهة أدواء المنطقة، وتشخيصها طبعاً إلى جانب طرق العلاج، لا تكاد تذكَر في نجاعتها، كون الجاري تفعيله سلباً يتعدى حدود الجلد، أو الحواس إلى ما وراء نقْي العظام، وتلافيف الجملة العصبية.
لعل بعضاً من قرّاء هذه الكلمة، أو كثيرين منهم أيضاً، لا يترددون في الحكم عليها فور الانتهاء منها بأنها في غاية البداهة، جهة المنظمات تلك، أو ما كان عليها أن تظهر بهذه الطريقة، سوى أن الحديث عن المكان/ المدينة، يفترض التذكير به، وأن مشهديات الأبنية تلك، وما يجري في البلد عموماً، وفي المدينة خاصة، تستوجب الإشارة إليها. وإذا كان علينا ألا نتجاهل الجانب الإنساني فيما أشيرَ إليه، إلا أن هذا يتطلب المزيد من اليقظة والحذر في التعامل، وفي منطقة تمور بالحساسيات التاريخية، حساسيات تكوّن لعبة دسِمة بمحتواها للعمل عليها بصيغ شتى، أي حيث تستحيل مسرح عمليات لأفكار وتوجهات وقوى لها أكثر من قناع يجلوها هنا وهناك .
أحسب أن رؤية تقطيعات مدينة قامشلي تمثّل مرآة ما لمكاشفة بنية هذه المنظمات، وقائمة الأوهام التي يعتاش بها ” زبائنها ” أو المروجون لها، والمدافعون عن إنسانيتها التاريخية ؟!