مقاومة العصر؛ التي لم تصمد حتى المغرب!

حسين جلبي
يحلو لحزب العمال الكُردستاني اطلاق أسماء براقة على مشاريعه الوهمية؛ والعمل على غسل أدمغة أنصاره بها؛ لدفعهم إلى الانشغال ببريق الاسم ونسيان واقعهم المر، وصولاً إلى محاولة تسويق تلك الأوهام وفرضها على الآخرين رغماً عنهم، حتى يصبح المكان جزءاً من عالم اللامعقول، ويحلو له ـ أي للحزب ـ تزيين هزائمه والاحتفال بها، لدرجة أن دبكات أنصاره وضحكاتهم وسط الخرائب والدماء، وهم الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه؛ قد تدفع المرء إلى أن يحسدهم على “نعمة الهزيمة”، وتمني أن يلقى مثلها كل يوم، لكي تتاح له فرصة الاحتفال وإغاظة العدو، مثلما يحاول الحزب أن يفعل!
وقد أطلقت الفصائل التابعة لحزب العمال الكُردستاني؛ من قسد ووحدات حماية الشعب على العملية العسكرية التركية في عفرين اسم “مقاومة العصر”، رغم أن مجريات العملية التي أسماها الأتراك من جهتهم “غصن الزيتون” كانت من طرف واحد، وكانت بكل المقاييس أسرع معركة في التاريخ، ويحق لها أن تحصل على رقم قياسي بذلك؛ حتى على مستوى الحروب التي تجري في سوريا، إذ انتهت بهزيمة الحزب قبل اكتمال شهرين على انطلاقتها، وهي المدة التي احتاجها الجيش التركي؛ وحلفائه من الفصائل المسلحة السورية للسير عبر أراضي المنطقة الوعرة؛ حتى الوصول إلى مركز المدينة، بينما كانت وظيفة الحزب طوال تلك المدة هي تلقي الضربات والتقهقهر، ووظيفة آلته الإعلامية هي الإنكار؛ وتكذيب سقوط النواحي والبلدات والقرى، وعندما كانت الصور تذهب إلى عكس إدعاءاته، كان يبادر إلى طي ملف المواقع التي يخسرها، ونقل حفلات الإنكار إلى ما يليها، إلى أن تلاشى وجوده من منطقة عفرين كلها؛ وانحصر في مركز المدينة حيث يمكنه الإحتماء بالمدنيين، لتستيقظ عفرين أخيراً وتجد الحزب وإدارته ومسلحيه؛ وقد تبخروا جميعهم تحت جنح ظلام الليلة السابقة.   
والواقع هو أن الحزب إختار المواجهة مأخوذاً بوهم الانتصار، إذ أن استخدامه من قبل التحالف الدولي؛ ومن قبله روسيا وكذلك نظام الأسد جعله يسير دوماً في خط متصاعد، إذ لم تشهد السنوات السابقة تراجعاً له، بل كان يزحف باستمرار في جميع الاتجاهات؛ ما دام هناك من يقصف ويمهد له الأرض، ويطبطب على أكتاف مسؤوليه الأمر الذي أصابه بالغرور؛ وجعله يظن بأن الانتصارات تُسجل باسمه، وبأنه يستطيع التحليق بأجنحة طائرات الحلفاء. بالإضافة إلى ذلك، راهن الحزب على عدم تفريط حلفائه به، معتقداً بأنه أصبح أداة لا غنى لهم عنها، بعد أن حقق للجميع مصالحهم بطريقة أو بأُخرى، كما راهن الحزب على عدم جدية تهديدات الأتراك بالتدخل في عفرين، وهم الذين سبق لهم وأن رسموا خطوطاً حمراء في غير مكان من سوريا؛ دون أن يدافعوا عنها مرةً واحدة، وأخيراً راهن الحزب على نظام الأسد، وهو المركز الذي يدور حوله، ويستمد وجوده من أزمته.
مع بدء الهجوم التركي على عفرين؛ إستيقظ حزب العمال الكُردستاني من أوهامه، ووجد بأن كل المعطيات السابقة قد تغيرت، وبأن حساباته لم تكن صحيحة، لكن ذلك كان متأخراً جداً، فقد مهد “حلفائه” من جهتهم للهجوم التركي، من خلال إعلان الأمريكان بأن المدنية لا تدخل ضمن نظاق نفوذهم، وقام الروس بسحب خبرائهم منها، بعد أن رفض الحزب العمل بنصيحتهم وتسليمها للنظام، وهي المدينة التي استلمها منه قبل سنوات، وأطلق على عملية الاستلام والتسليم تلك اسم “تحرير”، واحتفل به مثل عادته. لم يجد الحزب أمامه أخيراً سوى نظام الأسد للاستنجاد به، متخذاً من مشجب “السيادة الوطنية” ذريعة لإعادة المدينة على رؤوس الأشهاد إليه، والتخلص من العبئ الذي باتت تشكله عليه، لكن النظام الذي أصبحت سيادته بين الأقدام منذ سنوات، والمثخن بالجراح في كل مكان، استجاب لنداء الحزب له للدفاع عن المدينة؛ بطريقة فيها من الإهانة أكثر مما فيها من الجدية، عندما أرسل إليه بطريقة استعراضية قافلة شبيحة، من قبيل أن لكل مقامٍ مقال، ليتابع الحزب رحلة السقوط، وكأن طعنة النظام هي الأمضى.
ولأن الشئ بالشئ أو بعكسه يذكر، فقد شهدنا مراراً خلال السنوات الماضية؛ صموداً اسطورياً لفصائل سورية معارضة، رغم امكاناتها المتواضعة، حيث دافعت بها عن قرى سورية نائية؛ في وجه آلة نظام الأسد المدمرة وحلفائه جميعهم؛ بحيث أنها صمدت بما لا يقارن؛ مدة تفوق بكثير تلك التي استغرقتها “مقاومة العصر” التي نسبها حزب العمال الكُردستاني لنفسه، هذا رغم الأسلحة الكثيرة؛ ومنها الأمريكية والروسية والإيرانية والسورية التي امتلكها الحزب، بحيث يمكن الحديث ضمن هذه الظروف عن “هزيمة العصر” المدوية التي مني بها، بعد سنوات من التقدم، فالانسحاب من عفرين هو في الواقع تتويج للهزيمة، وتسلل مسلحيه وإدارته تحت جنح الظلام من المدينة؛ وذهابهم إلى مناطق سيطرة النظام يكشف بوضوح عن هويته الحقيقية، لمن لا يزال يشك فيها بعد. 
لم يُهزم الكُرد في عفرين، الذي هُزم وفر أمام الأتراك والفصائل المسلحة المتعاونة معهم؛ هو نظام الأسد وأداته حزب العمال الكُردستاني؛ الذي أدمن الهزائم واعتاد على تجميلها وتغليفها بتحقيق مصالح الآخرين. معركة عفرين لم تكن معركة الكُرد إذاً، فهم لم يختاروها ولم يشاركوا فيها، بل كانوا رغماً عنهم وقوداً وغطاءً لها.
ـ عن موقع تلفزيون سوريا

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي. أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً. كالهند،…

د. محمود عباس بصوتٍ لا لبس فيه، نطالب الحراك الكوردي في غربي كوردستان بعدم التنازل، تحت أي ظرف، عن مطلب النظام الفيدرالي اللامركزي، وتثبيته بوضوح في صلب الدستور السوري القادم. فهذا المطلب لم يعد مجرد خيارٍ سياسي ضمن قائمة البدائل، بل تحوّل إلى صمّام أمان وجودي، يحفظ ما تبقى من تطلعات شعبٍ نُكّل به لأكثر من قرن، وسُلب…

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…