حسين جلبي
لم تطرح العملية العسكرية التركية في عفرين؛ مصير حزب العمال الكُردستاني في المنطقة على بساط البحث فحسب، بل طرحت أسئلة عميقة عن الوجود الكُردي نفسه فيها، خاصة وأن العملية ترافقت مع نزوح عام لسكان بلدات وقرى عفرين باتجاه مركز المدينة، هذا قبل أن تسيطر القوات التركية وحلفائها من فصائل الجيش الحر عليها، الأمر الذي أدى إلى نزوح مئات الآلاف إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، وذلك عبر الممر الوحيد المتوفر الذي يصل عفرين ببلدتي نبل والزهراء، مع وجود شكوك حول عودة معظمهم، لأسباب عديدة منها الوضع الأمني غير المستقر؛ الذي كان من مظاهره عمليات النهب الواسعة التي شهدتها المدينة في الأيام الأولى لوضع اليد عليها، وكذلك منع حزب العمال الكُردستاني المواطنين من العودة إلى بيوتهم، أملاً في استخدام ظروف نزوحهم الصعبة وسيلة ضغط على المجتمع الدولي، واستخدامهم كذلك دروعاً بشرية متحركة ومصدراً للتجنيد، هذا بالاضافة إلى لجوء الحزب إلى تلغيم بيوت الذين تسلل وسطهم إلى خارج المدينة، والطرقات التي يمكن استخدامها للعودة.
والحقيقة هي أن حزب العمال الكُردستاني، من خلال نشأته المشوهة؛ وبما له من ارتباطات متناقضة تجعله في حرب مستمرة على مختلف الجبهات؛ هو التهديد الأول للوجود الكُردي في سوريا، خاصةً أن الحزب لم يخفي يوماً ـ فعلاً وكذلك قولاً ـ إعتبار كُرد سوريا وقوداً لأجندته العابرة للحدود، التي تعتبر أساساً جزءاً من أجندة النظام السوري، الذي يعادي الوجود الكُردي في سوريا ويسعى لانهائه، وكان آخر ما أقدم عليه بعد الثورة السورية، هو استدعاء الحزب من معاقله في جبال قنديل، ووضع المنطقة الكُردية بتصرفه، للتخلص من كلفة الحفاظ عليها، والتفرغ لمناطق أُخرى في سوريا تشكل خطراً وجودياً عليه، فأحسن الحزب القيام بالمهمة وزاد عليها استثمار المنطقة لمصلحته؛ وجعل من أهلها وقوداً في المعارك التي خاضها ضد فصائل المعارضة، ليشغل الجميع بذلك عن قضيتهم الأساسية، كما جعل من المنطقة منصةً لعمليات شغب ضد تركيا، إلى أن نجح في دفع الأخيرة إلى إعطاء ما يقوم به أولويةً؛ والتعامل معه باعتباره خطراً وجودياً، لتنعكس هذه الأفعال جميعها في تغيير النظرة إلى الكُرد، واعتبارهم محسوبين على الحزب وبالتالي بيئة معادية، الأمر الذي جعل الجميع يتربص بهم، وهو ما صب في المحصلة في طاحونة نظام الأسد.
وإذا كان وجود حزب العمال الكُردستاني في منطقة عفرين يكاد أن يصبح من الماضي، فإن الخشية هي أن يصاب الوجود الكُردي بالتبعية في مقتل، وذلك بعد أن عمل الحزب طوال سبع سنوات على ربط كل شئ في المنطقة الكُردية السورية به، فاستولى على كل مصادر الطاقة البشرية والمادية فيها؛ وقام بتحييدها أو بالتصرف فيها، كما أصاب الحياة السياسية والعامة بالتصحر، عن طريق غربلة المجتمع وتصفية من لا يتفق معه؛ بعد تعامله مع الجميع وفق مبدأ “من ليس معي فهو ضدي”، الأمر الذي جعل لونه هو الوحيد السائد. من جهة أُخرى فقد أدت عمليات التجنيد الواسعة التي قام بها في صفوف الكُرد، بالإضافة إلى القمع الواسع الذي مارسه بحقهم؛ إلى هجرة مئات الآلاف إلى خارج البلاد، الأمر الذي حرم المجتمع الكُردي من وجود طاقات يمكن أن تشكل بديلاً للحزب، بحيث يمكنها أن تعيد يوماً تشكيل المشهد في حال غيابه؛ بما يتناسب مع مصالح أهل المنطقة وبقائهم.
لقد غيرت التطورات العسكرية الأخيرة في سوريا من قواعد اللعبة كثيراً، ونقلت الصراع إلى مستوى جديد لا مكان فيه للوكلاء، وكانت أهم التطورات في هذا الصدد هي إنهاء تنظيم داعش، ومحاولة تفتيت الوجود المسلح لفصائل المعارضة، مقابل تعويم نظام الأسد على حساب الجميع. ومع قرب إنجاز كل ذلك أو معظمه؛ فإن حزب العمال الكُردستاني يكاد أن يفقد بدوره وظيفته، ويصبح عاطلاً عن العمل، ويجعل التوقعات تدور بالتالي حول سيناريوهات إخراجه من المشهد، ولعل أحدها ـ حتى الآن ـ هو التدخل التركي المباشر. إلا أن التهجير الذي كان جزءاً من التطورات المشار إليها، والذي حصل في غير مكان في سوريا، ولم يقتصر على الفصائل المسلحة بل شمل المدنيين أيضاً، وكانت إحدى غاياته هي إحداث تغيير ديمغرافي؛ أرسل إشارات سلبية إلى الكُرد وجعلهم يشعرون بالقلق، خاصة أن نتائج ما حدث في عفرين حتى الآن؛ تكاد تشبه ما حدث في مناطق سورية أُخرى، حيث غادر المسلحون مع حاضنتهم المفترضة.
يقف الكُرد اليوم على مفترق طرق، وتتوجه أنظارهم جميعاً إلى عفرين، فهي الأنموذج الذي يمكن القياس عليه، والذي سيحدد خياراتهم المقبلة؛ وربما مصيرهم في البلاد. يستمع الكُرد إلى الوعود التي يطلقها المسؤولين الأتراك، حول تطبيع الأوضاع وتأمين الخدمات؛ والتي من شأن تنفيذها دفعهم إلى التمسك بمدينتهم؛ والنازحين منهم إلى العودة إليها، لكنهم يتابعون من جهة أُخرى رحلة سقوط حزب العمال الكُردستاني، وهو الحزب الذي أقصى الكُرد وهجَّر نصفهم، ويخشى أن يأخذ معه نصفهم الآخر نحو الهاوية.
عن موقع تلفزيون سوريا