تركيا التي لا تطمئن

حازم صاغية 
هناك شيء في تركيّا يكافح الأوهام بصددها. شيء عابر لنظام سياسيّ بعينه ومتّصل ببعض الأساسيّات التي قام عليها البلد. هذه الأساسيّات إن لم تتغيّر بقي التعويل على تركيّا كاصطياد الهواء.
في الحرب العالميّة الثانية ماطلت تركيّا في اتّخاذ موقف. قالت إنّها محايدة وأوحت بأنّها قد تنضمّ لـ «المحور». ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت حاولا، في مؤتمر القاهرة أواخر 1943، إغراء الرئيس يومذاك عصمت إينونو بالانضمام إلى «الحلفاء». أنقرة انضمّت بعد انتهاء الحرب. لاحقاً انضمّت إلى الحلف الأطلسيّ، لكنّ توتّر علاقتها باليونان كان العنصر الأشدّ إضعافاً للحلف في جبهته الجنوبيّة. مع أزمة قبرص في 1974، حُفرت الخنادق داخل التحالف.
 مع رجب طيّب أردوغان، تحوّل دخول الاتّحاد الأوروبيّ إلى جدال يوميّ، ثمّ إلى مهاترة يوميّة. لكنّ أردوغان قضى تماماً على إمكانيّات التكهّن: أوحى بأنّه سيتّبع سياسة غير أتاتوركيّة مع الأكراد وأتبعها بـ «الحوار»، ثمّ تراجع. شنّ حرباً إعلاميّة على إسرائيل لم تؤثّر كثيراً في العلاقات الفعليّة معها. صادق بشّار الأسد بشدّة ثمّ عاداه بحدّة. بدا كأنّه النقيض الإسلاميّ لإسلاميّة إيران الخمينيّة قبل أن يغدو المكمّل الإسلاميّ لإسلاميّتها. وصل إلى حافّة الحرب مع روسيا ثمّ التحق بفلاديمير بوتين. دعم الثورة السوريّة فساهم في تخريبها قبل أن يعتمد سياسة سوريّة عجائبيّة.
هذه بعض عوارض الخلل العميق في الأساسيّات التركيّة. أمّا المصدر البعيد لهذا السلوك فإنّ تركيّا غير متصالحة مع نفسها. هي كذلك منذ نشأتها كدولة – أمّة بُعيد انهيار السلطنة العثمانيّة. كمال أتاتورك جمع بين نزوعين أقصيين قد يمكن تبريرهما في الكتب لكنْ يصعب زواجهما في الواقع:
من جهة، تقليد قِرديّ للغرب أريد فرضه بالقوّة على الأتراك، ومن جهة أخرى، اشتقاق الشرعيّة السياسيّة من حرب الاستقلال ضدّ القوى الأوروبيّة.
من جهة، اندفاع مدهش إلى التحديث، ومن جهة أخرى، عداء قوميّ حادّ للأقلّيّات غير التركيّة وغير المسلمة التي تملك أدوات التحديث.
هكذا اشتُهرت الديموقراطيّة التركيّة الضعيفة، قبل فوز الإسلاميّين الانتخابيّ، باستدعاء التدخّل العسكريّ كلّ عشر سنوات.
أردوغان والإسلاميّون فاقموا تلك التناقضات جميعاً. أشهروا الدين، فضلاً عن القوميّة، في وجه أوروبا التي أرادوا الانضمام إليها، عاجزين عن رؤيتها بوصفها تجاوزت الحروب الصليبيّة. تمسّكوا بالتناقض الأبرز الكامن في الأتاتوركيّة، ومن قبلها السلطنة، والممثّل بالموضوع الأرمنيّ. ذاك أنّ من لا يعترف بتلك المجزرة الإباديّة لا يستطيع أن يكون جزءاً من أوروبا الديموقراطيّة، المُراجعة لذاتها والناقدة لتاريخها. تمسّكوا بالسلوك العسكريّ الذي عانوا منه ثمّ انتصروا عليه، إذ استعادوا طريقته في التعاطي مع الصحافة والجامعة والمجتمع المدنيّ. هذا النهج يستطيع أن يقود تركيّا إلى أوروبا فاشيّة ما أو أوروبا شعبويّة ما. لكنْ لحسن الحظّ لا تزال أوروبا الديموقراطيّة هي الأوروبا. معها، لا تملك تركيّا، سلطانيّة كانت أم أتاتوركيّة أم أردوغانيّة، ما تقوله.
ويلوح عموماً أنّ المشكلة في عمقها مشكلة تعريف للنفس وتعريف للعالم، ومن ثمّ تحديد لموقع هذه النفس من العالم ولموقع هذا العالم من النفس. أردوغان ليس في هذا الوارد طبعاً. أمّا الضباب الكونيّ الذي راح يلفّ المعاني منذ وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا، فهو أكثر ما يخدم الضباب التركيّ ويجعله، في نظر الكثيرين، يشبه الانفراج.
نقلاً، عن صحيفة ” الحياة ” اللندنية، 30-1/ 2018 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…