ابراهيم محمود
1 أول الطريق…أول الفضاء
يخرجك الطريق من محل إقامتك، ويعدّك لما لا تتوقعه أحياناً، وربما ما يكون صادماً، وما يكون ملهماً. حسبُ الطريق أنه في الأصل مسافة قائمة بين نقطة وأخرى، وفيها عمق غير مستقر، وهو أنواع، وما أكثرها. حسبي القول أن الطريق المستقيم يبعث على الملل وإن كان يطمئن البال، فهو منبسط، كحكاية من نسق واحد، إنه حساب في أفضل الحالات، في حين أن المتعرج يبث داخلك عوالم، ينشّط الروح الحيّة، إنما أيضاً يفجّر تصورات، إنه هندسة بكل دلالتها، ولا يخلو من مغامرات، وهو ما يثير خيالي، وإن كان يقلِق تجاوباً مع اسمه.
ولقد أردنا: العائلة وأنا. أن نمضي ساعات على الطريق للذهاب إلى السليمانية، في زيارة لأنسباء ابننا أوليس وهم من أهلها. الساعات معدودات، لكنها تختصر أزمنة، كما أنها تضيء تلك القابلية لأفكار مستجدة، من خلال المرئي على الطريق، وساعات الطريق غير ساعات ممضية في المكان ذاته، فهنا المكان المتحول، وهنا المتحول غير متحكَّم بخفاياه، حيث الطريق التفافيٌّ، ما أن ينبسط قليلاً حتى ينحرف، حتى ينكسر، حتى يختلف في المرئي عبره، كما لو أنه يعاني مغصاً مزمناً في تعرجاته، وما انكساره إلا توقفه عند نقطة معينة والمباشرة بسواها.
هي المرة الأولى التي نمضي فيها معاً ” العائلة وأنا ” إلى هذه المدينة المزنرة بأكثر من جبل، والمنفتحة على سهل تليد: شهرزور، أي مدينة ناطقة بأكثر من ثقافة.
بيني وبين زوجتي فرق كبير في العلاقة مع الطريق، كألفة تاريخية، فهي لم تألفه، أما أنا فقد عهدت فيه الكثير من الحالات: برّاً وبحراً وجواً، ولكل منها عوالمه، وأحاول أن أعيش هذا المختلف، أن أضبط ساعتي النفسية على هوى ساعتها، لأكون أكثر يقظة إنما مراعاة لوضعها النفسي، خاصة وأن أخباراً يومية نسمع بها، نقرأ عنها عن ضحايا الطريق وفي وضح النهار.
كان خروجنا نهار الثلاثاء” 8-5/ 2018 “، بعد الظهر، والجو ماطر بمقاييس غير متوقعة، حيث تقول ذاكرة أهل المكان، وأرشيف المكان، أن هناك ما يتحدى التفسير في مطر كهذا، وفي مثل هذا التوقيت وبهذا المقدار، وهو حساب فاض في الجوار البعيد كذلك، ولعل برج ” الدلو ” الذي نعيش زمنه، مشهود له بالامتلاء الزائد . العائلة تخاف المطر المنهمر خارجاً، وفي هذه الأيام، فلقد سمعنا بضحايا المطر في محيط دهوك جرّاء انجرافات مائية، ولا أمان على الطريق، وهي تعيش بغريزة الأمومة أكثر، تعيش خوفاً لا يفسَّر، لكنه يقدَّر من قبل المطَّلعين على أمور الطريق. وقد تجاوبتْ معي على مضض في الخروج، ولأكن دقيقاً: على كره، وهي مسكونة بالتطيُّر، تجاه حركة السير على الطريق في حالات كهذه.
كانت انطلاقتنا بعد الظهر، وآثار المطر بادية للعيان، ولقد عشت مخاوف العائلة، ونحن نهمُّ بالخروج من دهوك، وصوت الماء بخريره وهديره وسقسقته مسموع من أكثر من نقطة، في وديان وشِعاب دهوكية، إذ ما أن يذكَر جبل ما، حتى يرفَق بواد أو أخدود طبيعي، وجريان الماء المستحدث فيه شاهد عيان أم الغيث التي أطلقت العنان كثيراً في أيامنا هذه لعصارتها السُّحبية، شعوراً ما منها أنها تمطرها، ولو بعد فوات الأوان، فحسابها مغاير لحسابنا بالتأكيد.
ورغم أن الطريق في انبساطه وسواده الفاتح كان يبعث على الطمأنة، إلا أن مسطحات المياه البراقة على الجانبين كانت تشهد على ” الكرَم ” اللافت وغير المحتسب لمطر يثقِل على المكان، وكان ذلك كافياً، مجدداً، لأن يبقى الخوف مرافقاً لنا، فيما يخص مباغتات الطريق.
ما كان يخفّف من توترنا، هو أن الصديق فرمان بونجق وعائلته كانا في انتظارنا في أربيل، في كامب” كفَر كُوسك “، إذ اتفقنا أن نمضي ليلة عندهم، ونحن نعيش أكثر من هم مشترك، لطالما كان خميرة أكثر من عجينة حالة نفسية واجتماعية وسياسية في لقاءات لنا وهي متكررة، وفي بيتنا الدهوكي: المستأجَر طبعاً. ولكم هو جميل وأثير أن يكون هناك من ينتظرك بعد قطْع مسافة، وثمة أكثر من حبل مشيمي اجتماعي ونفسي معقود بين طرفين، للتخفيف من كرَب الغياب عن المكان الأصل” قامشلو “، فنحن، مهما شدَدنا في اعتبار المتردد ” أنتم في بيتكم ” تعبيراً عن شهامة كردية- كردية، إنما ثمة بيت واحد للمرء، ثمة جهة واحدة للمرء، ثم رئة جغرافية واحدة للمرء يتنفس عبرها رائحة من في الجوار: أهلاً ، أقارب ، أصدقاء ومعارف…