ابراهيم محمود
قبل التوجه إلى مركز كلاويج لإلقاء محاضرتي ” سيميناري- كما يسمّونها في الإقليم ” والموعد الساعة الرابعة مساء، كنت أحاول استرداد عافيتي في مناخ مغر ٍ على الاسترخاء من ناحية، ومحفّز على اليقظة من ناحية ثانية، حيث إن التواجد في مؤسسة ” جمال عرفان ” الثقافية وهي مكتبة ضخمة وكافتريا، شغّال بالمفارقات. إن صديق الكتاب يحتسي قهوته مثلاً وعينه على العناوين المتماوجة من حوله، وخلافه يستأنس بقراءة العناوين وهو غارق في احتساء القهوة .
أعتقد أن الإقامة المؤقتة هنا مربكة للناظر إليها عن بُعد، إنما امتحان للشخص بالذات، وأنا على يقين أن ثمة من يرتاد المكان بوصف المؤسسة اسماً يقضي فيها بعض الوقت، لتكون الكتب بآلاف عناوينها ديكورات ليس إلا، ومن يأتي شعوراً منه أنه الجو المناسب للتعاطي الثقافي وتأكيد نسَب ثقافي عام، وثمة من يمضي إلى المؤسسة لأنها تصلح لأن تكون منال تقدير جرّاء القيمة الرمزية على الأقل لها، أي تثمين من فكَّر بافتتاحها وإخراجها بالهيئة هذه.
قبل أن ألتقي الدكتور نوزاد أحمد أسود، لتزجية فسحة من الزمن، حيث خابرني بود يقظ أنه في الطريق إلي، كنت أسائل نفسي وبنوع من المحاكمة: كيف لي أن أمضي بفكرتي الرئيسة لمحاضرتي ” نحن … والكتاب “، والقول بأن ليس هناك كتاب كردي، حتى بالنسبة إلي في بعض الحالات؟ وأنا مغمور بكمّ لافت من العناوين وهي كردية ” خالصة “، يكون علي أن ألفت نظر نفسي أولاً، أن أهيئ نفسي لتقبُّل هذه الفكرة، قبل طرحها على من يريد متابعة الإصغاء.
كنت قد أحطت بفكرتي من جوانب شتى، كما هي الطريقة التي اعتقدت أنها الأنسب لطرح الفكرة، وفي الحالة هذه، فإنه لا يطلَب من الكاتب أكثر من إسماع محاوره، أو الآخر فكرته، شريطة أن تكون فكرة لها عناصر أو ركائز داعمة، وأن محاورك في الحالة تلك تتوقف مهمته ليس في رفض ما تقول، حيث الموضوع بحثي، إنما في تقديم المقابل، إن أمكنه ذلك.
التقيت الدكتور نوزاد المدرس في جامعة السليمانية، عدا عن مكانته السالفة الذكر في المركز، أكثر من مرة في أنشطة كلاويج الثقافية وغيرها ” آخر لقاء، كان من خلال مشاركته وأخوة آخرين من السليمانية ” في المؤتمر الثقافي الذي أقمناه في مركز بشكجي للدراسات الإنسانية- دهوك، بتاريخ: 25-26 نيسان 2018،ثمة بصمة حيوية في شخصيته حين يقيم حواراً مع الآخر، أو يقول كلمة، ولا بد أن عمله المهني والثقافي دليل حي على ما تقدَّم .
ورغم قلة اللقاءات إلا أن حميمية كل لقاء تستند من حيث المضمون إلى علاقة من نوع آخر: المعرفة المشتركة من خلال عملية القراءة والكتابة. وبَعد المصافحة كما هي العادة، لا بد أن موضوع الكتاب كان مفاجئاً له، كما لغيره، لحظة الاستفسار عن العنوان وقولة: سيكون الحديث عن أهمية الكتاب بالنسبة إلينا ؟
لم أدخل في التفاصيل، لا بل لم أتطرق إلى محتوى الموضوع، إنما أوجزت: بالتأكيد، هذا ليس موضوعي، إنما: ليس للكرد كتاب ؟
أعتقد أن صديقي المعرفي تفاجأ بالقول، ورأى في مجرد القول ذاك ما يشجّع على النقاش والحماس بالمقابل، ولنتطرق بعد ذلك إلى هموم أخرى، وما أكثر هموم الكردي !
في المركز، وكما توقعت، كان الحضور قليلاً جداً، ولا غرابة في الأمر، فالذين نصبوا حلبات سياساتهم الشخصية في طول الإقليم وعرضه إجمالاً، ومن خلال صور وعبارات تستنزف جل العواطف المدَّخرة للأيام الحاسمة للناس ” الغلابة ” قبل كل شيء، وعاشوا حمّى الانتخابات البرلمانية العراقية: ومن يفوز لن يكون ” الوطن ” هو الفرحان، وإنما رفاق حزبه، إنما قبلهم من ينتمون إلى عشيرته وقبيلته وعائلته، وما يعنيه الفوز لأحدهم من ” دحر ” مشرعن لسواه واقعاً، ولهؤلاء جميعاً، لا بد أن آخر ما يمكنهم التفكير فيه هو هذا المسمى بالكتاب، وما يعنيه الكتاب وصلته بالتاريخ، والمدنية، والحضارة وحقيقة الإنسان، وحتى لنسبة كبيرة من أهل ” الحرْف ” كما يُسمّون، والإقليم ذائع الصيت في هذا السباق الماراتوني المشار إليه مذ اُعتِرف به إقليماً، وصار له حضور برلماني، لأن ثمة مداخل أخرى إلى الحياة، ولكسب الشهرة، وللفت الأنظار بالمفهوم النجومي للعبارة، وليس للكتاب أي موقع اعتباري في ذلك، ولو كان للكرد كتاب يعنيهمأو يُسمّيهم، أو لو أنهم عنوا بكتاب يمثّلهم مذ وجِدوا، ومنذ آلاف السنين، إلى هذه اللحظة، كتاب يتحدث بلغتهم الواحدة، لا بلغات حلباتية، سمّيت بحيلة لا تخفى: لهجات، لو أنهم عرفوا أنهم شعب، كغيرهم، والشعب له حضور هوياتي وحدودي، أنهم قومية، والقومية تعلو كل اعتبار آخر خلاف ما يريد أولو أمر الكرد شعاراتياً، لكان الحال مختلفاً الآن طبعاً، أو لما كان موضوع المحاضرة هكذا.. فما أكثر كتب الكرد، وما أقل أقل كرد الكتاب الواحد !
بسلاسة لسانه قدَّمني الدكتور نوزاد للحاضرين في مكتبة المطالعة للمركز، لأتولى أنا طرح فكرتي والتي تستند إلى عدة محاور، وهي أن الكتاب الذي أعنيه هو وجود كتاب يحمل بصمتهم بالجملة، كما يفتخر اليونان بإلياذتهم، والفرس بشهنامتهم، والعرب بقرآنهم، والكرد الذين يُتحدَّث عنهم من خلال كتاب يعنيهم بصورة مشتركة غير موجودين، وهم أنفسهم يفصحون عن هذا الشرخ ودلالته النفسية والتاريخية: آفستا وهو في ” خبر كان “، وما يتردد عن إشارة ابن وحشية قبل أكثر من عشرة قرون إلى وجود كتاب كردي لم يتحقَّق منه، كما لو أنه وهْم مزخرف، ومن ثم محاولة أحمد خاني في الإعداد لكتاب كردي كما هو الوارد في نهاية ” مم وزين ” كانت يتيمة…وحتى الآن لم يفلح الكرد في دخول التاريخ، لأنهم لم يرتقوا بعد إلى مستوى ” أمّة الكتاب “، إلى مستوى وعي الضرورة التاريخية ومغزى الحضور الجمعي في كتاب، كما لو أنهم يريدون أن يعرَفوا كما هم حتى الآن : من دون كتاب، وفي الوقت الذي يتباهون هنا وهناك أمام الآخرين، على طريقة ” كلما اندقَّ الكوزُ بالجرة ” بأن لهم كتابهم: آفستا،أو حتى فيما أفصح عنه ابن وحشية، أو ما حاوله أحمد خاني، والكِلَف النفسية والمادية الباهظة والمقلقة لمساع كهذا، على مستوى القهر وصعوبة أو حتى استحالة النظر إلى الأمام، وعينهم إلى الخلف، كما لو أنهم لم ” يهتدوا ” إلى أنفسهم ليصالحوها ويكونوا كرداً .
بالنسبة إلى المحاضرة، أنوّه إلى نقطة رئيسة، وهي أنه رغم الحضور القليل، لكنه الغني، وبتعبير الأرجنتيني اوكتافيو باث، لقد مثّلوا في حضورهم” القلة الكاثرة “، أولاً لأنهم حضروا، وحضورهم شاهد عيان اهتمامهم بالثقافة والكتاب، وثانياً، لأنهم في عمومهم ناقشوا وأثروا الموضوع بملاحظاتهم واستفساراتهم، وبالتالي، ليكون الموضوع قد بلغ سقف نصابه، وهو أنه بات حوارياً بأكثر من معنى، ويكون مركز كلاويج ” كوكب الزهرة: نجمة الصباح “، قد أفصح عن السر المباح بتمثيله لإشراقة الصباح، واستحقاق الشكر عليه، ليكون الشكر موجَّهاً إلى الجميع، والأخ الصحافي باسل الخطيب ضمناً طبعاً الذي فتح النقاش قبل بدء المحاضر وبعدها، وأبان عن حرِفيته الثقافية بتغطية الموضوع حين نشر تعليقاً طويلاً نسبياً في جريدة ” المشرق ” العراقية، بتاريخ ” 14-5/ 2018 ” .
في مكتبة ” كلاويج ” حيث ألقيت محاضرتي