كلمة المستقبل *

في المشهد السوري تداعيات تحصل , وأخرى متوقعة بظواهرها , وفي الحالتين يبدوا المشهد بالغ التعقيد ومتناقضا , واللعبة السياسية الإقليمية والدولية , تزيده إرباكا وحتى يبدوا في بعض جوانبه هزليا ؟ ولعل المواقف المتناقضة للسلطة الأمنية السورية , حيال الكثير من مستحقات المرحلة والتخبط في الرؤية السياسية لمجرى ومسار التوجه الدولي والإقليمي , فيما يخص ملفات التوتر والتصعيد الشرق أوسطية , بدءا بالملف النووي الإيراني والخطورة المتوقعة تجاه الشرق الأوسط والسياسة الدولية بعامة , والخليج العربي ومنابع النفط والكيانات الهشة القائمة على إدارته ومدى ارتهانها لديمومة استمرار حكمها في جوار دولة نووية , تستند ليس فقط على مخزونها النووي ولكن على مخزونها الطائفي أيضا , والذي يشكل حزاما يبدأ من أفغانستان والعراق والخليج ولبنان عبر البوابة السورية , التي تكتسب أهميتها في الأجندة الإيرانية , من ماضي تحالفاتها ومن حاضر بوابتها لحزب الله اللبناني .

ومرورا بالملف الفلسطيني الذي يواجه تحديا , متشابك المصالح والأهداف , منها الإقليمي ومنها الايديواصولي , الرافض لوجود إسرائيل والمشبع بمفهوم التاريخ وكيفية إرجاعه وإخضاع متغيراته لمفاهيم سادت قبل أربعة عشر قرنا , في زملكان مختلف , وهو هنا ليس فقط يحاول إعادة إنتاج مفهوم للتاريخانية بركائز لا تاريخية , وإنما يعيد اختزال القرار الفلسطيني الوطني وتغيير مصدر اتخاذه , فبدلا من أن يكون مصلحة الشعب الفلسطيني وكيفية انتزاع وبناء الدولة الفلسطينية , بات رهنا بمتغيرات ملفات إقليمية ومصالح أنظمة استبدادية , كانت ولا زالت تعتبر الملف الفلسطيني جزء من أوراق لعبتها الإقليمية ليس إلا.
وانتهاء بالملف اللبناني وتشعباته , وتنوع أطرافه وترابط وتشابك مصالح بعضها , بمعابر خارج حدودها وحتى بالضد من سيادتها اللبنانية , فمن خطورة تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي , واعتبار ما حصل من جرائم واغتيالات موجهة ضد الإنسانية , بمعنى ضرورة تفعيل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة , وما يعنيه ذلك حيال المتهمين والمشتبه بهم , وما يستتبع ذلك من تداعيات في ضوء القرار الرسمي السوري بعدم تسليم أي مشتبه به , مع انه كان هناك مواقف أخرى سابقا تقول بتسليم كل من تثبت إدانته , وطالما كان هناك ارتياح رسمي من آلية عمل المحقق الدولي براميرتز , إشادة بمهنيته وحيادية التحقيقات التي يجريها .
ويبقى في خضم استحقاقات الوضع الإقليمي , الوضع الداخلي السوري , مؤجلا إلى أشعار أخر , فلا السلطة تمتلك القدرة والإرادة على معالجة ما زرعته بنفسها من أزمات متنوعة , ولا المعارضة بتعدد تلاوينها , استطاعت أن تجد طرف الخيط الذي يمكن أن يقودها إلى فعل تراكمي , يعيد ترتيب وتصحيح ميزان القوى واختلالاته , فهناك مجتمع منتهك السيادة ومغيب ومهدور دمه بكل المقاييس والمعاني , وهناك سلطة أمنية و مستبدة , تعيد إنتاج الهدر والانتهاك , وهناك قوى منتكسة , معارضة , لكن كيف تعارض ؟ ومن الذي تعارضه ؟ وبأي وسيلة ؟ أمور لا تستطيع الإفصاح عنها , هلعا وخوفا من مستحقات سبق وان دفعتها في السنوات الماضية , وبالتالي لا يمكن رؤية معارضة حقيقية تشكل بديلا موضوعيا , يسعى سلميا وبأساليب ديمقراطية , لانتزاع شرعية الوجود , عبر تكريس شرعية المجتمع , وإعادته إلى الحياة , وهذه الإعادة تتطلب فعل تراكميا لنضالات متعددة , تندرج في تأسيس حالة وثقافة تختلف عن ما هو موجود في المجتمع , وما يؤسف له الفكر الناظم لخطاب بعض المعارضات السورية والمبني أساسا على قواعد ارتكاز ثقافة السلطة , من حيث الاقتراب الإيديولوجي والبناء السياسي في الموقف والسلوك , وهو ما يتجلى في قبول الأخر المختلف قوميا وسياسيا وحتى دينيا , ناهيك عن تجلياته الكارثية في تنازل ومساومة البعض حول فحوى إعلان بيروت – دمشق والانضمام إلى خطاب السلطة فيما يخص سيادة لبنان واستقلاله .
أننا إذ نعتبر بأنه من بديهيات العمل المعارض أن يمتلك رؤية سياسية مختلفة في القواعد والمرتكزات , وفي الموقف والسلوك ,من رؤية وخطاب السلطة , ويمتلك أيضا آليات عملية تؤسس لتطبيق برنامجه , حتى ولو كانت في بدايتها خطوة أولى , لكنها تظهر حجم الاختلاف والتباين والمصداقية في الطرح السياسي لسوريا خالية من الاستبداد وتعددية وديمقراطية .
وحتى تستطيع أي معارضة أن تكتسب مصداقيتها ومشروعية وجودها , من المفترض أن تعمل في جهتين , التأسيس النظري لحالتها ورؤيتها وتوجهها , والتطبيق العملي لما تؤمن به , وعبر امتزاج الحالتين يعطيها الشارع الشعبي المشروعية والمصداقية , لكن الكلام النظري عن المشروعية والشرعية , بالاتكاء على القدم والتاريخ غير المنسوب لأحد , ليس بمشروعية رغم انه قد يتيح بعض الخواء العملي في ظل الاستبداد وانكفاء العقل , لكنه لا يولد سوى عقول هرمة لا يمكن أن تشاهد السباق نحو الديمقراطية ناهيك عن المشاركة فيه , وفي هذه الحالة تتطابق حالة بعض القوى العربية مع حالة بعض القوى الكوردية التي تتكأ على الخارج في توصيف نفسها , والتسويغ لاستمرارها , فمثلما هناك في الحالة العربية , القوموية العابرة للقارات , هنا أيضا انشطارات من ذات النوع , تؤسس خطابها ليس على ما يعانيه الشعب الكوردي في سوريا من اضطهاد عنصري وصهر بربري , وإنما على إنجازات هذا الجزء الكوردستاني أو ذاك , بل ويذهب البعض ابعد من ذلك , إلى تسويغ وتبجيل الشخصنة السورية والإشادة بها , ومحاولة تجميل صورة السياسة الأمنية البعثية في الخارج , مع اختزال فج للمطلب القومي الكوردي إلى تطوير منهج بعثي هنا , أو مؤسسة عنصرية هناك .
أننا نعتقد بان السكون الحزبي الكوردي , ينتج التآكل في المكان , سواء تأكل الطرح السياسي وابتعاده عن نبض الشارع الكوردي وعن أساسيات الوجود القومي في سوريا , وصولا إلى تأكل شخصي يعكس تراجيديا القصدية بادعاء الشرعية المسكينة , وبالتالي يتحول البعض إلى دوائر قدسية , أو هكذا يخال لها , قادرة على توزيع هذه الأيقونة أو تلك , أو التبشير بالجنة لهذا , وإعطاءه مفتاحا أو سجل عدلي لذاك ؟ مؤسف هذا العقل غير التكويني , وغير الناضج , أن كان على مستوى الوعي القومي , أو على مستوى الوعي بالذات ووجودها في مجتمع متعدد ومختلف ومتباين .
أننا في تيار المستقبل الكوردي , نقول وبكل وضوح , بأننا لسنا بحاجة إلى تباشير الجنة من سدنة الهياكل الخاوية وعندما نصل إلى مجتمع ديمقراطي , تقر فيه الشرعية بأصوات الرأي العام الشعبي , وقتها سنبارك لهم الأغلبية أن حصلوا عليها , لكننا لن نكون تابعين سوى لقناعاتنا السياسية ومصلحة شعبنا الكوردي كما نراها , والتي تتجسد في عدم المراهنة على نظام قمعي , امني , لا جدوى فيه , بل سنعمل وبكل الوسائل السلمية والديمقراطية على انتزاع الاعتراف بوجودنا القومي كشعب يقيم على أرضه التاريخية , والتمتع بكافة حقوقنا القومية وهويتنا المتمايزة من حيث الثقافة واللغة والسلوك والتكوين , والتي حكما لا نجدها متطابقة مع تطوير تجربة البعث في الإدارة المحلية , بل تتطابق مع ضرورة الإدارة الذاتية لمناطقنا الكوردية في إطار سورية ديمقراطية , مدنية , تعددية وتداولية .
وحتى فيما يخص الدعوة إلى مرجعية كوردية , تمر من أبط هذا أو ذاك , فنحن نعتقد بان حالة المرور الإجبارية هذه , ليست رؤية مؤسسة لأية مرجعية , بل هي رؤية عبثية , تلهي الشارع الكوردي وتديم سيطرة السدنة , ولا مفهوم نضالي أو قومي بين ثناياها , رغم الادعاء بذلك , وهي تتطابق مع مجمل انشطارات الحركة الكردية , التي كان كل مؤتمر تقسيمي فيها يعقد تحت شعار وحدة الحركة الكوردية ؟ ما نعنيه , هو الهدف من هذه المرجعية , اهو تجميعي والية للضبط ؟ ضبط الحراك الجماهيري الكوردي , المتقدم على العقل الحزبي والنافي له , أم هي لتضيع الوقت واللعب على الوتر العاطفي , أم هي فعلا تؤسس لحالة جمعية نضالية تدفع بالعمل المقاوم إلى الأمام , وتراكم خبراته لتصل إلى حالة العصيان المدني , كحالة شعبية , لانتزاع الحق من نظام امني غير معني بالمجتمع السوري ولا بحل أي من قضاياه , ففي الحالة الأخيرة نجد أنفسنا في بدايته , مشاركين وملتزمين , وما عدا ذلك فلا نجد داع لان نشارك في جمعيات تضم سكرتيري اطر أكل عليها الدهر وشرب ؟ ورغم احترامنا لكل شخصيات العمل الحزبي الكوردي , لكننا لا نعالج شخصيات , بل مواقف سياسية , نختلف فيها , ونتباين في الرؤية والتجسيد الميداني , ويبقى المعيار فيما يثبته المستقبل وما يؤطره نضال شبابنا الكورد الذين يتطلعون إلى مستقبل خال من العنف والاستبداد والقهر والإلغاء والاخصاء والاختزال والتدجين …….

الخ .
أننا إذ نعتبر ما حصل مؤخرا من إعادة اعتقال بعض النشطاء الذين وقعوا على إعلان بيروت- دمشق , والتراجع عن إطلاق سراح الباحث ميشيل كيلو , واستمرار اعتقال أنور البني , واعتقال محمود عيسى , خطوة ليس فقط انتكاسية , وإنما تعبر عن صميمية النظام الأمني السوري , ومحددات سياسته الداخلية , التي تعيد إنتاج ذاتها القمعية , وتجسد تراجعها وعزلتها الدولية والإقليمية العربية , عنفا وبطشا داخليا , ولعل الارتباك السياسي وفقدان التوازن في الرؤية للمستقبل , زاد من همجية الأحكام غير القضائية والقانونية التي يبدع فيها البعث القضائي , ولعل أخرها , مهزلة محاكمة كمال اللبواني , والحكم الصادر بحق نزار رستناوي , الذي فاق كل ما تفتقت عنه ذهنية قراقوش في عز أيامه .
أن انتهاك وهدر الإنسان السوري , بات مسلسل مكسيكي لانهاية له , حيث السلطة الأمنية توغل في سلوكها المنافي لمصلحة الوطن السوري ومستقبل أبناءه , مستندة إلى فهمها المستبد وغير المتوافق مع العصر ومع روحية المحافظة في حدها الأدنى على بلد وشعب وسيادة , وما يؤسف له حالة المعارضة الوطنية التي لا زالت هي الأخرى تجتر أساليب مهترئة في مواجهة الاستفحال الأمني الرسمي , وكان قضية الوطن والمواطن باتت تخضع لمعايير المالك الخاص من جهة , والى قدرية المعارضة وانتظارها وهامشية دورها في الدفاع عن إنسانية شعب تهدر كرامته في كل لحظة .

 ————-
* العدد / 8 / من جويدة المستقبل التي يصدرها تيار المستقبيل الكردي في سوريا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…