كفاح محمود كريم
Kmk_info@yahoo.com
واحدة من أبشع إمراضنا المستعصية منذ قرون، تلك التي شطرتنا إلى كائنين متضادين في أفكارهما وسلوكياتهما ومتعايشين في جسد واحد وتركيب بشع ومعقد، تلك الازدواجية الرهيبة التي تعيش في دواخلنا وتظهر عند الحاجة المطلوبة في سياق الحدث والموقف.
وتتجلى بشكل واضح في علاقاتنا الاجتماعية والسياسية والدينية.
وعبر مئات السنين وتحت مظلة أبشع أنواع النظم السياسية والاجتماعية تفاقمت هذه الازدواجية وتحولت إلى واحدة من أهم مظاهر سلوكنا في كل مناحي الحياة، ومسخت الكثير من مواصفات شخصياتنا الإنسانية، حتى امتلك الواحد فينا مجموعة رهيبة من الشخصيات في آن واحد.
وأصبح الكذب بأنواعه وألوانه أبرز ما تتصف به هذه الشخصيات التي تقوم بتمثيل أدوارها حسب الحاجة ودرجة الخوف والتدين والتدليس.
لقد عاش مجتمعنا لسنوات طويلة ومملة مغيب تماما ومرعوب في ذاته ومقهور حتى مسحت شخصيته الإنسانية بشكل شبه كامل، حيث لا يعدو الفرد في المجتمع أكثر من رقم ممكن مسحه من جدول الأرقام متى ما شاء النظام أو الرئيس القائد عبر العصور.
ولم تكن النظم السياسية لوحدها سببا لهذه الأمراض، بل يتحمل بنفس القدر من المسؤولية المجتمع ومؤسساته المدنية ابتداءً من البيت و الكتاتيب وبعدها المدارس ومنابر الجوامع والكنائس ومجالس العشائر والمقاهي وصولا إلى منظمات المجتمع الحديثة.
وليس بعيدا عن ذاكرتنا ما فعله الكثير من أئمة الجوامع في قرانا وبلداتنا الصغيرة منذ عشرات السنين في تأويلاتهم وتفسيراتهم ووعظهم القروي البسيط والساذج من تخريب لمفاهيم الدين واشراقاته العظيمة وتحويله إلى مقصلة ودهاليز لتعذيب النفس البشرية، حتى تحول سلوك الكثير من الأجيال إلى سلوك يحكمه الرعب والخوف والخنوع، وكذا فعلت الكثير من مجالس القبائل والعشائر في تداولها لميثولوجيا بائسة وقصص وروايات من نسج خيال مليئ بالامراض والمركبات النفسية المعقدة، لكي تتحول خلال عقود إلى نواميس وأعراف وتقاليد وعادات بالية يعتنقها المجتمع دونما مساءلة أو نقاش، على إنها أعراف وتقاليد تقترب من القدسية الدينية بسطحية وسذاجة لا مثيل لها، حتى غدت واحدة من قوانين المجتمع ومحاكماته.
وعلى طول الخط كانت المرأة أكثر الضحايا تأثرا بهذا النمط الغريب من التربية الاجتماعية وتوارث العادات والتقاليد التي انتقصت في كثير منها إنسانية المرأة وكرامتها، وابتعدت تحت طائلة هذه التقاليد والأعراف حتى عن سنن الدين وفروضه ومعالجاته وتشريعاته الإجرائية بحق المرأة والرجل من الذين يمارسون العلاقات الجنسية خارج دوائر الشرعية، فبينما يعفى في أكثر الحالات الرجل من هذه ( الجريمة ) تحكم المرأة بالإعدام فورا لمجرد شكوك أو وشاية أو علاقة غير مثبتة كما جاء في النص القرآني، وهكذا ترى في معظم مجتمعاتنا عمليات القتل البشع للنساء لمجرد الشك بهن، علاوة على اللاتي فعلا مارسن هذا النوع من العلاقات بأشكاله، ودونما أي شهود كما ورد في التشريع الديني.
لقد غلبت تلك العادات والتقاليد والأعراف التي أنتجتها جاهلية اجتماعية ودينية عبر منابر متعددة ابتداءً من الكتاتيب ومجالس القبائل والعشائر من خلال هيمنة أنصاف المتعلمين والأميين وذوي العاهات الفكرية والإمراض النفسية، وعشرات المقاهي التي كانت تظم كسالى الفكر والإنتاج ممن أدمنوا مضغ حكايات وأساطير وأقاويل في الناس والمجتمع، والمئات من مؤدي ألاغاني الشعبية وكثير من ألاغاني التي زرعت وكرست مفاهيم مازوشية وسايكوباثية في تركيب الشخصية لملايين البشر نساءً ورجال، حتى أصبح التلذذ بالإيذاء والعذاب واحدة من سمات الكثير ممن كانوا في أو قرب مراكز القرار بكل مستوياته ابتداءً من الأسرة ووصولا إلى مؤسسات الإدارة العامة للدولة، وبالتأكيد لا يخضع العديد من هذه المجالس لهذا القياس سواء ما كان منها للعشائر أو الكتاتيب والتي كانت بدورها مدارسا للتنوير والإصلاح الاجتماعي بكل أشكاله، ولكنها على الأغلب كانت محصورة ومحدودة، وحتى بمحدوديتها استطاعت هذه المجالس أو الكتاتيب أو المنابر من خلال أناس متنورين أن يتركوا بصما تهم الايجابية في العديد من تكوينات المجتمع.
إلا إن الغالب كان التأثير المرعب لتراكمات من الثقافة القروية والقبلية وسيادة أنصاف المتعلمين والأميين في مفاصل مهمة من المجتمع والدولة خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، مما أنتج مجتمعات مهزوزة ونظم سياسية بائسة وتشريعات أكثر بؤسا منها، وأنماط من السلوك والتفكير الأحادي المستبد والإلغاء الكامل للآخرين ابتداءً من المرأة وحتى المكونات الأخرى للمجتمع وفعالياته السياسية والاجتماعية.
وبالتأكيد كان الخوف والإرهاب الأسري والتربوي والاجتماعي هو الأب الشرعي لأعراضٍ تفتك بمجتمعاتنا حتى هذا اليوم، ولعل أكثر أنواع هذه الأعراض فتكا هو الكذب والرياء، والذي أصبح لعقودٍِ طويلة سمة من سمات مجتمعاتنا، وأسلوبا مباحا إلى حدٍ خطيرٍ في التعامل بين المادون والمافوق.
وأنتج ما نطلق عليه بالنفاق الاجتماعي والتدليس ومضاعفاته في العمل السياسي والإداري.