الرأي الآخر في أحضان ثقافة الأنا

   روني علي

من خلال الوقوف على التطورات التاريخية في المنطقة، وخاصةً في الجانبين السياسي والفكري، والتي لها مساس بآليات تكوين الرأي الآخر، وتشكيل مرتكزات الحراك الديمقراطي وحرية الرأي، بدءً بتشكل الدولة الإسلامية الدينية، والثقافة التي أنتجتها، ومروراً بتفشي ظاهرةً الإيديولوجيات والتوازنات التي رافقتها، والمعسكرات التي أفرزتها، إلى حيث الدولة القومية، أو الدولة التي تستند في قيامها إلى بذور الفكر القوموي وثقافة العنصر، كان لنا أن نحاور المنطق وفق سياقات التطور، ونخوض في عملية مقارنة بين ما تتطلبه حرية الرأي من أسس ومرتكزات، وما تم تجسيده من وقائع على الأرض، وفق ذهنية أسست عبر صيرورتها لنزعة فوقية واستعلائية، من خلال التعامل والتفاعل مع الآخر، والتي بمجملها تصب في خندق ثقافة الأنا، ومهدت بشكل أو بآخر، في عملية التأسيس لنموذج الدولة (الحديثة)، تلك التي قامت على أساس الاستناد على، والتواصل والتفاعل مع تلك الثقافة، التي ساهمت في إقصاء الآخر، واحتكار الفعل والقرار في أيدي حفنة معينة ممن استلموا زمام الأمور وسدة الحكم .

بمعنى آخر، أن الحاضر الذي نعيشه ونعايشه، هو وريث، ووثيق الاتصال بالماضي الثقافوي الذي جر على الأفراد والشعوب الدمار والويلات، وذلك بحكم الجنوح إلى منطق القوة وحد السيف ولغة الحديد والنار، بحيث أنه لا مجال ولا مكان فيه للآخر الذي يقف على مسافة معينة، أو مخالفة من أداء وممارسات تلك الثقافة، وهذا ما شكل – بحكم الممارسة – حاضنا ثقافوياً حتى بالنسبة للمجتمعات التي تربت في أحضانها، وأنتجت تشوهاً معرفياً وخللاً وظيفياً في أداء القوى والتيارات التي حاولت التصدي لهذه الظاهرة، كونها هي الأخرى، وعلى اختلاف مشاربها ومنابعها، كانت وما تزال، مصابة بفيروسات تلك الثقافة، المحمية من مراكز السلطة والقوة من جهة، والمؤسسة لذهنية مجتمعية من جهة أخرى  …
وإذا كنا نؤمن بأن الرؤية إلى الآخر تتطلب بالضرورة احترامه والإقرار بوجوده وماهيته، وأن هذا الاحترام لا يمكن أن يجسد ذاته، إلا في ظل ثقافة تؤسس لعميلة التواصل والتفاعل والتلاقح بين المنتوج الفكري والمعرفي، بتشكيلاته وتبايناته واختلافاته، كان علينا أن ندرك بأن الثقافة المتوارثة في مجتمعاتنا، والتي اتخذت الطابع الإيديولوجي أو العقائدي، سواء الروحي أو المادي، لا يمكن لها أن تشكل حاملاً لما نطمح إليه من أداء وممارسة، أو نقطة للعبور إلى حيث الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي، وبالتالي فإن الآفة التي تصيبنا في مقتل، هي هذه الثقافة التي تشرعن للدم والقتل والإقصاء، وأنها هي التي تقف في وجه ما يتطلبه العصر من استحقاقات ومستلزمات، سواء الفكرية منها، أو السياسية، لأن الممارسة الديمقراطية وقبول الآخر، هما نتاج تطور حضاري، وحضارتنا – إن جاز التعبير – التي تشكلت في أحضان ثقافة المنطقة، هي حضارة الدم وطمس الآخر أو احتوائه، ولا نغالي إن قلنا بأن مجمل المشهد السياسي والثقافي في محيطنا، يؤكد على ما نذهب إليه، حيث أن مجتمعاتنا ما تزال ترزح تحت وطأة نزعة الأنا على حساب الآخر، وإن تغيرت المفاهيم أو الأنظمة السياسية، وهذا بعكس ما هو موجود وممارس في المجتمعات الأوربية، التي خاضت الحروب والصراعات على مذبحة الديمقراطية، وواجهت عصر الكنيسة ومحاكم التفتيش في سبيل فصل الدين عن الدولة، ومن أجل أن يكون للإنسان حضوره ووجوده وقيمه، التي قد تخالف ما هو مرسوم في ذهنية مراكز القرار والقوة، سواء الدينة منها أو الزمنية ..
وعليه يمكننا القول؛ بأن الركب الثقافي في منطقتنا، هو الذي أنتج الديكتاتورية وأشبعها، وهو الذي أباح مظاهر القتل على الهوية، سواء القومية منها أو المذهبية، وأسس لظاهرة التناحر والتحارب، وهو الذي يشد من أزر الفكر القبلي وترسيخ دعائم المركز، وهو الذي يقف عائقاً في وجه إرساء قواعد التحاور وأسس الحوار، على أساس قبول الآخر والتفاعل معه، كون الجذر الثقافي الذي يحكمنا؛ هو طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه، سواء أكان في مركز ديني أو زمني، ومن هنا فإن الإشكالية التي تخنقنا والأزمة التي تلف خواصرنا، هي احتكامنا إلى مفردات الذهنية التي أنتجتها تلك الثقافة، وكذلك الإيديولوجيات التي جاءت من بعدها، وأفرزت ما يمكن أن نسميه بالعقم الفكري، وذلك استناداً إلى المنطق الذي يؤكد بأنه لا حدود لطاقات الفكر ولا يمكن حصره أو حصاره في زاوية معينة، أو وفق إيديولوجية أو منهجية بعينها، بعكس ما أرادت تلك الثقافة وتلك الإيديولوجيات من أن تضع العقل البشري في مواجهة جدار مسدود، وبالتالي حددت سقف الفكر والتفكير، وفق قواعدها ونماذجها ومذاهبها وضوابطها ..
وإذا كان المشهد السياسي في المنطقة يمر الآن بنوع من مخاضات، قد تنبئ بأن ساعة التغيير قد أزفت، وأن الشعوب في طريقها إلى أن تضع قدمها على سكة التغيير، ذاك التغيير الذي ننشده على أنه سيكون حاملاً لفكر جديد، يجسد في ذاته احترام آدمية الإنسان، بغض النظر عن الجنس والعرق واللون والمذهب، وبغض النظر عن المنابع الفكرية والفلسفية، التي تشكل خصوصيته وتوظف مداركه ومواقفه، فإن ما يجري من تطورات وتجسيدات على الأرض، وحسب ما يتبلور من خيارات سياسية بين أقطاب الفعل السياسي، وما يتم ترسيخه من توازنات، يحيلنا إلى رؤية قد لا توافق مفاهيم التطور، كون التغيير الذي ندعوا إليه وندعيه، ما زال يعيش بعيداً عن ذهنية القوى التي نراهن عليها، وتعتبر نفسها أنها الحامل له، كونها ما زالت هي الأخرى لصيقة تلك الثقافة التي حاورت الآخر عبر الاقصاء والتطهير والإبادة والمقابر الجماعية، وما تزال تنشد التغيير ضمن سياقات الفكر القبلي أو الطائفي أو المذهبي، هذا إن لم نقل عبر مراكز القوة في السلطات التي تحكم وتتحكم بمصير البلاد والعباد، وحتى لو وجدت بعض القوى أو الشرائح التي تنحو صوب توجهات ليبرالية، أو خيارات مفتوحة، أو تحاول التأسيس لنموذج هو على النقيض من ثقافة الواقع، فهي ما تزال بعيدة عن ملامسة الجانب العملي والممارساتي، وذلك لأسباب وعوامل لها مبرراتها، بحكم القمع الذي يكم الأفواه، والاستبداد الذي يخنق الحراك، وعليه فإن مشروع التغيير في المنطقة، لم يخرج بعد من أجندات القوى الدولية إلى حيث الشارع ويتفاعل معه، فهو ما زال يعيش ضمن سياقات الفعل الخارجي دون أن يتبلور في الداخل، وفق رؤى تجسد التغيير حسب مفاهيم العصر وثقافة الانفتاح، والتي من شأنها أن تؤسس لمفاهيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان، والمساواة بين أبناء المجتمع، والنظر إلى المرأة كمون فاعل في البناء الوطني، وفصل الدين عن الدولة، وتجعل من المجتمع ككل، وعبر صناديق الاقتراع، شريكاً مساهماً في صنع القرار .

أي لم نلامس بعد البعد المعرفي لفعل مدني ومؤسساتي ..
فالمعضلة الحقيقية في واقعنا هي طغيان ثقافة الاستعلاء والاستلاب والشمولية، هذه الثقافة التي سلخت المجتمعات عن دورها في صنع القرار، إما بتدجينها أو إضعافها، إما ترهيباً أو ترغيباً، وبالتالي فرخت نموذجاً مشوهاً وحالة مرضية في كيان التعبيرات السياسية والاجتماعية، بحيث أضحت المعارضة وفق توازنات الأنظمة الحاكمة والقوى الإقليمية، نموذجاً آخراً عن السلطة في تعاملها وتفاعلها مع الوقائع، وهذا ما يؤكده الحراك الدائر في الشارع، والذي يتحرك في الغالب وفق المنظومات التي تحددها الأنظمة، أو القوى التي تراهن على مفاعيل تلك الأنظمة ومحاورها، وأن مجمل الادعاءات التي تنطق بها غالبية القوى التي تدعي الديمقراطية وحرية الرأي، تخور أمام قوانين الصراع والتصارع، لأن المعارضة التي تهدف التغيير وفق ما تدعيه من خيارات ديمقراطية، تتعامل مع التغيير بمفهوم الانقلاب أو الحلول محل الآخر، كون البذرة الفكرية التي تعتمد عليها كذخيرة معرفية، لا ترتقي بها إلى حيث تفهمها لمضامين التغيير وفق ثقافة العصر …
إذاً، ومن خلال ما نلمسه مما نعتبرها حقائق على الأرض، فإن المهمة التي ينبغي علينا التصدي لها، تكمن في تغيير أساسيات الثقافة المتحكمة في آليات عملنا، ومن هنا يأتي دور النخب أو المؤسسات التي تشتغل في الحقل الثقافي، وإن كانت هي الأخرى محكومة بالعديد من القيود والممانعات، الفكرية منها أو السياسية والعقائدية، ومع ذلك، ولكوننا محكومون بالأمل، فإن المنابر الحرة – نسبياً – قد تشكل بالنسبة لهذه المهمة بمثابة خيط الأمل وسط دهاليز العتمة في واقعنا المعاش، ومن هنا كان علينا أن نشد على أيدي أولئك الذين يجتهدون في سبيل الارتقاء بالوعي المجتمعي ..
بقي علينا أن نزف إلى العاملين في موقع الحوار المتمدن بطاقات التهنئة بمناسبة الذكرى الخامسة للانطلاقة، وأن نشد على أيديهم فيما يقون به من فعل ثقافي، يشكل لبنة أساسية في عملية التواصل والتفاعل، مع الأمل في الاستمرارية ونحو الارتقاء..

 

6/12/2006

* كتبت المادة لملف ثقافة الحوار والاختلاف في موقع الحوار المتمدن الإلكتروني

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…