محمد موسى محمد *
لا شك في أن القضية الكردية حققت قفزات نوعية في العقد الأخير من القرن الماضي وباتت تتصدر القضايا التي يتوقف عليها أمن واستقرار المنطقة وحتى مستقبلها.
ومع أن التمايز كان واضحاً بين هذه الساحة أو تلك من الساحات الكردستانية، إلا أن القضية الكردية عموماً باتت محط أنظار جميع المهتمين والمتابعين ومن يهمهم مستقبل المنطقة، ودار حولها جدل كبير توزعت بين مناوئ ينظر إليها من زاوية أحادية وآخر يعتبر هذا التطور أمر طبيعي ولكنه بنفس الوقت خائف ومتردد .
وعموماً في الجانب الكردي هناك ارتياح إزاء ما تحقق من مكاسب على المستوى الكردستاني وإن كان التوازن مفقوداً بين هذه الساحة وتلك بحكم الاختلاف في التعامل الدولي مع هذه الساحات واختلاف طبيعة الأنظمة والتطور التاريخي للشعب الكردي وحركته التحررية .
كما هو معروف للجميع فالقضية الكردية تأرجحت بين مد وجزر في مجمل المراحل المتعاقبة، نتيجة فعل عوامل ومؤثرات يمكن حصرها في عوامل ثلاثة :
– العامل الدولي: الذي اكتوى الكرد بناره في أكثر من حقبة أو مرحلة وبشكل خاص بعد الحرب الكونية الثانية وفي معمعان الحرب الباردة إضافة إلى أن التفاعل الكردستاني مع هذا العامل لم يكن موفقاً بالشكل المطلوب.
– العامل الإقليمي: وبشكل خاص الشق الذي يتعلق بالأنظمة الغاصبة لكردستان والتي سرعان ما تهرول لترتيب لقاءات ثنائية وثلاثية ورباعية لوضع الخطط والبرامج لكبح جماح المد الكردي والكردستاني وحتى قمعه بترساناته العسكرية إن دعت الحاجة لذلك .
– العامل الإقليمي: وبشكل خاص الشق الذي يتعلق بالأنظمة الغاصبة لكردستان والتي سرعان ما تهرول لترتيب لقاءات ثنائية وثلاثية ورباعية لوضع الخطط والبرامج لكبح جماح المد الكردي والكردستاني وحتى قمعه بترساناته العسكرية إن دعت الحاجة لذلك .
العامل الداخلي: الذي بقي أسير الفكر القومي المتزمت ولعشرات السنين يترنح تحت ثقل مؤثرات الخطاب الرسمي الشوفيني والعنصري والمعادي على طول الخط لأي طموح كردي باتجاه الحرية والانعتاق، إضافة إلى أن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة شنت حرباً شاملة وبأساليب مختلفة أقلها سياسات التعريب والتفريس والتتريك وإسكات أي صوت يرفض هذه السياسات وعملت على خلخلة الصف الكردستاني بسياساتها ومنهجياتها المعروفة للجميع.
بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي والتغيير العارم في منظومة الدول الاشتراكية والانهيارات المتسارعة والمتلاحقة وتفرد الرأسمال العالمي بقيادة الولايات المتحدة برزت على الأرض معالم سياسية جديدة، وتوجت ما كان يسمى بالعالم الغربي بعد تسويات في صفوفه باتجاهات متعددة وفي أكثر من موقع في العالم وفي مقدمتها ما كان يسمى بالعالم الثالث وفي موقع القلب منها منطقة الشرق الأوسط التي نالت القسط الأكبر من اهتمام القوى الكبرى نظراً لما تتمتع به من خصوصية من حيث الموقع والموارد الاقتصادية وفي مقدمتها النفط .
إن السياسة الكونية التي تتبع من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها في الغرب ( العولمة ) لم تقتصر فقط على الجانب الاقتصادي بل تعداها إلى جميع المستويات والمجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، وقد ساعدها في ذلك التطور التقني الهائل في وسائل الاتصال مكنها من بناء أقوى شبكة اتصال عالمية في التاريخ إضافة إلى أن ذلك كله ترافق بشعارات ( حقوق الإنسان والديمقراطية ) التي نالت إعجاب شعوب المنطقة وتركت أثرا كبيراً في نفوس أبناءها من عانوا وما زالوا من ظلم واضطهاد وقمع الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، فسرعان ما حصلت تجاذبات في الشارع السياسي بين رافض ٍ وموالٍ كل له أسبابه ومبرراته .
ولقد كانت الحركة الكردستانية وفي مجمل الساحات الكردستانية المكتوية ألف مرة بنار الاستبداد في مقدمة من تنبه لهذا التحول في الوضع العالمي، وسرعان ما وجدت نفسها أمام معادلة، أحد أطرافها برامج وشعارات ديمقراطية تمسه حياتها بشكل مباشر، والطرف الثاني استبداد وقمع وتنكيل وتنكر للحقوق وحتى للوجود، ولم يكن أمام الحركة خيار إلا اختيار الديمقراطية علها تجد فيها أو من خلالها متنفساً .
وهنا يكمن جوهر القضية، فالعامل الدولي الذي يركز جل اهتمامه على تقويض دور الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية والسعي إلى تأمين بدائل لأنها تشكل عقبة أمام المشاريع المطروحة، سرعان ما التقى هذا التوجه مع توجهات الشعوب في المنطقة وإن كانت الغاية المرجوة من هذا التغيير يختلف من جانب إلى آخر، إلا أنه في كل الأحوال وفي ظل هذا التصارع وقوة الضغط الدولي باتجاه تقويض دور الأنظمة المشار إليها آنفاً، وفرت مناخات إيجابية استطاعت شعوب المنطقة وقواها السياسية أن تستغلها وتجدد بل تفعّل من حراكها السياسي في الشارع الذي كاد أن يدمر من جراء سياسات ومنهجيات الأنظمة الاستبدادية .
إلا أن هذا الحراك في مجمله شابه اختناقات بل إرباكات وعلى المستويين:
إلا أن هذا الحراك في مجمله شابه اختناقات بل إرباكات وعلى المستويين:
أ – الحركة السياسية للشعوب المضطهَدة ( بفتح الهاء ).
ب – الحركة السياسية للشعوب المضطهِدة ( بكسر الهاء ).
بحكم العلاقة الضعيفة بين الطرفين والتناقض الذي ساد لفترة طويلة ومؤثرات الخطاب الرسمي الشوفيني الذي اثر بشكل آخر في منهجيات وسلوكيات تلك القوى، إضافة إلى أن تلك القوى لم تستطيع أن تستوعب الواقع السياسي بالشكل المطلوب مما طوقت بحالة من القصور الفكري والسياسي لم يتعدى حدود تغيير الأنظمة وعلى قاعدة سيادة القومية الكبرى، وباتت مسألة التعددية وقبول الآخر في حدوده الدنيا.
أما الجانب الآخر من هذه المعضلة فهو الانقسام الحاد في صفوفها مما توزعت على أثرها بين معول على العامل الدولي بالمطلق دون مراعاة للأخلاقيات والثوابت الوطنية وبين خائف متردد يحسب ألف حساب لأي موقف مرن اتجاه العامل الخارجي في التغيير والتفاعل معه، إضافة إلى أن الطرفين كثيراً ما كانا يقعان في مطب الصراعات النظرية والهامشية، في أغلب حالاتها دفعتها باتجاه اتخاذ موقف غير ودي من المد القومي للشعوب المضطهَدة والمغلوبة على أمرها.
أما بالنسبة للحركة السياسية للشعوب المضطهَدة ( بفتح الهاء ) وفي مقدمتها الحركة الكردية والكردستانية، فالوضع اختلف بعض الشيء، فقد استطاعت أن تحقق مكاسب كبيرة في بعض المواقع وكان أولها كردستان العراق التي استطاعت أن تحقق ذاته ببناء إدارة كردية نظراً لخصوصية الوضع في المرحلة الأولى والعزلة الخانقة التي عاشها النظام الدكتاتوري الدموي في المرحلة الأخيرة من حياته وتوفير الحماية الدولية، وتطورت إلى ما هو أفضل وأرقى بعد سقوط النظام والوضع الجديد في العراق عامة.
فإذا كانت الفيدرالية بأرقى صيغها هدفاً منشوداً في كردستان العراق بل واقع معاشاً في هذه المرحلة، فالحراك السياسي شمل جميع الساحات الكردستانية وكانت الهبة الشعبية الرائعة انصع صورة لهذا الحراك في الساحة الكردية في سورية، وهكذا بالنسبة للساحات الأخرى نظراً لتوفر مناخات وإن كان التطور المنشود أدنى مما هو مطلوب .
وكما هو معروف ومعاش فالمسألة بالنسبة للكرد لم يقتصر على الجانب القومي بل تعدى ذلك وامتد بامتداد ساحة أوطانهم وحققت بذلك قفزات لا بأس بها على صعيد خلق تفاهمات وطنية مع القوى الوطنية والديمقراطية .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة، هل استطاعت الدبلوماسية الكردية تحقيق التوازن المطلوب في تفاعلها مع العامل الخارجي …؟ .
إن جدلية العلاقة بين العاملين الداخلي والخارجي تؤكد وفي سياقها التاريخي أن العامل الداخلي أساس التطوير والعامل الخارجي شرطه وليس العكس، انها العلاقة نفسها بين الذاتي والموضوعي، صحيح أن العامل الموضوعي لا يمكن الاستغناء عنه إلا أنه وبدرجة أقوى لا يمكن إلغاء الذات والتي تعنى هنا القوى الفاعلة في التغيير وإن أي تجاوز لها تبقي قضية التغيير سابحة في الهواء دون مرتكز على الأرض .
ومن هنا كنا دائماً من دعاة بناء الذات في دوائره المختلفة الكردية الصغرى والوطنية الكبرى بحكم الخيارات المحدودة أمام الحركة الكردية والكردستانية، إذ أن آفاق وطموح الحركة الكردستانية لا يتعدى حدود نظام اتحادي مع الشعوب المتعايشة في أعلى مستوياته بحكم الفعل الضاغط للقوى الإقليمية المتضررة من أي مد كردي، ومن هنا كانت النزعات الاستقلالية ضارة تدفع الحركة باتجاه العزلة والتقوقع الذي يؤدي حتماً إلى الهلاك، هذه النزعات التي ترتكز بالأساس على إسقاط البعد الدولي وفق ما ترسمه في خيالها على الواقع دون أي اعتبار للإمكانات والظروف المتاحة، إضافة إلى أن ذلك يشكل إسفيناً بين القوى المتعايشة والتي على توافقها يتوقف مستقبل هذه الأوطان دون استثناء .
ونظراً للدور المتذبذب للعامل الدولي اتجاه القضية الكردية بحكم مصالحه المتغيرة والغير ثابتة وارتكازه على المنفعة ( البراغماتية ) بأبشع صورها، نرى من الضرورة بمكان تحاشي الوقوع في منزلقات العامل الدولي مع الاستفادة القصوى من المناخات المتوفرة وتحقيق التوازن المطلوب في سياساتنا واعتبار العامل الوطني الداخلي الأساس والمرتكز، والديمقراطية والتغيير الديمقراطي هدفاً وضمانة لحماية حقوق شعبنا…..
.
.
ومع أن الدبلوماسية الكردية قد قطعت شوطاً لا بأس به في مجال خلق تفاهمات مع الشركاء من القومية الكبرى ومجمل ممثلي الطيف المتعايش، إلا أنها يجب أن تتنبه دائماً لما قد تسببه تلك النزعات وإن كانت تشكل الحلقة الأضعف من إرباكات قد تؤدي إلى انتكاسات تتسبب في جلب الويلات والمآسي لشــعبنا .
——-
* سكرتير الحزب اليساري الكردي في سوريا