هل أصبحت سورية ولاية تركية ؟

خالد عيسى

اعتقال مواطنين سوريين لحساب دولة أجنبية, هو دليل انحطاط للدولة السورية,  ودليل تقهقر الروح الوطنية لدى النخبة العربية الحاكمة في هذه الدولة إلى أدنى مستوياتها, وإشارة على تحول حكامها إلى وكلاء لدولة أجنبية كتركية.
بينما يحاول الأتراك استعادة السيطرة على الأقاليم المتاخمة لحدود دولتهم الحالية, و استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية, تعمل الحكومات العربية في سورية على ضعضعة التماسك الوطني, وتتخلي أكثر فأكثر عن مظاهر سيادة الدولة لقاء مكاسب سلطوية مؤقتة, وآمال وهمية واهية في ترتيبات إقليمية عارضة.

فبعد مرور أكثر من ستين عام على إعلان الاستقلال السوري, ثبت فشل النخب العربية وحليفاتها في تحويل هذه الدولة الفتية إلى مشروع وطن.

وأسباب هذا الفشل تكمن أساساَ,أولاَ في طبيعة المجتمع السوري التي لم تكن تتناسب مع المؤسسات الدولاتية الغربية, وثانياَ في طبيعة وكيفية تكون وتطور النخب  السورية بمرجعياتها المتناقضة مع مفهوم الوطن والوطنية .
لقد استطاع الحلفاء, وخاصة الانكليز وحلفاؤهم من العرب, طرد الجيوش العثمانية من ولاية الشام جنوباَ وحلب وبعضاَ من أراضي ولايات أضنه, وأورفة , ومرعش شمالاَ, وماردين والجزيرة شرقاَ, ومن الساحل الذي كان تابعاَ لولاية بيروت وسنجق اسكندر ون غرباَ.

و بقيت أغلبية هذه المناطق بيد وكلاء الانكليز من العرب من عام 1918 وحتى عام 1920 .

وكانت إدارة هذه المناطق منوطة إلى فيصل بن الحسين الذي كان يعتمد على ضباط سابقين في الجيش العثماني.

وكانت غالبيتهم  عرب ومن مواليد ولاية الموصل.

 
في هذه المرحلة لم تطل الإدارة العربية لا الساحل السوري ولا المناطق الكردية, وإنما اقتصرت على سورية الداخلية بمدنها الأربعة, دمشق وحمص وحماه وحلب.

 وانتهت هذه الحقبة بوضع سورية تحت الانتداب الفرنسي عام 1920.
من عام 1920 وحتى 1936 حاولت السلطات الفرنسية تطبيق نظام لامركزي في المناطق السورية.

فأسست دولتي  دمشق وحلب, وحكومتي اللاذقية وجبل الدروز, وإدارة محلية لسنجق اسكندر ون.

بينما بقيت الجزيرة الكردية تحت الإدارة الفرنسية المباشرة.


اعتباراَ من عام 1936, برزت نخبة سياسية سورية تطالب بوحدة الأقاليم السورية ضمن إطار دولة واحدة.

ولكن في ظروف التوترات الدولية التي سبقت الحرب العالمية الثانية, لم تمانع فرنسة عن ضم لواء اسكندر ون  إلى تركية, وذلك لقاء  وعد الأخيرة بعدم انضمامها إلى حلف هتلر.

ونتيجة لتوازنات القوى بعد الحرب العالمية الثانية, انسحبت فرنسة نهائياَ من سورية في السابع من نيسان عام 1946.


لم تعترف تركية بداية بالدولة السورية, لأنها كانت تعتبرها من أقاليمها المغتصبة.

وبعد جهود دبلوماسية حثيثة, قبلت الاعتراف بهذه الدولة.

وذكر يومها مراسل وكالة الأنباء الفرنسية بأن التبادل الدبلوماسي التركي السوري قد جاء على أرضية المصالح المشتركة, وبشكل خاص لمواجهة التواجد الكردي على طرفي حدود الدولتبن.
وللتاريخ نذكّر أيضاَ بأن كلاَ من العراق و الأردن كانا قد رفضتا في البداية الاعتراف بالاستقلال السوري , وذلك  بناءَ على اعتبار أن عرش سورية هو ملك لسلالة الشريف حسين.
بعد إعلان الاستقلال السوري, استلمت مقدرات البلاد النخبة الفتية ذي الأغلبية العربية السنية.

في البداية حاولت النخبة السياسية إقامة دولة مركزية على النمط الفرنسي.

ولكن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقومي والديني في  الأقاليم السورية, لم تكن مماثلة لتلك الظروف التي ولدت فيها المؤسسات الفرنسية.

فاستعانت النخب العربية في  مشاريعها السلطوية والدولاتية, بالاديولوجة القومية تارة, وبالاديولوجيات الأممية تارات أخرى.

لكنها جميعاَ لم تستطع الانسلاخ من انتماءاتها القومية والدينية والطائفية والمناطقية.

إذ كانت جميعها تلجأ إلى هذه الانتماءات في إدارة صراعاتها السلطوية.

و بالتالي اتسمت ممارسات كل هذه النخب التي توالت على الحكم بالفئوية.
وخير دليل على لا وطنية حكام سورية, هو عدم العمل على بناء مفهوم المواطنة السورية, وعدم اعتبارها العلاقة المميزة على الانتماءات الأخرى, وعدم جعلها المعيار الوحيد في مجال الحقوق والواجبات لكل سكان سورية.

والمثال الصارخ هو وضع الأكراد السوريين.

إذ بدأت النخب العربية منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن المنصرم بإتباع سياسة منهجية في إقصاء الكرد عن الحياة العامة بكل السبل.
والغريب في الأمر هو ترافق بدايات هذه السياسات اللاوطنية بحق الكرد وتزامنها مع الضغوطات التركية المتزايدة على السلطات السورية في عهد حكومة مندرس, وتوصل الوضع إلى حشد القوات التركية على الحدود السورية, وكثر التلويح بتدخل عسكري تركي عام 1957.

ففي الوقت الذي كانت تركية تهدد أركان القوميين العرب في سورية, كان هؤلاء يخططون لسياسة منهجية لاضطهاد وإقصاء مكون أساسي من مكونات الشعب السوري, وبذلك كانوا يعملون على زعزعة الوحدة الوطنية.

وتوجت سياستهم  اللاوطنية هذه إلى التفريط بسيادة الوطن, الذي تجسد بضم سورية إلى مصر, وما تبع ذلك من هدر لحقوق السوريين وحرياتهم.
ما أشبه اليوم بالأمس, السلطات العربية في سورية تنازلت عن الهوية  السورية للواء اسكندرون.و تسمح السلطات العربية السورية لرعايا الدولة التركية بشراء العقارات في المناطق الحدودية ولا يحق للكردي السوري ذلك.

تستفيد الشركات التركية من الامتيازات السخية في سورية, ويعهد إليها ببناء جسور وسدود وكأن الكفاءات السورية غير متوفرة في هذا المجال.

وتم وصل شبكة الكهرباء السورية بالمحطات التركية.

وحتماَ بمباركة السلطات السورية أقامت تركية أحد اكبر سدودها على نهر دجلة, وسيلحق بالمزارعين السوريين ما سيلحق بهم من جراء ذلك.

وهذا يذكرنا بسد الغاب الكبير الذي سبق لتركية أن أقامته على مجرى نهر الفرات, ويذكرنا بما ألحقه من أضرار جسيمة بالإنتاج الزراعي السوري.

وتوصل الأمر إلى أن تطلب الحكومة السورية من الأتراك إرشادها إلى خير السبل في الإدارة المحلية, وكأن سورية تفتقر إلى خبراء في هذا المجال أيضاَ.
لم تكتف السلطات العربية في سورية بإعطاء الامتيازات الاقتصادية للأتراك,  بل تقوم  بتطبيق السياسات  الأمنية التركية على الأراضي السورية, وبحق مواطنين سوريين.

إذ تلجأ هذه السلطات إلى تسليم اللاجئين السياسيين إلى الحكومة التركية, بخلاف كل الشرائع والأعراف.

و أكثر من هذا وذاك, فالسلطات العربية السورية تعتقل أكراد سورية الذين يستنكرون السياسات التركية المعادية للشعب الكردي.


نعم, في سورية يتم اعتقال الكردي ويحاكم أمام محكمة أمن الدولة, ويعاقب بالاعتقال لسنوات لمجرد مناهضته لسياسة الدولة التركية.

و أخيراَ أصبحت حملة المداهمات والاعتقالات في صفوف الكرد تتناسب طرداَ مع شدة وكثافة العمليات العسكرية التركية ضد الشعب الكردي في كردستان الشمالية.

وهذا دليل واضح على أن السياسات السورية غير نابعة من المستلزمات الوطنية.

فالطاقم الحاكم في دمشق يتوسل  إلى السلطات التركية للتوسط  له في بعض الأوساط الدولية والإقليمية السنية للحفاظ على سلطته, لكن بأثمان باهظة جداَ, وعلى حساب القضايا الوطنية, وعلى حساب حقوق وحريات الوطنيين.


لقد اقترحت القيادة الكردية في تركية مشروع سلام جديّ , وحتى الآن لم تتجاوب السلطات التركية مع هذه المقترحات, ولازالت القوات المسلحة التركية تقوم بتمشيطات دورية وعمليات عسكرية في المناطق الكردية.

و لا يمكن للعاقل أن ينحاز إلى جانب القيادة العسكرية التركية التي لا ترى إلا الخيار العسكري كأسلوب للتعامل مع الكرد.
يطالب الكرد في سورية بحقوقهم القومية المشروعة ضمن إطار نظام ديمقراطي يتناسب والواقع السوري التعددي.

والواجب الوطني يفرض على السلطات العربية في سورية الشروع في الحوار الجاد مع ممثلي الشعب الكردي لإيجاد حل سلمي وعادل لهذه المسألة الوطنية.

واضطهاد المواطنين الكرد واعتقالهم, كما يجري, من أجل التقرب أو لحساب سلطات أجنبية, كالسلطات التركية, خيانة وطنية.

ومن واجب كل السوريين استنكار هذه السياسة و التشهير بها.

لأن سورية لم تصبح بعد ولاية تركية!!  
  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…