وبعد معاودتي قراءة “إعلان بيروت دمشق” مرات عديدة, ومحاولة مطالعته في كل مرة وفق منهج زماني مكاني مختلف عن سابقه, ساعياً لإلقاء نظرة شاملة للفكرة بكامل أبعادها, كان يزداد اختلافي مع الأخوة الموقعين على هذه الوثيقة لأسباب سأؤتي ذكرها.
يمكنني ابتداءً تعريف فكرة هذا الإعلان بأنه : معاهدة سياسية فكرية مشتركة بين مجموعة سورية من مثقفين وناشطين سياسيين وأخرى لبنانية.
رسموا في هذا العهد تصورهم ورؤيتهم المتبادلة لمستقبل البلدين قصياً عن رعاية الأنظمة الحاكمة لكليهما, وهذا بالطبع من حيث المبدأ أمر مستحب لا يختلف عليه أثنين وليته يعمم على أطراف إقليمية أخرى.
و في النص ومن خلال تفاصيل الإعلان الخاصة يظهر التأثير المتبادل من الجانبين السوري واللبناني وبشكل جلي, حتى في طريقة اصطفاء العبارات وانتقاء الجمل التي صاغت نص الإعلان وإن كان موقف الإعلان أو تحديداً موقف المعارضين السوريين الموقعين على نص الإعلان قد أختلف مع السلطة السورية فيما يخص طريقة التعامل مع دولة لبنان, والدور الذي لا تزال الحكومة السورية قادرة على القيام به نتيجة لحفاظها على مراكز قوى وحلفاء أقوياء داخل لبنان.
إلا أن هذا الأختلاف لم يكن في كامل النقاط التي جاء بها الإعلان, فالموقعون لا يختلفون مع السلطات القائمة -على الأقل- فيما يخص المشروع القومي العربي.
فقد أقر المعلنون “ضرورة تعزيز قدرات شعبيهما في مواجهتهما المشتركة للعدوانية الإسرائيلية ومحاولات الهيمنة الأمير كية” و”ضرورة تعزيز قدرات الشعبين في معاركهم الوطنية والقومية”, وهنا يتراءى لي أن المعارضين السوريين يزاولون ذات الذهنية السلطوية التي دأبت على إقحام اللبنانيين دوماً بجانب السوريين في معارك سورية القومية, لكن هذا ما لم يؤكد عليه بشكل واضح المعلنون السوريون في وثيقتهم الأساسية السابقة التي بلورت معارضتهم كسوريين أقصد (إعلان دمشق), وما هذا إلا تناقض _واضح حسب رأيي_ لدى الموقعين أو التفاف منهم على نقاط هامة وردت في وثيقة إعلان دمشق فيما يتعلق بمكونات الشعب السوري المتعدد الأطياف, وأخص هنا الموقعين السوريين غير العرب منهم.
وفي حين أن المعلنين طالبوا بترسيم الحدود بين البلدين والتبادل الدبلوماسي, فقد سلموا بما جاء من تصريحات على لسان المسؤولين السوريين فيما يتعلق بلبنانية مزارع شبعا واتخذوا من هذه التصريحات دعماً لموقفهم للإسراع في إنهاء مشكلة الحدود وتحت مظلة الشرعية الدولية على حد تعبير الإعلان.
وبالنسبة لمواقف المعارضة العربية السورية التي قد تتقاطع كثيراً مع مواقف السلطة السورية فيما يخص الفكر العروبي, فهذا ليس غريباً على معارضة أغلب رموزها كانوا ومازالوا من دعاة اليسار العربي رافضين لأي تحول يطال ذهنيتهم في ظل التغيرات العالمية المتسارعة رغم انهيار أكبر التكتلات اليسارية العالمية.
وفي حين كانت رموز المعارضة السورية تناهض العولمة فكرياً داخل سورية فعلى ما يبدو قد اضطروا للتوافق على صيغة حديثة مع اللبنانيين الذين يعدون أكثر أنفتاحاً على مشروع العولمة, فجاءت صيغة الموقف المشترك خلال الإعلان وسطاً كالتالي: “مواجهة التحديات المتعددة التي تطرحها العولمة و الآفاق الواسعة التي تفتحها”!.
لقد عزا الطرفين السوري واللبناني إقدامهم على هذا الإعلان إلى الصدع الذي أصاب علاقة البلدين والشعبين وحدد ملامح هذه الأزمة بـ ” إجراء عملية التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، في انتهاك لروح الدستور اللبناني وفي استهتارٍ برأي أكثرية اللبنانيين، مع ارتكاب جرائم الاغتيال السياسي التي أودت بحياة شخصيات سياسية وحزبية وإعلامية ومواطنين أو طاولتهم وفي المقدمة منها جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري”.
وهنا اتهام صريح للسلطات السورية بالضلوع في جريمة اغتيال الحريري رغم أن التحقيق الدولي لم ينته بعد وليس من الحنكة استباق المحقق الدولي حتى إن كانوا واثقين كل الوثوق من تعبيرهم وربطهم بين من مدد فترة رئاسة لحود ومن قتل الحريري.
رغم أن فقرة أخرى من الإعلان ذاته تؤكد ضرورة ” تسهيل مهمة لجنة التحقيق الدولية من أجل كشف المحرِّضين والمنظِّمين والمنفِّذين”, ألم يكن الأجدر بهم الأكتفاء بهذا القدر الهادئ من التضامن وشجون اللبنانيين, وعدم تعريض حريتهم ومسيرتهم للأنتهاك من قبل السلطات السورية؟.
وربما أكثر ما آخذته على هذا الإعلان أنه جاء في سياق تسلسلي وترتيب غير واضح, وبتعبير آخر جاء خلال حالة من الفوضى التي تشوب المواقف إقليمياً _على الأقل_ من جهة الطرف السوري, وأبرر مأخذي هذا بسؤال راودني كثيراً أثناء مراجعتي لقراءة إعلان بيروت دمشق وهو : لماذا لم يكن إعلان “دمشق بغداد” مثلاً؟, أو لماذا لم يسبق إعلان بيروت إعلاناً مماثلاً في بغداد أيضاً؟.
السبب يعود برأيي إلى أن التوجه العام في سورية سواء السلطوي أو المعارض أو حتى فئة واسعة من الشعب السوري لا تعارض الوجود الأمريكي في العراق وحسب وإنما تتحفظ ضمناً على أي تعاطي مع الفئات العراقية الموجودة على أرض العراق في ظل الظرف الراهن خاصة أن شخصيات كبيرة من المعارضة السورية كانت تؤيد نظام صدام سراً وعلناً.
ولأسباب عديدة أرى أن عدم اتخاذ أي خطوة مشابهة مع أطراف عراقية يعود إلى تبني مواقف عروبية بحتة وخاصةً أن غير العرب يشاركون اليوم في حكم الدولة العراقية, أما الأسباب التي دفعتني لهذا القول فتتجلى فيما يلي :
إذا كان تضامن الطرف السوري مع اللبنانيين يعود لأسباب تاريخية وروابط أجتماعية, دفعتهم لاستصدار هذا الإعلان, فإن الروابط ذاتها متوافرة مع العراقيين, من تاريخ مشترك وروابط أجتماعية ومصالح متبادلة.
الشخصيات الرئيسية من الجانب السوري والتي نظمت هذه الوثيقة أبدت شكها الواضح بدور سوري في مسلسل الإغتيالات في لبنان ورفضت التدخل السوري في العمق اللبناني, علماً أن الاتهام موجه إلى سوريا _أيضاً_ فيما يتعلق بتسلل الإرهابيين إلى العراق, فهل تقبل رموز المعارضة السورية التدخل السوري في العراق وترفضه في لبنان.
الأهم من هذا وذاك أن الموقعين على الإعلان أشادوا بتطبيق قرارات الشرعية الدولية في بيروت ولا يقرون حتى الآن بشرعية الحرب على نظام صدام حسين في العراق, وإن كان إضفاء الصفة الشرعية على حرب العراق جاء متأخراً.
أريد هنا التنويه إلى أن إعلان بيروت دمشق لم تمثل فيه المعارضة السورية بمجملها وإنما خطوة تبناها أفراد من المعارضة السورية أغلبهم وقع بأسمه الشخصي وقلة منهم ارتأوا الإشارة إلى صفاتهم التنظيمية وأعلنو مع التوقيع عن مواقع مسؤوليتهم في هذه التنظيمات, ولابد أنه من الصعب أن تجمع الكتل الأعضاء في إعلان دمشق على المشاركة في إعلان بيروت دمشق وهذا ما حدث فعلاً.
كما أريد الإشارة إلى أن حالة الهيجان والأستياء التي يشعر بها المعارضون السوريون تدفعهم لقبول أي فكرة أو خطوة يقترحها رموز كبار في المعارضة حتى دون الوقوف على تفاصيلها وهنا أعني ما أقوله تحديداً فمن خلال مناقشتي مع بعض الأخوة ممن وقعوا على الإعلان أتضح لي أنهم تسرعوا فعلاً وأنهم وقعوا على وثيقة جاهزة لم يشاركوا في صياغتها.
ومهما كان موقفي من إعلان بيروت دمشق فهذا لا يعني أني لا أؤثم الأوضاع التي آلت إليه كوكبة من هؤلاء الوطنيين وأن لهم مواقفهم الوطنية والشجاعة على الصعيد السوري, وليس من المعقول أن يعتقل البشر لمجرد أنهم قالوا رأيهم وأعلنوا موقفهم من قضية محددة, ورغم كل أختلافي مع الأخوة الموقعين بخصوص هذه الوثيقة إلا أني ألتقي معهم في كل ما تبقى من نقاط تخص الوطن والشعب السوري ويبقى هؤلاء رمزاً حقيقياً للمعارضة الوطنية الشريفة التي رفضت وترفض أي تدخلاً في شؤونها من الخارج, كما أني أحييهم فرداً فرداً من ميشيل كيلو القابع الآن في زنزانة الرأي مروراً بنضال درويش إنتهاءاً بصديقي كمال شيخو, راجياً لهم العودة سالمين إلى شعبهم ليعاودوا المسيرة مجدداً.
———–
الحوار المتمدن – العدد: 1564