محسن جوامير ـ كاتب كوردستانى
من أهم الصفات التي تجعل الإنسان نموذجا يقتدى به، هي الإستقامة..
ولا يظنن أحد بأن هذه تجعل من صاحبها يتأخر ولا يتقدم، لأنها قد توحي في ظاهرها الثبات لا التغيير أو التطور لدى الأفراد والأمم ..
كلا لا أقصد هذا ولا علاقة للإستقامة بهذه المقولات والإدعاءت المثيرة للجدل، فالإستقامة لها إستقلاليتها وشخصيتها وطهارتها وعنفوانها وعفتها، لذا لا يمكن الجمع بينها وبين الكراهية أوالتزاوج
بينها وبين الكذب والحيَل..
إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا له..وألو استقاموا على الطريقة
لأسقيناهم ماء غدقا..
فلذلك فادع واستقم كما أمرت..
إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم )..
ولم أقرأ لحد الآن أن قيل : إستقام على الباطل أو الكذب أو الخبث، وقانا الله وإياكم من هذه الصفات التي لا تجتمع إلا مع ( الإستمرار ) أو ( الدوام ) بالجلوس في محكمة أو بالأحرى في قهوة صدام، لا مع ( الإستقامة ) التي تنطوى على الأخلاق الفاضلة على الدوام.
الأستاذ رياض العطار، تعرفت عليه قبل حوالي 15 عاما وكان يسقي حقله وحرثه في ضاحية موندال بالسويد، حين كنت أنا بصدد سقي حقلي أيضا، والحقول عادة يُستأجر هنا بثمن بخس كرونات معدودة..
وكان أول سؤال القاه على هو من اين أنت أخي ؟ فقلت : من
كوردستان .
ولكن سأل : من أي جزء ؟ قلت : في كوردستان، دون ذكر الجزء كي لا اُلحق بها ذنب فالذنب للقرود وليس للإنسان أو الأوطان.
من ثم علم، وقدر مشاعري ..
ومن ثم تصادقنا وتعرفنا على بعضنا البعض أكثر، وأصبحنا فعلا في الهم شرق وربما أكثر،
وسرنا في دروب ومنحنيات السياسة وما جرى لنا جميعا من بدو ومن حضر، وتحدثنا كلما إلتقينا في شارع أو في حي، في حر الشمس أو تحت المطر، عن كل شئ سوى القضاء والقدر..
وإذا بي أجد الأستاذ العطار في عالم مثالي لايعترف بالإمتياز لبعض على بعض، ولا يتنازل عن القيم بسبب القربى أو الوحدة في النسب، ومُطلع على أدبيات وصحف الجماعات والأحزاب ويتحدث عنهم بكل أدب، وحامل لهموم شعب تحمل اكثر مما وجب..
وحينما عصى حسين كامل صهر صدام، وهرب إلى الأردن وصار له هناك مقام، صادفت العطار صباحا في الطريق العام وهو يقول : والآن بدأ العد العكسي والإنهيار، وربك منتقم، لا ينام ولا يموت، وسيذيقهم الموت الزؤام.
بعدئذ أدركت أن علاقة وصميمية الأستاذ مع قضية الكورد تعود إلى عقود، حيث بدأت مع باكورة ترحيل الكورد من ارض الجدود إلى جنوب ووسط وغرب العراق دون حدود، وكادت حتى العصافير تهجر أوكارها ويصيبها الشرود..
وكانت لمدينته ( الديوانية ) حصة
الأسد لهؤلاء المرحلين الذين كما يقول في مقالة له عنهم ( تم إسكانهم في الصرائف وهم يعانون كل أنواع المضايقات من الأجهزة الأمنية، حيث يتم استدعائهم إلى مركز الشرطة ثلاث مرات في اليوم لإثبات الوجود، وتشجيع البعض على الزواج من الكورديات
ودفع ألف دينار لكل من يتزوج بكوردية )..
بطبيعة الحال، لا شأن للناس الشرفاء بهذ ه الزمرة التي عاثت في الأرض الفساد ..
وكما يُروى، كان هناك تعاطف شديد من لدن الناس مع المرحلين وبالمقابل ثقة الكورد بأهل الديوانية وصل إلى حد بث أسرارهم وهمومهم الشخصية الخطيرة، كما يظهر في سياق نفس المقالة : ( الأستاذ عبداللطيف نادر الذي جاءني في يوم من الأيام يخبرني انه لا يستطيع أن يستمر هكذا وإنه قرر الإلتحاق بالثورة الكوردية، وطلب مساعدة مالية تمكنه من الوصول إلى أهله في راوندوز، ومساعدة أخرى وهي إخراجه من نقطة التفتيش الكائنة على طريق بغداد، فكلفت أحدهم بذلك، ووصل سالما إلى أهله حيث وصلتني حوالة بريدية منه يسدد بها ما اقترضه مني، وعلمت بعد ذلك أنه أصبح سكرتير إتحاد معلمي كوردستان، وإنه مرض وكبر بالسن وو..وانقطعت أخباره عني بسبب ان السلطة نالت مني بشكل مباغت لم احسبه على الإطلاق، ونتيجة لذلك صودرت جميع أموالي وممتلكاتي )..
ومن ثم ترك العطار مضطرا العراق ووصل هو والعائلة إلى الأردن واُعلن الفراق عن الوطن دون سابق اتفاق.
ما سبق حدث قبل حوالي ثلاثة عقود، وهو رواية واحدة كان لها الحظ ان تبقى حية، لأن صاحبها كاتب وصحفي له مع القلم قضية..
فكم من روايات سترى النور مستقبلا، وكم من حكايات لا يعلمها إلا الله، وابطالها مجهولون وكانوا مثلي ومثلك يحبون ويكرهون،
يحلمون ويأملون.؟
الأستاذ العطار، يعمل في مجال حقوق الإنسان، يكتب وينشر، لا يمل ولا تهمه لومة لائم أو تعليق معلق فيما يعلن أو يَسُر، مرتاح بضميره ويعيش في عالم الإنسانيات ودنيا الإستقامة والثبات وقول الحق ولو على عشيرته وما لها من إمتيازات، لهذا تجده شابا ويقظا في الملامح والحركات..
وخصلته التي يتميز بها عن الآخرين هي أنه حيثما يولي وجهه للبحث عن المظالم التي وقعت للبشرية في هيروشيما أو ناجازاكي وما تركت من معالم، فانه في المطاف الأخير يولي وجهه شطر كوردستان ليقلب قضيتها ظهرا لبطن ويسهب في شرح ما ظهر منها وما بطن، ليتحدث عن حلبجة والأنفال وإنتهاكات حقوق الإنسان من قبل أناس لا هُمْ عباد الله ولا عباد الوثن..
وقد قرأت بأن السيد العطار وزملاؤه يحاولون جهدهم لطبع بعض آثارهم في كوردستان حول الأنفال وما جرى في الأهوار وحقوق الإنسان وبمساهمة من الحكومة..
فهذا لعمري إن تحقق فهو إنجاز كبير وتحقيق لأمل نحلم به جميعا، ولكن المرجو هو الدقة في الطباعة والمراجعة، وأن يكون لمراجعون مجيدين في اللغة العربية ولا يجعلون الخافضة رافعة.
لا يسعني هنا إلا أن أقول بأنه مهما تكن لأمة العرب من نواقص ـ والكورد ليسوا ملائكة وفيهم روافض ـ فان ما يؤلف بين الكورد وبينها أكثر مما يجمع بينهم وبين غيرهم..
وإن كان ثمة ظالمٌ ظلمَ الكورد، فقد ظلم العربَ أيضا بالجملة والمفرد..
وإنني على يقين بأنه لو قدر للعرب والكورد أن شكلا كيانا فيدراليا من دولتين (العراق ) و ( كوردستان ) صدقا وعدلا، ومن دون تدخل الأجانب وفي منأى عن الأعين الحاسدة والنفوس الحاقدة، فان هذا سيكون نموذجا للعالمين في المنطقة وتتحقق أهداف الدنيا والدين لكلا الشعبين رغم الألسُن الجاحدة.
ليس بيني وبين دار صديق الكورد ـ أو بالأحرى الكوردستاني ـ الأستاذ رياض العطار ـ أبو علي ـ أكثر من 60 مترا وأنا في مرمى قلمه المعطاء في الصباح والمساء، وفي كل مرة أقف في الشرفة لأتشمس أو أنشق هواء نقيا كي لا أنعس، أراه بعين خيالي وهو جالس
يكتب عن الأنفال وما لها من حكايات وقصص، وأجد نفسي صغيرا أمام خدماته لشعبي ووطني واحبائي العرب، واجده كبيرا وعظيما كعظمة مدينة الديوانية مسقط رأسه وجنة اُنسه.!
لا أطيق الإسترسال أكثر من هذا، ولا تقل لي كيف أو لماذا، فشجرة العربية أعلى من أن يصعدها العبد الفقير الآن وكما مضى..
وقد سبقنا في ذلك الشاعر الصوفي الكوردي (البيتوشي ) النحرير، الذي أقر بالحقيقة في آخر منظومته ( الكفاية ) مبينا علة التقصير :
وإن تجد شيئا خلاف الأدب فالطبع كوردي وهذا عربي