والمتمعن في خطاب هؤلاء ، سيلحظ فيه حضوراً واضحاً لذهنية المستبد وآلياتها التي تطول الضحية بدلاً من الجلاد أولاً ، ومن ثم الإنحدار الى مزالق الأممية الثانية التي إنساقت خلف أنظمتها ثانياً ، وإجترار نفس المقولات الدارجة التي كانت تلوكها وسائل إعلام الأنظمة المتحكمة بالكرد أيام الحرب الباردة أوإعادة إنتاجها بشكل بائس ثالثاً .
ومقال الداعية الشيوعي ( آرا خاجادور ) ، والذي نشرته بلهف صحيفة ( قاسيون ) للشيوعيين السوريين / منظمات القاعدة ، في عددها 281 الخميس 14 أيلول 2006 ، تحت عنوان : ( العراق الواحد وخطر الصراعات الثانوية المدمرة ) ، يأ تي في عين السياق الآنف الذكر ، بدليل ممارسته لفعل الأستذته في حق القيادات القومية الكردية من جهة ، وتحذيره من التفريط بالحلفاء الإستراتيجيين في الوطن ( العرب في العراق والأتراك في تركيا والفرس في إيران ) من جهة أخرى .
ما من شك أن دعوته هذه ـ أعني كسب الحلفاء ـ دعوة حق يُراد بها باطل ؛ فوفق التحليل الماركسي الذي لانشك في صحته على هذا الصعيد ، هناك أمتان حقيقة في كل أمة ، أمة تمارس الإستغلال والإضطهاد وأخرى تسعى الى كسر أغلال الإضطهاد وإزالة نير العبودية المسلط على الشعوب المضطهَدة كشعبنا الكردي ؛ ومن الطبيعي والحالة هذه أن يرى شعبنا في الأمة الثانية حليفاً طبيعياً ونصيراً استراتيجياً في مسيرته النضالية على دروب الحرية ، وهذا هو سر إحترام الكرد وتقديرهم لأمثال : إسماعيل بيشكجي في تركيا ، منذر الفضل في العراق ، وصالح القلاب في الأردن ، والدكتور أحمد ابو مطر في فلسطين … الخ ، والقائمة طويلة لايمكن لمقالة كهذه أن توفي المؤمنين بعدالة القضية الكردية ومناصريها حقهم ، سواء كانوا من أحرار العرب أوالترك أوالفرس ، ممن يشهد لهم التاريخ ماضياً وحاضراً بالمواقف المشرفة من قضايانا العادلة في كلٍ من سوريا والعراق وتركيا وإيران .
لكن ، بالله عليكم ، كيف يمكن أن ندرج أمثال ( صالح المطلق ) ـ الذي تجرّأ قبل أيام عدة على أن يشهر مثل دونكيشوت سيفاً خشبياً لترهيب الكرد في العراق بالتهديد والوعيد ـ ضمن الحلفاء الإستراتيجيين لشعبنا المنكوب ؟ .
إن الترهل الفكري عند صاحب المقال قد خلق ـ على ما يبدو ـ ترهلاً في أنساق التصور لديه ، وإلا كيف يُقدم على وصم الدستور العراقي الجديد بدستور العار ، ويتهم الحركة القومية الكردية بتهم ما أنزل الله بها من سلطان ، كالغوص في الوهم الأمريكي والإستقواء بالخارج وفقدانها لحلفائها العرب على حد زعمه ، وتوهمها بوجود حلفاء لها من العرب ، لكن من العرب العملاء والمشبوهين في حي المنطقة الخضراء على حد تعبيره ؟ .
ثم يمضي قدماً ، ليصف المرحلة التي تشهد ولادة عراق ما بعد الدكتاتورية بالزمان الرديء ! ..
وكأني به يتباكى على عهد الطاغية صدام حسين ، الذي أرسي في ظله بذور الطائفية المقيتة والتعصب القومي والشوفينية والفساد والفقر والجهل وذهنية إقصاء الآخر وثقافة الخوف والتخوين ؛ ولا ننسى أن العراقيين جميعاً من عرب وكرد وتركمان وكلدو آشوريين ، ممن تعاهدوا اليوم لبناء عراق ديمقراطي فيدرالي ، مازالوا يدفعون الى الآن ضريبة السياسات الحمقاء للنظام البائد ، بما في ذلك دخول القوات الأجنبية الى العراق ، هذا الدخول الذي أثار حفيظة الكاتب ؛ أما أن نحمّل القوى الوطنية والديمقراطية في العراق تبعات ماجرى ومايجري ، فهو ما لايقبله كل منصف ؛ فيكفي العراقيين الشرفاء فخراً أنهم قارعوا ـ لعقود من الزمن ـ أعتى الأنظمة الديكتاتورية ، وها هم يخوضون الإنتخابات تلو الإنتخابات بحماس منقطع النظير، قد يختلفون هنا أو هناك ، وفي هذا الظرف أو ذاك ، لكنهم ماضون الى بناء عراق جديد على طريقتهم ، عراق خال من كل أنواع الظلم والاستبداد والتخلف ، عراق تتحقق فيه إنسانية الإنسان وكرامته ، بعيداً عن أطروحات الطوباويين الجدد من أمثال ( خاجادور ) ، ممن يصبون الماء في طاحونة الإرهابيين الذين لايريدون الخير للعراق ولا لأهله .
ومن المؤسف قوله ، ان السيد ( خاجادور) في الوقت الذي يضرب فيه بكل هذه الحقائق السالفة الذكر عرض الحائط ، يخرج عن جادة الصواب حين يضفي على التاريخ المعاني التي يتوخاها بعد أن أعوزته المسوِّغات ، متوهماً وفق تنظيراته البائسة أن العراق ليس صناعة بريطانية ؛ فيلغي التاريخ بجرة قلم ويتنأى عن الموضوعية في قراءته ، مما دعاني الى الشك في نواياه ودوافعه ، سيما وأن سهامه المسمومة قد طالت بشكل خاص القائد التاريخي الخالد مصطفى البارزاني والأخ مسعود البارزاني رئيس كردستان ، والسيد جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق الفيدرالي ، وكان الأولى به كشيوعي أن يتلمس في نضال الشعب الكردي المضطهَد تلك السمة الديمقراطية التي أشار اليها لينين عند الأمم المستعبَدة قاطبة ، وألا يجاهر بمناهضة تطلعات الكرد نحو حق تقرير المصير ، رغم إختيار الكرد الفدرالية بمحض إرادتهم في هذا الظرف ؛ فالقاصي والداني يعلم أن مصير كردستان العراق قد قرِّر قسراً في بداية القرن العشرين ، وعن طريق الضم بمنأى عن الإرادة الحرة للكرد ، من لدن القوى العظمى وفي مقدمتها بريطانيا .
ما من شك ان الحملة الشعواء التي تشن منذ فترة لتشويه القضية الكردية هنا وهناك والإساءة الى رموز الكرد ، من قبل نفر من الشيوعيين المتزمتين ـ وعاظ السلاطين على حد وصف علي الوردي ـ في كل من سوريا والعراق ، ممن أهدروا فرصاً تاريخية لتجديد موقفهم من القضية الكردية ، ثم تقاعسوا عن أداء الواجب الذي تمليه عليهم المبادىء إزاء قضايا شعبنا الكردي ، أهدافها ليست خافية على أحد ، لأنها ـ ببسيط العبارة ـ حملة بالوكالة عن الأنظمة التي تضطهد شعبنا ، وتتم عن سبق الاصرار والتصميم ، بغية تيئيس شعبنا بأي ثمن وإحداث البلبلة بين صفوفه ولو عن طريق تشويه تاريخه ، إلا أنها ـ مهما تزيت بشتى الأقنعة ـ لن تجني ثمراً ، بفضل وعيِّ شعبنا وتوقه للحرية .
روى أحدهم ذات يوم حكاية كلبين تصادقا ، أحدهما من بلدٍ متقدم والآخر من بلدٍ متخلف ؛ دعا الأول صاحبه لزيارة بلده ، فلبى دعوته ، وحين رأى بأم عينيه وضع الكلاب في مقاعدها الوثيرة في الكراسي الأمامية الى جانب السائق ، وما يقدم لها من لحوم تسيل اللعاب ، وإعتناء بنظافتها وصحتها ، ناهيك عن بطاقات الهوية ككائنات بكامل الحقوق ، تحسر على مصير بني آدم في بلده .
لكن حين لاحت له كلبة أنيقة تأخذ بالألباب ، تحركت فيه غريزة الكلب فنبح ، إلا أن صاحبه أومأ له بضرورة الإلتزام باللياقة ، لأن النباح ممنوع بقرار ، كما أن الجماع يتطلب بدوره موافقة الجانب الآخر كي لايُدرج في عداد الإغتصاب ، الذي يعد من الأعمال الشائنة ، فإلتزم المسكين بالآداب العامة في البلد المتقدم على مضض ، وعاد الى بلده وفي قلبه غصة .
وبعد فترة من الوقت ، عزم كلب البلد المتقدم على زيارة صاحبه ، ففاجأته الأوضاع المزرية للكلاب في البلد المتخلف ، وكيف تنهر بالعصي والحجارة ؛ وبعد يوم من البحث تضور جوعاً ، لكن أخيراً لاح له صاحبه أمام أحد أبواب المسؤولين وهو يلحس عظمة ، مما إضطر هو الآخر الى النباح على غير عادته كي يظفر كصاحبه بعظمة .
وإذ يلح عليَّ القارىء بتبيان الحكمة من وراء هذه الحكاية ، وعلاقتها بالموضوع المطروح ، فأجيب على ذينك السؤالين على الفور : إن اللبيب من الإشارة يفهم .
يقول ماركس : ( إن من يريد أن يفهم لوحة فنية ، عليه أن يكون قد تلقى تربية فنية صحيحة ) ، فلو أسقطنا هذا القول على محاولة ( خاجادور ) ـ وأمثاله بالمناسبة كثر ـ لتقييم واقع الحركة الكردية ، لتوجب علينا القول بأنه ليس أهلاً لذلك ، طالما أنه مازال يروج للأنساق الايديولوجية التي شاعت في مرحلة الحرب الباردة وللتجربة التي إنهارت بعد نخر ملاطها ، بسبب العيوب التي إكتنفتها والتي تسربت بدورها الى النسيج الذهني لبعض أدعياء الماركسية في بلادنا من دون وعي ، الى أن غدت هذه العيوب سلوكاً يومياً يتحكمً في وجدانهم ، ويعاد إنتاجه أو إجتراره بإستمرار ، مما أدى الى نمذجة شخصيتهم على هذا النحو الكاريكاتيري الذي هم عليه الآن ؛ لكن من الإنصاف القول ، ان ما سبق ذكره لايقلل من الدور التنويري الذي لعبه الشيوعيون أولاً ، ومن بسالتهم ضد الإقطاع والأنظمة المستبدة ثانياً ، لأن هذا النموذج بعينه وهذا السلوك الذي نحن بصدده ، دخيل على الشيوعية ذاتها ، بقدر ما هو موروث ماضوي يستلهمه هذا الشخص أو ذاك من النظام السائد ثم ينساق وراءه ؛ ولا ننسى أننا ككرد ( أحزاباً ومثقفين ) ، نتحمل جزءاً من مسؤولية هذا التمادي من لدن هذا النموذج الممسوخ ، لأننا صفقنا له حيناً من الزمن ، وها نحن نتردد الى اليوم في تعريته أو مواجهته بحقيقته ، كي لانخسر صداقته ! … ألم يقل ( عمر بن الخطاب ) : ( لاتلزموا أنفسكم حق من لم يلزم نفسه حقكم ) ؟ .
إن التيه الذي يمتلك هذا النموذج وتماديه في الإساءة الى القضية الكردية ، سببه كثرة ما يسمعه من ثناء وإطراء من قبل بعض الكرد الإنتهازيين ، الذين يظهرون الموالاة له علانية ويطيب لهم التحدث عن مساوئه ومقابحه خفية ، وقد وصف القرآن الكريم سلوك أمثال هؤلاء المنافقين في قوله تعالى : [ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ] (سورة البقرة ، الآية 14 ) .
ولابأس من تذكير هؤلاء الوصوليين ، بما جرى بين ( معاوية بن أبي سفيان وأبو أسود الدؤلي ) ذات يوم ، وتحذيرهم ممن لايؤتمن عليه أصلاً من باب العبرة ليس إلا ، لأنه عاجلاً أو آجلاً سيزيح ورقة التوت عن عورات المتزلفين أو المخدوعين به .
فيروى أن ( الدؤلي ) كان في خلوة مع ( معاوية ) ، ثم تحرك فضرط ، فقال لمعاوية : استرها عليَّ .
فتعهد بذلك ، لكن فور خروج الدؤلي ، أفشى معاوية بالسر لحاشيته .
فقال الدؤلي : ان امرئاً ضعفت أمانته عن كتمان ضرطة ، كان حرياً ألا يؤتمن على المسلمين .
فحذارِ … حذارِِ … من ضرطة قد يكشف عنها اللثام ولو بعد أعوام .
ciziri@gmail.com
في 21/ 10 / 2006