يشهد الشرق الأوسط أوضاعاً متوترة في أكثر من بلد, تؤشر مجملها لملامح أولية لمرحلة جديدة من تاريخ المنطقة, قد تعيد رسم تحالفاتها وخارطتها السياسية, فالعراق يتحول إلى مركز رئيسي للإرهاب المدعوم إقليمياً, وتشهد العلاقات الطائفية فيه توتراً حاداً يهدد بحرب أهلية, وذلك في ظل أجواء عدم الثقة بين أطراف المكّون العراقي حيث يتمسك الجانب الشيعي بالميلشيات المسلحة في مواجهة حالة التمرد السائدة في المناطق السنية التي تحولت بالمقابل إلى ملاجئ للإرهابيين والتكفيريين
وتنعكس الأزمة المستفحلة للوضع العراقي على دول الجوار بقدر ما تستمد تعقيداتها من التدخلات الإقليمية لأنظمة تلك الدول التي لا تريد للمشروع الأمريكي أن ينجح في العراق، الذي ترفض تحوله إلى نموذج للتغيير الديمقراطي في المنطقة, لكنها تخشى بالمقابل من انتشار حالة الفوضى وانتقال الاضطرابات السائدة فيه إلى داخل حدودها, مثلما تخشى من احتمالات التقسيم الذي تجمع أنظمة تلك الدول على مواجهته, رغم انقساماتها الحادة وخلافاتها الكبيرة, مما يدفعها للاتفاق بالنهاية على الخطوط العريضة للحفاظ على وحدة العراق واستقراره، وتشاركها في ذلك الإدارة الأمريكية ..فإذا أضفنا إلى ذلك ما يحيط بالعراق من تعقيدات تطبع المنطقة عموماً, فإن افتراض إقبالهاعلى التغيير يتعزز، بشكل أو بآخر، لعل من تلك التعقيدات انهيار عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين, وإخفاقات الأنظمة العربية في احتواء الإسلاميين الراديكاليين الذين يحققون تقدماً ملموساً في الشارع العربي, ففي أي بلد يوضع المواطنون أمام خيار بين الأنظمة الفاسدة التقليدية وبين الأنظمة الدينية, فإنهم يختارون الثانية, ولم تساهم الضغوطات الدولية لإجراء الانتخابات الديمقراطية على نحو متسرع في العديد من الدول خاصة في السنوات الخمسة الأخيرة, إلا في تقديم المزيد من الفرص لنجاح المتطرفين الإسلاميين ومؤيديهم , وفي بعض الحالات تلجأ بعض الأنظمة للاعتماد على الخطاب الإسلامي مع الإبقاء على طبيعتها التسلطية التقليدية .
كما إن نجاح النظام الإيراني في رعاية ودعم العديد من الحركات الدينية التي جمعت صفوفها داخل تحالف واسع غير معلن يمتد من باكستان إلى موريتانيا ، بحيث أصبحت إيران تطل سياسياً وأمنياً على البحر المتوسط بعد أن ظل نفوذها محصوراً داخل الخليج فقط, جعل المنطقة ساحة لصراع ترى فيها أمريكا مجالاً حيوياً لمصالحها الإستراتيجية، وتطمح فيها إيران لدور شريك وتحويلها إلى خط الدفاع الأول عن مصالحها الخاصة, كما تواصل ابتزازها للمجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي, اعتماداً على أوراقها القوية، خاصة الورقة العراقية، بعد تكريس نفوذها في الجنوب الشيعي ,وورقة النفط والمصالح الاقتصادية التي تضغط بهما على كل من الصين وروسيا واليابان .
وبذلك فان ما تقدم يؤشر لحقبة جديدة قد تتبلور من خلال نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة, والتي قد تتراجع فيها فرص الجمهوريين في الحفاظ على الأغلبية في الكونغرس.
وفي علاقة واضحة دفعت الأوضاع المتوترة في المنطقة النظام السوري للتشدّد في الكثير من القضايا وممانعة الإجراءات الإصلاحية وتعطيل العديد من القوانين والمراسيم في مختلف القطاعات، وذلك تحت غطاء الأولوية لموضوع الأمن ومواجهة الضغوطات الخارجية، ويستند النظام في تشدده على الاعتقاد بان الظروف المحيطة تتحسن لمصلحته, وعلى الإيهام بان بديله الفوضى, وبأن المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري لا يمكن مواجهتها إلا بتأزيم الوضع اللبناني وتوتيره, ولذلك فهو يسعى لتعطيل تلك المحكمة عبر محاولة التخلص من الغطاء الشرعي الذي توفره الحكومة اللبنانية الحالية, ومما يزيد من جنوحه للتصعيد هو شعوره بان الإدارة الأمريكية قد تكون على استعداد للدخول معه في مساومات ، خاصة في ضوء التطورات الإقليمية التي يأتي التدهور الأمني في العراق في مقدمتها , وهو ما جاء في تقرير بيكر الذي أوصى بإشراك سوريا وإيران في جهود إنجاح العملية السياسية في العراق , وذلك بسبب إمساكهما بالعديد من أوراق الضغط الداخلية, وإذا صح ذلك فإن النظام يتصور بأن الضغوط على سوريا من أجل الديمقراطية وإطلاق الحريات ستتراجع مقابل تعاونه المفترض .
كما يراهن النظام على تحالفه المتين مع إيران التي يشاركه نظامها التضرّر من الوضع اللبناني بعد المباشرة في تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 ومن قدوم القوات الدولية إلى الجنوب , ومن احتمالات نجاحها في إغلاق تلك الجبهة مع إسرائيل, وبالتالي خسارتهما معاً لورقة ضغط هامة, خاصة إذا تمكنت قوات اليونيفيل من نزع سلاح حزب الله الذي يتحايل على الظروف والحاجات الوطنية بغية الاحتفاظ به .
ومن جانب أخر, فقد تسبّب ذلك التشدّد والارتهان للتحالف مع إيران في استعداء المحيط العربي, ولم تنجح حتى الآن المحاولات السورية الرامية لإصلاح الجسور مع كل من مصر والسعودية حيث رفعت الخلافات معهما الغطاء العربي الرسمي عن النظام، وبالتالي ساهمت في تضييق هامش المناورة أمامه, كما ساهمت في توتّر العلاقات مع أوربا على خلفية الوضع اللبناني المستجد وتنافس الدول الأوربية على المشاركة في قوات اليونيفيل لاستعادة الدور الأوربي في الشرق الأوسط من خلال البوابة اللبنانية, بعد أن وفرت حرب تموز الأخيرة له فرصة العودة لتمكين الدولة اللبنانية, من بسط سلطتها على كامل أراضيها وتحجيم دور حلفاء سوريا في لبنان .
وتأتي محاولات إصلاح ذات البين والتصالح مع تلك الدول العربية بالتزامن مع الإشارات المنقولة عنها بشان زيارة بعض الرموز في (جبهة الخلاص) للسعودية، والتي جاءت بمثابة رسالة سياسية تعني إمكانية تقديم نوع من الدعم العربي لتلك الجبهة المعارضة .
.كما تأتي تلك المحاولات بعد فشل الاتصالات غير المعلنة مع الأمريكان في التوصل إلى نتائج إيجابية رغم تبادل الإشارات, خاصة أثناء حرب لبنان, حيث أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية حينها عن تشكيل لجنة لدراسة إمكانية استئناف المفاوضات مع سوريا التي وجّهت بالمقابل رسالة سياسية من خلال حادث السفارة الأمريكية في دمشق تبدي فيها استعدادها للتعاون مع واشنطن في مكافحة الإرهاب .
ومن الطبيعي أن يشمل التشدّد الحراك الداخلي ونشاطات المعارضة السورية, حيث لا يزال القمع هو سيد الموقف منها، والذي امتد في يوم 5 تشرين الأول ليطال العشرات من المعتقلين وجرح العديد من المعتصمين أمام مجلس الوزراء بدمشق بمناسبة الذكرى الرابعة والأربعين لإجراء للإحصاء العنصري في محافظة الحسكة, وشاركت فيه مختلف القوى الوطنية السورية, ليتحول الى يوم وطني سوري, ويشير التعامل الهمجي مع المعتصمين إلى مدى إصرار النظام على ممانعة التغيير والإصلاح وسد الآذان أمام مطالب قوى المعارضة المنضوية في إطار إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي السلمي، والداعية للكف عن سياسة الإقصاء والقمع التي تمارسها السلطة ، خاصة تجاه قوى هذا الإعلان الذي رغم التزامه بالخيار الوطني القائم على رفض التسلط وهيمنة الحزب الواحد مقابل عدم الاستقواء بالخارج, فانه يلاقي صعوبات تتلخص بعضها في ازدياد روح السلبية في الشارع السوري وتردّده في المساهمة بالشأن العام , ولجوئه تحت تأثير الشعارات القومية إلى تحويل الاهتمامات نحو قضايا أخرى مجاورة في لبنان والأراضي الفلسطينية والعراق, وكذلك تراجع الاهتمام الدولي بقضايا الحريات وحقوق الإنسان، وبطؤ الإعلان في استكمال آليات عمله التنظيمية الكفيلة بالتفاعل مع الجماهير الشعبية وتحويله من مجرد حالة جمع حسابية لأطرافه الى أداة وطنية فعالة في الساحة ومنفعلة مع الناس والتطورات, ويعود ذلك البطء الى كونه تجربة جديدة للعمل المشترك، ويحتاج الى وقت آخر للتفعيل ونشر ثقافة التغيير الديمقراطي والعمل المشترك وزرع الثقة بين جميع أطرافه المؤمنة بالتغيير, ومن تلك الأطراف الحركة الوطنية الكردية في سوريا والمطالبة أيضاً باستكمال توحيد مواقفها وانجاز مشروعها المنشود وبناء المرجعية الكردية، التي لا تخدم فقط القضية الكردية, بل كذلك القضية الوطنية السورية العامة، وترفد النضال الديمقراطي العام بطاقات كبيرة ومنظمة من شأنها تمثيل إرادة الشعب الكردي وتأمين حقوقه القومية…ورغم إن مهمة بناء تلك المرجعية تعترضها صعوبات تعود معظمها لإشكالات تنظيمية, فإننا نعتقد بأن مصلحة قضيتنا التي تقتضي إنجاز تلك المهمة, هي التي سوف تتغلب بالنهاية, خاصة إذا علمنا جميعاً بأن طبيعة برامج ومهام وآليات عمل مثل هذه المرجعية تختلف عن مثيلاتها في حزب او إطار حزبي, فالكل- أحزاباً وإفراداً وإطارات وفعاليات- معنيون بها, ومن حق الجميع أن تكون لهم فيها تعبيرات خاصة بهم, وهذا يعني اعتماد مبدأ التوافقات والخطوط العامة الأساسية في عملية البناء بمختلف مراحلها وصياغاتها , حيث لا يمكن بدون ذلك بناء مرجعية بمقاس طرف دون آخر، وعليه فان على الجميع أن يدرك بأن أهمية تلك المرجعية ، خاصة في ظل الخوف من مداهمة التطورات المتلاحقة والسريعة لساحتنا السياسية، يفترض بها أن تحول دون تضخيم الخلافات الثانوية والمصالح الضيقة وتقديمها على الهدف الأساسي.
وفي الجوار الكردي, فان كردستان العراق, ورغم استقرارها النسبي أمنياً واقتصادياً واجتماعياً فإنها، كجزء من العراق، يلف القلق مستقبلها نتيجة الصعوبات التي تواجهها العملية السياسية برمتها, وكذلك نتيجة التهديدات الإقليمية المستمرة، وخاصة الإيرانية والتركية مؤخراً، والتي خلقت حالة من الإرهاب في المناطق الحدودية إثر التحشدات التركية والقصف الإيراني لتلك المناطق بحجة التواجد المسلح لمقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي أعلن وقف القتال من جانب واحد بعد أن طالبت بذلك قيادة حزب المجتمع الديمقراطي (DDP)، ولقيت التشجيع من جانب حكومة إقليم كردستان، وذلك لقطع الطريق أمام مبررات الجيش التركي الذي يتهيأ لعدوان عسكري جديد، وإتاحة الفرصة أمام حكومة آردغان لاتخاذ بعض الخطوات على طريق الحل السياسي السلمي للقضية الكردية في كردستان تركيا …ورغم إن الرد الرسمي التركي كان سلبياً على هذه المبادرة، فإنها نجحت، بالتعاون مع رفض واشنطن لمنح الضوء الأخضر لأي عدوان ورفض الجانب الكردي العراقي إعتبار PKK منظمة إرهابية، في لجم التحالف التركي الإيراني العدواني الرامي لإجهاض المنجزات السياسية التي تحققت، وإرغام حكومة إقليم كردستان على تقديم التنازلات بشأن كركوك، وهو ما يفسر التفاهم التركي الإيراني رغم الخلافات العميقة، لمواجهة الخطر الكردي المزعوم والمشترك الذي يمثله الكيان الكردي في الجوار، والذي قد يصبح نموذجا للاحتذاء بالنسبة لبقية الأجزاء، وخاصة تركيا التي تواجه تحديات أخرى لجهودها الحثيثة في الانضمام للاتحاد الأوربي، الذي يؤكد على ضرورة تمتع الشعب الكردي بحقوقه الثقافية، كشرط أساسي لبدء مباحثات العضوية، ويشكل هذا الالتزام، مع مواضيع أخرى مثل الاعتراف بجمهورية قبرص اليونانية، عراقيل جدية أمام مساعي الانضمام التي تبذلها تركيا ، حيث لم تثمر حتى الآن الجهود التي قامت بها حكومة اوردغان، ومنها تغيير العديد من القوانين والمواد الدستورية للحد من دور العسكر في الحياة السياسية، في حين لا تزال فيه بعض الدول الأوربية لا تخفي حساسيتها من انضمام دولة فقيرة وكبيرة وإسلامية مثل تركيا، التي تشهد داخلياً بروز عقبات كثيرة في طريق الالتزام بالمعايير الأوربية الخاصة بالحريات وحقوق الإنسان، وكذلك عدم نجاح القطاع الزراعي حتى الآن في التوليف مع المستوى الأوربي، وبقاء قضايا المرأة والحجاب والحريات الدينية بدون تعديل، إضافة لتشريع البرلمان الفرنسي لقانون معاقبة من ينكر حصول مذابح الأرمن في تركيا عام 1915 وتصريحات المستشارة الألمانية حول منح تركيا فقط حق الشراكة المتميّزة بدلاً من العضوية الكاملة .
2/11/2006
اللجنة السياسية
لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي)