خدر خلات بحزاني
khederas@hotmail.com تقديم
لم يكن بدر بخلدي أبدا إنني في يوم ما سوف اكتب عن الشيخ آدي بن مسافر موضوعا يخدم الشيخ نفسه تاريخيا أو دينيا..
والعلة كانت بسبب الفكرة التي تكونت لدي جراء الآراء التي اتفق عليها معظم من قرأت لهم حول أصل الشيخ، ولم تكن العلة في الشيخ نفسه، والسبب في إحجامي عن التفكير في الكتابة لا وبل حتى في الدفاع عن الشيخ آدي، هو إن الكثير من المصادر التي يرد الحديث فيها عنه من المصادر العربية الإسلامية وعن كراماته وأعماله وحياته، تصفه بالزاهد المسلم المتصرف والذي قدم إلى زاويته الشهيرة في لالش، هربا من بطش العباسيين الذين سيطروا على الحكم بعد الإطاحة بالدولة الأموية…
khederas@hotmail.com تقديم
لم يكن بدر بخلدي أبدا إنني في يوم ما سوف اكتب عن الشيخ آدي بن مسافر موضوعا يخدم الشيخ نفسه تاريخيا أو دينيا..
والعلة كانت بسبب الفكرة التي تكونت لدي جراء الآراء التي اتفق عليها معظم من قرأت لهم حول أصل الشيخ، ولم تكن العلة في الشيخ نفسه، والسبب في إحجامي عن التفكير في الكتابة لا وبل حتى في الدفاع عن الشيخ آدي، هو إن الكثير من المصادر التي يرد الحديث فيها عنه من المصادر العربية الإسلامية وعن كراماته وأعماله وحياته، تصفه بالزاهد المسلم المتصرف والذي قدم إلى زاويته الشهيرة في لالش، هربا من بطش العباسيين الذين سيطروا على الحكم بعد الإطاحة بالدولة الأموية…
ولا نعرف هل هي الصدفة أم انه الواقع الذي جعل معظم من درس أحوال الإيزدية وبالأخص شخصية الشيخ آدي باعتباره من أهم الشخصيات التي لها تأثير كبير على تبلور الديانة الإيزدية بصيغتها الأخيرة، نقول لا نعرف لماذا اتفق معظم الكتاب على إن الشيخ آدي ليس أكثر من زاهد مسلم متصرف؟!
وفي رأينا إن أكثر الكتاب المعنيين لم يكلفوا أنفسهم جهداً ولو قليلاً من اجل الوصول إلى الحقيقة، بل إن هؤلاء الكتاب استنسخوا كتابات وآراء من سبقهم، بدون
تمحيص وبدون تدقيق وكأنهم اعتبروا انه من العبث الوصول إلى حقيقة أخرى تخالف الرأي السائد عن الشيخ آدي بن مسافر.
بداية نحن نتفق مع المصادر التي ذكرت بان الشيخ آدي بن مسافر قد أتى إلى معبد لالش قادماً من بلاد الشام، أما هل إن سبب قدومه كان الهروب من العباسيين حسب ادعاء بعض الكتاب؟..
فهذا ما لا نستطيع الجزم به، ولكن لو علمنا بان الدولة العباسية قد قامت بحدود العام 685 ميلادية، وان الشيخ آدي من مواليد عام 1078 ميلادية(**)، فان هذا يلغي الفكرة التي تبناها بعض المؤرخين والكتاب حول إن الشيخ آدي قد لجا إلى الجبال الهكارية هربا من اضطهاد العباسيين، لأنه ليس من المعقول أن يكون ولاة الدولة العباسية مستمرين في مطاردة المتعاطفين مع البيت الأموي أو مطاردة أحفاد البيت الأموي لفترة تتجاوز ثلاثمائة وتسعون عام!!
وإننا نتساءل هنا، هل كانت هذه المطاردات أهم وأجدى من الفتوحات العباسية التي وصلت طاشقند وبخارى شرقا والى أقصى المغرب العربي غربا؟؟ بالطبع نحن نجيب وبقناعتنا الشخصية ونقول: لا وثم لا..
وبالإضافة إلى هذه الإجابة التي توضح لنا مدى انشغال ولاّة الدولة العباسية بتامين الإمدادات لتعزيز فتوحاتهم وتهميش خطر الأمويين الذين اندثروا وبدون رجعة، ويلغي أيضا الفكرة القائلة بان الشيخ آدي كان يحاول إيجاد دعم شعبي من اجل إعادة أمجاد الدولة الأموية بعد مضي أكثر من 390 عاما على سقوطها!!
على أية حال فان الشيخ آدي بعد خروجه من بلاد الشام، كان قد زار بغداد والتقى مع ابرز علمائها الدينيين المسلمين آنذاك مثل عبد القادر الكيلاني، حماد الدباس، عقيل المنبجي وغيرهم..
وهذا أيضا مما نتفق عليه مع المصادر نفسها، وقد وصل الشيخ آدي إلى الموصل بلا شك، أما عن الفترة التي قضاها الشيخ آدي في الموصل فهذا لا علم لنا به، ولكن الذي نعلمه إن الشيخ آدي حينما خرج قاصداً معبد لالش الواقع شمال الموصل بحدود ألـ 45 كم، فانه كان قد خرج لاستقباله جمع غفير من ابرز الوجوه الإيزدية من منطقتي بحزاني وبعشيقة ثم استقر في لالش دون مجابهة مع ساكنيه الشمسانيين وهذا دليل بأنه كان يحمل فكرهم الديني.
الذكاء..
أهم ميزات الشيخ آدي كان الشيخ آدي على اتصالات واسعة النطاق مع علماء وفقهاء زمانه من المتصوفين المسلمين في بغداد وبلاد الشام وغيرها، ويبدو إن الشيخ آدي كان رجلاً ذا نظر بعيد المدى وسياسيا محنكا وذا وزن وله شانه بين ابرز رجال زمانه من مختلف الأديان، وإلاّ بماذا نفسر الكتابات التي جاءت عنه في الكثير من الكتب وأبرزها (وفيات الأعيان) لابن خلكان و(بهجة أسرار ومعدن الأنوار) لعبد الغني الرحبي، وعشرات المصادر وغيرها.
ولكننا نقتبس ما جاء في بهجة الأسرار لان ما سيرد لاحقا يؤكد على الذكاء الشديد الذي كان يتمتع به الشيخ آدي: (وكان شيخ الإسلام محي الدين عبد القادر رضي الله تعالى عنه، ينوه بذكره ويثني عليه كثيرا ويشهد له بالسلطنة) وقال:
(لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي بن مسافر، وبالاستناد إلى الشيخ أبي محمد البطايحي يقول: (صليت بالشيخ عدي بن مسافر بلالش خمس سنين وأقمت عنده خمس سنين، فكان إذا سجد سمع لمخه في رأسه صوت كموقع الحصاة في القرعة اليابسة من شدة المجاهدة)(1).
إن ما ورد أعلاه يدعم فكرتنا ورأينا حول مدى رحابة وسعة العلاقات التي كانت تربط بين الشيخ آدي وبين العديد من العلماء والمتزهدين والمتصوفين من معاصريه، وكذلك يوضح لنا مدى ذكاء الشيخ آدي الذي كان يستقبل هؤلاء العلماء في معبد لالش، وكانوا يقيمون عنده لفترات متباعدة، ويمارسون طقوسهم الدينية بشكل علني وصريح، وفي الوقت نفسه، كان الشيخ آدي يلقن أتباعه من القوالين الأقوال الدينية التي تحوي من ضمن ما تحوي التمجيد والتعظيم بإيزيد (الله) وبطاووس ملك وهما ركنان روحيان رئيسيان للديانة الإيزدية.
والذي يمكننا أن نستنتجه مما ورد أعلاه هو الشيخ آدي كان على علم بما سيتعرض له الإيزدية من مضايقات من قبل مجاوريهم قبل استقراره في معبد لالش، ولو إن الشيخ آدي كان قد شجع أتباعه على التصدي ومحاربة جيرانهم من المسلمين، (وهو العارف العالم بوضعية الإيزدية آنذاك، والمدرك أيضا بمدى قوة واتساع رقعة العالم الإسلام) فانه يكون قد قاد الإيزدية إلى هاوية الانتحار والدمار النهائي، ولكن الشيخ آدي وبكل ذكاء استخدم طريق التعقل والمهادنة مع جيرانه الأقوياء وكسب ودهم وود علمائهم ومتصوفيهم الذين كان صوتهم مسموعا بالتأكيد على مستوى الشارع الإسلامي آنذاك ـ إذا جاز لنا التعبير ـ وفي الوقت نفسه كان الشيخ آدي يرصّ صفوف الإيزديين ويعيد تنظيمهم روحيا ودينيا واجتماعيا من خلال أفكاره الدينية والاجتماعية التي ما يزال الإيزديون يتناقلونها شفاهيا بينهم أباً عن جد، ولا نجد حرجاً من أن نذكر إن (بعض)هذه ألأفكار متأثرة إلى حد ما بالأفكار العقائدية الإسلامية، ولا ضير في ذلك ما دام إن نتيجة هذا التأثر أو المقاربة بين الأفكار كان إبعاد الحملات المناوئة للإيزديين والمحافظة على كيانهم ولو إلى حين..! عقيدة وديانة الشيخ آدي وهكذا نصل إلى النقطة الأخطر والأصعب في موضوعنا هذا..
ونطرح السؤال المهم والكبير وهو: (ما هو الدين أو المعتقد الذي كان يحمله الشيخ آدي بن مسافر في روحه وقلبه وعقله عندما وصل إلى معبد لالش واستقر فيه؟).
بالتأكيد هناك إجابتين على هذا السؤال وان إحدى هاتين الإجابتين صحيحة والأخرى خاطئة، ولا يمكن أن يكون هناك حلاً وسطا، فالموضوع مثلما نرى لا يتحمّل الحلول الوسطى.
الإجابة الأولى تقول: إن الشيخ آدي بن مسافر كان شيخاً مسلماً، والدليل على ذلك هو وجود الكثير من النفحات الإسلامية التي تعبق بها أقواله الدينية التي ما زالت
متداولة، وذلك لتأثره الواضح بالأفكار الإسلامية للمتصوفين المسلمين المعاصرين له، وكذلك من تسمية الجبل المحاذي للمعبد باسم جبل عرفات المشهور والموجود في مكة المكرمة، وتسمية ينبوع الماء الذي ينبع من احد الكهوف في داخل المعبد باسم زمزم..
علينا أن نعود للمصادر نفسها التي تحدثت عن الشيخ ما شاء لها الحديث(2) ومما نتفق عليه مع هذه المصادر، إن الشيخ آدي كان قد وصل إلى لالش الحالي قادماً من بعلبك في بلاد الشام وبصحبة بعض الأتباع، وبالتأكيد انه كان من بين هؤلاء الأتباع عدد من العوائل والأسر الذين استقر بهم المقام في منطقة بحزاني وبعشيقة الحالية، وممن يسميهم الكورد الإيزديين بـ (التازي Tajî) (3) وحالياً يبلغ تعداد هؤلاء (التازيTajî) بحدود (20000) العشرين ألف نسمة وهم الوحيدين من بين الإيزدية الذين يتكلمون العربية ذات اللكنة الشامية والمصحوبة ببعض الكلمات الكوردية البهدينانية..
ولنتدارس معاً أمر هذه العوائل الذين صحبوا الشيخ آدي في مسيرته من الشام إلى لالش، لأننا نعتقد إن معرفة أحوال هؤلاء (التازي Tajî) يخدم موضوعنا الرئيسي.
فإذا كان للشيخ غاية في نفسه في المجيء إلى معبد لالش، فما هي غاية هذه العوائل؟!
وما هي الفائدة التي يمكن أن يجنوها بمغادرة قراهم وضيعاتهم بكل ما تحويه من المزارع والبساتين في بلاد الشام والقدوم إلى كوردستان؟ ونسال مرة أخرى، لماذا
يتكلم أحفاد هؤلاء العوائل اللهجة العربية من بين كل إيزديي العالم سواء في العراق أو في سوريا أو في تركيا أو في إيران؟!
لنعود مرة أخرى للمصادر نفسها التي تبلغنا بان ولادة الشيخ آدي كانت في قرية (بيت فار) في بعلبك في منطقة تسمى (شوف الأكراد).
ويعتقد بعض الكتاب إن الشيخ آدي من الأكراد التيراهية(4) ولو علمنا بان الشيخ آدي كان من أسرة ذات سلطات دنيوية واسعة، بحيث إن أفراد هذه العوائل كانوا يطيعون أسرة الشيخ آدي في كل صغيرة وكبيرة، وهنا يكون مربط الفرس ـ كما يقولون ـ حيث لابد إن أجداد الشيخ آدي قدهاجروا لأسباب نجهلها من منطقة جبل هكار وسكنوا في بعلبك في بلاد الشام، والدليل الواضح الذي يؤكد قولنا هو اسم الشيخ والد الشيخ آدي والذي هو (مسافر)، نقول إن إطلاق هذا الاسم من قبل أجداد الشيخ لم يكن اعتباطا أو جزافا أو من باب الصدفة، بل إن إطلاق هذا الاسم من قبل أجداد الشيخ هو تعبير عن حالة أو قصة أو معاناة كانت تختلج في عقول أجداد الشيخ المبعدين عن وطنهم الأم، وطبعا هذه الهجرة (السفرة) كانت بصحبة أجداد العوائل المعنيين بموضوعنا هذا، وربما بزوال أسباب الهجرة، قام الشيخ آدي وبصحبة أحفاد العوائل نفسها بالعودة إلى الوطن الأم في كوردستان الحالية، ولكن لابد من أن الفترة الزمنية والطويلة نسبيا والتي قد تكون أكثر من مائة عام من السكن في بلاد الشام ومعايشة أهل الشام قد أثرت كثيراً في اللهجة التي حملها الأحفاد العائدين من الهجرة، بحيث إن هؤلاء الأحفاد أصبحت لهجتهم خليطا عجيبا من الكلمات العربية الشامية والكوردية..!!
ولا ننسى بان أبناء منطقة بحزاني وبعشيقة يعرفون بالتأكيد إن الكلمات الكوردية التي كان آبائهم يستعملونها في أحاديثهم اليومية بشكل عفوي وطبيعي قد أخذت وبمرور الزمن مع تنامي الثقافة العربية في المنطقة لعدم وجود مدارس كوردية تختفي وتنسحب تاركة الساحة للغة العربية في السيطرة وفرض سلطانها على لسان هؤلاء الناس! ونحن على يقين بان لهجة التازي (Tajî) قبل خمسين عاما مثلاً ـ كانت تختلف عن لهجتهم الحالية، والسبب هو افتقارها للكلمات الكوردية التي كان لها مساحة غير قليلة على خارطة هذه اللهجة فيما مضى..
وكنتيجة نهائية، فكلما رجعنا القهقرى بالسنين، كلما كانت الكلمات الكوردية تظهر وتزداد أكثر وأكثر في هذه اللهجة، وهذا الأمر معروف تماماً بالنسبة لأهالي بحزاني وبعشيقة..
وهذا يعني شيئا واضحا وهو إن سكنة بحزاني وبعشيقة الحاليين من الإيزدية هم أكراد وربما أكراد تيراهيين! ولكن الظروف التي ذكرناها أعلاه أوصلتهم إلى الحالة التي هم عليها اليوم، والدليل الذي يدعم قولنا هذا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ هو إن الزي الذي ما زال إيزديو بحزاني وبعشيقة يرتدونه هو زي كوردي واضح تمام الوضوح بالإضافة إلى التغييرات التي طرأت عليه مثلما تطرأ على أي زي كان بحكم تقادم الزمن وحسب تبدلات المودة (***).
قد نكون ابتعدنا عن الموضوع الرئيسي ولكننا نعتقد بان هذا الاستطراد مطلوب من اجل توضيح صورة غطاها غبار التشويه وإظهار حقائق ماثلة للعيان ولكن للأسف تم إغفالها أو التغافل عنها، وربما هذا الكلام يكشف ولأول مرة السر الذي حيّر الكثيرين فيما يخص إيزديو بحزاني وبعشيقة الذين يتكلمون العربية خلافا لجميع إيزديي العالم بالإضافة إلى إن هذا الاستطراد له علاقة واضحة وأكيدة بعقيدة الشيخ آدي!
فلو افترضنا بان الشيخ آدي كان مسلما متزهدا، وقدم إلى معبد لالش لغاية ما نفسه على سبيل المثال، ولنفترض بان الشيخ آدي (المسلم) وبحثا عن المجد الشخصي قد تنكر لدين آبائه، فهل من المعقول إن يتنكر لهذا الدين عشرات العوائل المسلمة التي رافقت الشيخ آدي في حلّه وترحاله؟؟ بالطبع الجواب هو لا.
فلا يمكن لعشرات العوائل المسلمة أن تتحول إلى دين آخر وتحت أية ظروف كانت!
وأيضا لو كان الشيخ آدي مسلما، فهل كان المتصوفون والمتزهدون المسلمون الذين كانوا دائما في ضيافته ليتغاضون عن أعمال الشيخ آدي في لقاءه الدائم مع من نسميهم (الأتباع)؟ وتلقينه المستمر لهم الأقوال الدينية التي كما ذكرنا في مقالنا إنها تحوي من ضمن ما تحويه الإشادة والتعظيم بطاووس ملك والتوجه إلى الشمس في قبلته، بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى الذي يأتي في أول المقام؟
وللمرة ما قبل الأخيرة نلجأ إلى احد المصادر التي تحدثت عن الشيخ آدي وبالتحديد نلجأ إلى كتاب ابن خلكان الذي قال: (سار ذكره في الآفاق وتبعه خلق كثير وجاوز حسب اعتقادهم فيه الحد الذي جعلوه قبلتهم التي يصلّون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها..
ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلاً لم يسمع لأرباب الزوايا مثله)(6)..
في حديث ابن خلكان توجد نقطتان بالغتا الأهمية، الأولى هو إن ألـ (خلق الكثير) و (أهل تلك النواحي كلها) الذين لم يزودنا ابن خلكان بهوية عقيدتهم، أي انه لم يعلمنا هل كانوا مسلمين ـ مثلاً ـ أم كانوا (شيئاً) آخر؟! النقطة الثانية والتي نراها تقل أهمية عن الأولى هي تلك المجاملة الصريحة والجميلة التي تم التعامل بها مع الشيخ آدي، ليس من ابن خلكان وحده، بل من كل، ونؤكد على كلمة (كل) من عاصر الشيخ وتعامل معه بشيء من المجاملة وحتى المبالغة في كراماته كقول احدهم:
(..وكان لو سجد سمع لمخه في رأسه صوت كوقع الحصاة في القرعة اليابسة..)(7).
ولتعزيز رأينا نلجأ إلى مقطع من النص الديني (قه ولى كانيا ماران) الذي ينفي (إسلامية) الشيخ آدي بشكل واضح لا لبس فيه، إذ يقول:
şîxadî şêx li eame
ewsifetê wî ji beri îslame
qedem gohast ji şame
الترجمة:الشيخ عدي هو الشيخ العام
وموصوف (وصفه) قبل الإسلام
وقد غير موضعه (مكانه) في الشام
إن المعنى الذي يمكن أن نستخلصه مما ورد أعلاه واضح كل الوضوح ولا جدال حول المعنى، فالشيخ آدي، (الزعيم الديني) يوصف بالشيخ العام وبأنه موصوف قبل الإسلام ـ بصيغة ما ـ وهذا التحديد الدقيق يؤيد رأينا وبقوة، ويشير أيضا إلى مبدأ تناسخ الأرواح أو مبدأ الحلول الذي يؤمن به الإيزديون، وهذا ليس موضوعنا الآن، وأيضا يبلغنا بتغيير موضع أو مكان الشيخ آدي من الشام والقدوم إلى معبد لالش.
وقبل أن نطرح رأينا النهائي في عقيدة الشيخ آدي نود أن نقول، إن التاريخ يكتبه المتنفذون الأقوياء ـ وهذا قول معروف، والإيزديون لم يكونوا في العصور الحديثة
يوما ما أقوياء أو متنفذين لكي يتمكنوا من تدوين تاريخهم الديني والاجتماعي، ومعظم من كتب الإيزدية خلال هذا القرن اقترف بحقهم المظالم، والصق بهم شتى أنواع
الاتهامات والعيوب التي لا مجال لحصرها!!
أما بخصوص الشيخ آدي بن مسافر فيبدو إن السادة المؤرخين والكتاب استكثروا وجود (رجل) ما وصاحب كرامات، وبشهادة العلماء المسلمين، ومذكور في عشرات المصادر الإسلامية بالذات، يدعى الإيزديون بأن هذا الرجل (إيزدي) وقد أتاهم ليعيد ترتيب شؤون البيت الإيزدي، بعد الانقلابات الهائلة التي أحدثها ظهور الإسلام وانتشاره في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص! و كأن هؤلاء الكتاب ممن وصفوا الشيخ آدي بأنه (زاهد مسلم) قد اعتبروا إن الكرامات والمعجزات هي احتكار لجماعة معينة ولا يمكن أن تمتاز بها جماعة أخرى)! خلاصة القول وغاية ما نريد قوله هنا، هو إن الشيخ آدي بن مسافر رجل إيزدي الولادة والقلب والروح والعقل، وكوردي القومية والدم..
لا بل هو ما يمكن أن نصفه بالمعجزة الأخيرة للإيزديين والتي أتت من حيث لا يدري الإيزديون بمواطن قوتهم! وان الشيخ آدي له كل الفضل في إعادة تنظيم الإيزديين وعلى مختلف الأصعدة، بعد الفواجع والنكبات التي لحقت بهم من جيرانهم..
وأكثر من ذلك، فإن الشيخ آدي وبأسلوبه السياسي الحاذق تمكن من أن يجنب الإيزديين المزيد من الويلات والكوارث عن طريق مجاملة جيرانه المسلمين واحترامه لعلمائهم ومتصوفيهم وتسامحه في بعض الأمور التي ربما يصعب على إيزديي اليوم التسامح بها!
وأما عن تسمية الجبل المحاذي لمعبد لالش باسم جبل عرفات، وينبوع الماء باسم زمزم، فإننا لا نستطيع أن نجزم بشكل قاطع بأن الشيخ آدي هو من أطلق هذين الاسمين الشهيرين على الجبل والينبوع، ومع ذلك نقول إن جبل عرفات وبئر زمزم موجودان في مكة المكرمة قبل مجيء الإسلام بمئات أو آلاف السنين..
وان إطلاق هذين الاسمين على الجبل وعلى الينبوع، وإن كان كذلك، فانه يبرهن على مدى براعة الشيخ آدي في مسايرة جيرانه الأقوياء وتجنب الاصطدام اللامجدي معهم بسبب عدم التكافؤ بين الفريقين.
وبالنسبة لضيوف الشيخ آنذاك من العلماء والمتصوفين المسلمين فإننا نعتقد بأن الحديث عن الشيخ آدي وعن كراماته التي منحه إياها الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان قد
ذاع في ذلك الزمان، الأمر الذي أثار فضول وحب استطلاع الكثيرين من شيوخ أو من أناس تلك الأيام، وان تلك الزيارات كانت من اجل التحقق والوقوف التام على صحة تلك الأخبار التي ذاعت وانتشرت عن الشيخ آدي..
وان الشيخ آدي وبكل ذكاء واقتدار استطاع أن يكسب احترام وتقدير وإعجاب زواره وضيوفه من العلماء المسلمين بل وصداقتهم كذلك..
ونستطيع أن نقول بأنه وقف لهم كالند يحاججهم ويناقشهم في شتى العلوم والمواضيع الأمر الذي أدى إلى زيادة أو مضاعفة إعجابهم وتقديرهم بالشيخ وصولا للمجاملات و(المبالغات) اللطيفة التي استحقها الشيخ آدي وبكل جدارة!
وأخيرا..
إن ما ورد في مقالنا هذا، مبني أساسا على الاستنتاجات التي خرجنا بها نتيجة مطالعتنا للمصادر القليلة المتوفرة تحت أيدينا، مع دراسة متواضعة لبعض
الآثار التي تركها الشيخ آدي، ونقصد من خلال ما ترك من تعليمات لأتباعه المخلصين.
كما إننا لم نعير أهمية إلى بعض الكتابات الحديثة نسبيا والتي تعج بالكلام الفارغ والمستنسخ والتي تدور في حلقة مفرغة، بدون تدقيق وبدون استقراء جدي لأقوال ولأعمال الشيخ آدي.
لقد آن الأوان لكي نشطب ونعترض على هذا التشويه المتعمد لتاريخ ابرز الشخصيات الدينية الإيزدية ونرفض الآراء الجاهزة والبليدة! ونحاول تصحيح أخطاء عشرات الكتاب ممن وضعوا حاجزا نفسيا من الصعب اختراقه بين الشيخ آدي وبين الإيزديين عامة، هذا الشيخ الذي أنقذ الإيزديين في اللحظات الأخيرة من خطر الانصهار والفناء، وأعطى للإيزديين من الطاقة الدافعة ما كفاها للوصول إلى بر الأمان وتجاوز العشرات من محاولات التقتيل والتنكيل والإبادة التي وقع ضد الإيزديين بعد رحيل الشيخ ـ المعجزة ـ آدي بن مسافر في حدود عام 1161ميلادية.
الهوامش والمصادر
ـ هناك آراء أخرى عديدة حول كيفية وصول الشيخ آدي إلى معبد لالش، ولكننا اختصرنا الطريق وتجنبنا الدخول في ملابسات وإشكالات نحن في غنى عنها، وسجلنا في مقالنا فقط ما يمكن ما نسميه (بالزبدة) أو بالخلاصة من هذه المرحلة.
1ـ جورج حبيب ـ اليزيدية بقايا دين قديم / بغداد / 1978 ص54.
2 ـ مجلة لالش العدد (11) عز الدين باقسري، الشيخ آدي والنظام الديني الإيزدي ص8 ـ9
3 ـ نفس المصدر، ص22.
ـ نفس المصدر، ص10.
(**) لو إن قومية (التازي ـ Tajî) هي العربية ـ مثلا ـ وكما يدعى بعض المدعين بذلك، فهل من المعقول أن يقوم الشيخ آدي بتلقين هؤلاء، الأتباع (التازي) بالأقوال الدينية والتي لغتها هي الكوردية البهدينانية؟ بينما هؤلاء التازي لا يجيدون اللغة الكوردية؟؟! وكذلك نحب أن نذكر بان من أهم الصفات أو المزايا التي يجب أن تتوفر في القوال هي إجادته للغة الكوردية!!
5ـ ردا للجميل ولإخلاص أهالي بحزاني وبعشيقة، فان الشيخ آدي قد ميزهم عن غيرهم من الإيزديين، وذلك في اختيار القوالين الدينيين من أهالي القريتين حصرا، وكذلك فان السنجق حينما يخرج به القوالون للتطواف على القرى الإيزدية فإن أولى محطاته تكون بحزاني مباشرة، أي من معبد لالش المقدس إلى بحزاني، ويبقى السنجق في بحزاني لمدة ثلاثة أيام متتالية وهذه ميزة أخرى، والمحطة الثانية تكون بعشيقة ولمدة يوم واحد فقط أسوة بباقي القرى الإيزدية، ومن ثم ينطلق القوالون بالسنجق لبقية القرى و المناطق الإيزدية.
6 ـ جورج حبيب، مصدر سابق ص53.
7 ـ نفس المصدر..
ص54.
ملاحظة: ما ورد في مقالنا بخصوص كتابي (وفيات الأعيان) (وبهجة الأسرار) تم اقتباسهم من كتاب جورج حبيب ـ اليزيدية بقايا دين قديم.
ـــــــــــــــــــــــــ
*: توضيح: نشر هذا المقال في مجلة لالش العدد (17) الصادرة عن مركز لالش الثقافي والاجتماعي ـ كانون الثاني ـ 2002.
** ـ وقعت بعض الأخطاء المطبعية أثناء طباعة المقال في حينه، وارتأينا تصحيح ذلك، لذا اقتضى التنويه.
وفي رأينا إن أكثر الكتاب المعنيين لم يكلفوا أنفسهم جهداً ولو قليلاً من اجل الوصول إلى الحقيقة، بل إن هؤلاء الكتاب استنسخوا كتابات وآراء من سبقهم، بدون
تمحيص وبدون تدقيق وكأنهم اعتبروا انه من العبث الوصول إلى حقيقة أخرى تخالف الرأي السائد عن الشيخ آدي بن مسافر.
بداية نحن نتفق مع المصادر التي ذكرت بان الشيخ آدي بن مسافر قد أتى إلى معبد لالش قادماً من بلاد الشام، أما هل إن سبب قدومه كان الهروب من العباسيين حسب ادعاء بعض الكتاب؟..
فهذا ما لا نستطيع الجزم به، ولكن لو علمنا بان الدولة العباسية قد قامت بحدود العام 685 ميلادية، وان الشيخ آدي من مواليد عام 1078 ميلادية(**)، فان هذا يلغي الفكرة التي تبناها بعض المؤرخين والكتاب حول إن الشيخ آدي قد لجا إلى الجبال الهكارية هربا من اضطهاد العباسيين، لأنه ليس من المعقول أن يكون ولاة الدولة العباسية مستمرين في مطاردة المتعاطفين مع البيت الأموي أو مطاردة أحفاد البيت الأموي لفترة تتجاوز ثلاثمائة وتسعون عام!!
وإننا نتساءل هنا، هل كانت هذه المطاردات أهم وأجدى من الفتوحات العباسية التي وصلت طاشقند وبخارى شرقا والى أقصى المغرب العربي غربا؟؟ بالطبع نحن نجيب وبقناعتنا الشخصية ونقول: لا وثم لا..
وبالإضافة إلى هذه الإجابة التي توضح لنا مدى انشغال ولاّة الدولة العباسية بتامين الإمدادات لتعزيز فتوحاتهم وتهميش خطر الأمويين الذين اندثروا وبدون رجعة، ويلغي أيضا الفكرة القائلة بان الشيخ آدي كان يحاول إيجاد دعم شعبي من اجل إعادة أمجاد الدولة الأموية بعد مضي أكثر من 390 عاما على سقوطها!!
على أية حال فان الشيخ آدي بعد خروجه من بلاد الشام، كان قد زار بغداد والتقى مع ابرز علمائها الدينيين المسلمين آنذاك مثل عبد القادر الكيلاني، حماد الدباس، عقيل المنبجي وغيرهم..
وهذا أيضا مما نتفق عليه مع المصادر نفسها، وقد وصل الشيخ آدي إلى الموصل بلا شك، أما عن الفترة التي قضاها الشيخ آدي في الموصل فهذا لا علم لنا به، ولكن الذي نعلمه إن الشيخ آدي حينما خرج قاصداً معبد لالش الواقع شمال الموصل بحدود ألـ 45 كم، فانه كان قد خرج لاستقباله جمع غفير من ابرز الوجوه الإيزدية من منطقتي بحزاني وبعشيقة ثم استقر في لالش دون مجابهة مع ساكنيه الشمسانيين وهذا دليل بأنه كان يحمل فكرهم الديني.
الذكاء..
أهم ميزات الشيخ آدي كان الشيخ آدي على اتصالات واسعة النطاق مع علماء وفقهاء زمانه من المتصوفين المسلمين في بغداد وبلاد الشام وغيرها، ويبدو إن الشيخ آدي كان رجلاً ذا نظر بعيد المدى وسياسيا محنكا وذا وزن وله شانه بين ابرز رجال زمانه من مختلف الأديان، وإلاّ بماذا نفسر الكتابات التي جاءت عنه في الكثير من الكتب وأبرزها (وفيات الأعيان) لابن خلكان و(بهجة أسرار ومعدن الأنوار) لعبد الغني الرحبي، وعشرات المصادر وغيرها.
ولكننا نقتبس ما جاء في بهجة الأسرار لان ما سيرد لاحقا يؤكد على الذكاء الشديد الذي كان يتمتع به الشيخ آدي: (وكان شيخ الإسلام محي الدين عبد القادر رضي الله تعالى عنه، ينوه بذكره ويثني عليه كثيرا ويشهد له بالسلطنة) وقال:
(لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي بن مسافر، وبالاستناد إلى الشيخ أبي محمد البطايحي يقول: (صليت بالشيخ عدي بن مسافر بلالش خمس سنين وأقمت عنده خمس سنين، فكان إذا سجد سمع لمخه في رأسه صوت كموقع الحصاة في القرعة اليابسة من شدة المجاهدة)(1).
إن ما ورد أعلاه يدعم فكرتنا ورأينا حول مدى رحابة وسعة العلاقات التي كانت تربط بين الشيخ آدي وبين العديد من العلماء والمتزهدين والمتصوفين من معاصريه، وكذلك يوضح لنا مدى ذكاء الشيخ آدي الذي كان يستقبل هؤلاء العلماء في معبد لالش، وكانوا يقيمون عنده لفترات متباعدة، ويمارسون طقوسهم الدينية بشكل علني وصريح، وفي الوقت نفسه، كان الشيخ آدي يلقن أتباعه من القوالين الأقوال الدينية التي تحوي من ضمن ما تحوي التمجيد والتعظيم بإيزيد (الله) وبطاووس ملك وهما ركنان روحيان رئيسيان للديانة الإيزدية.
والذي يمكننا أن نستنتجه مما ورد أعلاه هو الشيخ آدي كان على علم بما سيتعرض له الإيزدية من مضايقات من قبل مجاوريهم قبل استقراره في معبد لالش، ولو إن الشيخ آدي كان قد شجع أتباعه على التصدي ومحاربة جيرانهم من المسلمين، (وهو العارف العالم بوضعية الإيزدية آنذاك، والمدرك أيضا بمدى قوة واتساع رقعة العالم الإسلام) فانه يكون قد قاد الإيزدية إلى هاوية الانتحار والدمار النهائي، ولكن الشيخ آدي وبكل ذكاء استخدم طريق التعقل والمهادنة مع جيرانه الأقوياء وكسب ودهم وود علمائهم ومتصوفيهم الذين كان صوتهم مسموعا بالتأكيد على مستوى الشارع الإسلامي آنذاك ـ إذا جاز لنا التعبير ـ وفي الوقت نفسه كان الشيخ آدي يرصّ صفوف الإيزديين ويعيد تنظيمهم روحيا ودينيا واجتماعيا من خلال أفكاره الدينية والاجتماعية التي ما يزال الإيزديون يتناقلونها شفاهيا بينهم أباً عن جد، ولا نجد حرجاً من أن نذكر إن (بعض)هذه ألأفكار متأثرة إلى حد ما بالأفكار العقائدية الإسلامية، ولا ضير في ذلك ما دام إن نتيجة هذا التأثر أو المقاربة بين الأفكار كان إبعاد الحملات المناوئة للإيزديين والمحافظة على كيانهم ولو إلى حين..! عقيدة وديانة الشيخ آدي وهكذا نصل إلى النقطة الأخطر والأصعب في موضوعنا هذا..
ونطرح السؤال المهم والكبير وهو: (ما هو الدين أو المعتقد الذي كان يحمله الشيخ آدي بن مسافر في روحه وقلبه وعقله عندما وصل إلى معبد لالش واستقر فيه؟).
بالتأكيد هناك إجابتين على هذا السؤال وان إحدى هاتين الإجابتين صحيحة والأخرى خاطئة، ولا يمكن أن يكون هناك حلاً وسطا، فالموضوع مثلما نرى لا يتحمّل الحلول الوسطى.
الإجابة الأولى تقول: إن الشيخ آدي بن مسافر كان شيخاً مسلماً، والدليل على ذلك هو وجود الكثير من النفحات الإسلامية التي تعبق بها أقواله الدينية التي ما زالت
متداولة، وذلك لتأثره الواضح بالأفكار الإسلامية للمتصوفين المسلمين المعاصرين له، وكذلك من تسمية الجبل المحاذي للمعبد باسم جبل عرفات المشهور والموجود في مكة المكرمة، وتسمية ينبوع الماء الذي ينبع من احد الكهوف في داخل المعبد باسم زمزم..
علينا أن نعود للمصادر نفسها التي تحدثت عن الشيخ ما شاء لها الحديث(2) ومما نتفق عليه مع هذه المصادر، إن الشيخ آدي كان قد وصل إلى لالش الحالي قادماً من بعلبك في بلاد الشام وبصحبة بعض الأتباع، وبالتأكيد انه كان من بين هؤلاء الأتباع عدد من العوائل والأسر الذين استقر بهم المقام في منطقة بحزاني وبعشيقة الحالية، وممن يسميهم الكورد الإيزديين بـ (التازي Tajî) (3) وحالياً يبلغ تعداد هؤلاء (التازيTajî) بحدود (20000) العشرين ألف نسمة وهم الوحيدين من بين الإيزدية الذين يتكلمون العربية ذات اللكنة الشامية والمصحوبة ببعض الكلمات الكوردية البهدينانية..
ولنتدارس معاً أمر هذه العوائل الذين صحبوا الشيخ آدي في مسيرته من الشام إلى لالش، لأننا نعتقد إن معرفة أحوال هؤلاء (التازي Tajî) يخدم موضوعنا الرئيسي.
فإذا كان للشيخ غاية في نفسه في المجيء إلى معبد لالش، فما هي غاية هذه العوائل؟!
وما هي الفائدة التي يمكن أن يجنوها بمغادرة قراهم وضيعاتهم بكل ما تحويه من المزارع والبساتين في بلاد الشام والقدوم إلى كوردستان؟ ونسال مرة أخرى، لماذا
يتكلم أحفاد هؤلاء العوائل اللهجة العربية من بين كل إيزديي العالم سواء في العراق أو في سوريا أو في تركيا أو في إيران؟!
لنعود مرة أخرى للمصادر نفسها التي تبلغنا بان ولادة الشيخ آدي كانت في قرية (بيت فار) في بعلبك في منطقة تسمى (شوف الأكراد).
ويعتقد بعض الكتاب إن الشيخ آدي من الأكراد التيراهية(4) ولو علمنا بان الشيخ آدي كان من أسرة ذات سلطات دنيوية واسعة، بحيث إن أفراد هذه العوائل كانوا يطيعون أسرة الشيخ آدي في كل صغيرة وكبيرة، وهنا يكون مربط الفرس ـ كما يقولون ـ حيث لابد إن أجداد الشيخ آدي قدهاجروا لأسباب نجهلها من منطقة جبل هكار وسكنوا في بعلبك في بلاد الشام، والدليل الواضح الذي يؤكد قولنا هو اسم الشيخ والد الشيخ آدي والذي هو (مسافر)، نقول إن إطلاق هذا الاسم من قبل أجداد الشيخ لم يكن اعتباطا أو جزافا أو من باب الصدفة، بل إن إطلاق هذا الاسم من قبل أجداد الشيخ هو تعبير عن حالة أو قصة أو معاناة كانت تختلج في عقول أجداد الشيخ المبعدين عن وطنهم الأم، وطبعا هذه الهجرة (السفرة) كانت بصحبة أجداد العوائل المعنيين بموضوعنا هذا، وربما بزوال أسباب الهجرة، قام الشيخ آدي وبصحبة أحفاد العوائل نفسها بالعودة إلى الوطن الأم في كوردستان الحالية، ولكن لابد من أن الفترة الزمنية والطويلة نسبيا والتي قد تكون أكثر من مائة عام من السكن في بلاد الشام ومعايشة أهل الشام قد أثرت كثيراً في اللهجة التي حملها الأحفاد العائدين من الهجرة، بحيث إن هؤلاء الأحفاد أصبحت لهجتهم خليطا عجيبا من الكلمات العربية الشامية والكوردية..!!
ولا ننسى بان أبناء منطقة بحزاني وبعشيقة يعرفون بالتأكيد إن الكلمات الكوردية التي كان آبائهم يستعملونها في أحاديثهم اليومية بشكل عفوي وطبيعي قد أخذت وبمرور الزمن مع تنامي الثقافة العربية في المنطقة لعدم وجود مدارس كوردية تختفي وتنسحب تاركة الساحة للغة العربية في السيطرة وفرض سلطانها على لسان هؤلاء الناس! ونحن على يقين بان لهجة التازي (Tajî) قبل خمسين عاما مثلاً ـ كانت تختلف عن لهجتهم الحالية، والسبب هو افتقارها للكلمات الكوردية التي كان لها مساحة غير قليلة على خارطة هذه اللهجة فيما مضى..
وكنتيجة نهائية، فكلما رجعنا القهقرى بالسنين، كلما كانت الكلمات الكوردية تظهر وتزداد أكثر وأكثر في هذه اللهجة، وهذا الأمر معروف تماماً بالنسبة لأهالي بحزاني وبعشيقة..
وهذا يعني شيئا واضحا وهو إن سكنة بحزاني وبعشيقة الحاليين من الإيزدية هم أكراد وربما أكراد تيراهيين! ولكن الظروف التي ذكرناها أعلاه أوصلتهم إلى الحالة التي هم عليها اليوم، والدليل الذي يدعم قولنا هذا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ هو إن الزي الذي ما زال إيزديو بحزاني وبعشيقة يرتدونه هو زي كوردي واضح تمام الوضوح بالإضافة إلى التغييرات التي طرأت عليه مثلما تطرأ على أي زي كان بحكم تقادم الزمن وحسب تبدلات المودة (***).
قد نكون ابتعدنا عن الموضوع الرئيسي ولكننا نعتقد بان هذا الاستطراد مطلوب من اجل توضيح صورة غطاها غبار التشويه وإظهار حقائق ماثلة للعيان ولكن للأسف تم إغفالها أو التغافل عنها، وربما هذا الكلام يكشف ولأول مرة السر الذي حيّر الكثيرين فيما يخص إيزديو بحزاني وبعشيقة الذين يتكلمون العربية خلافا لجميع إيزديي العالم بالإضافة إلى إن هذا الاستطراد له علاقة واضحة وأكيدة بعقيدة الشيخ آدي!
فلو افترضنا بان الشيخ آدي كان مسلما متزهدا، وقدم إلى معبد لالش لغاية ما نفسه على سبيل المثال، ولنفترض بان الشيخ آدي (المسلم) وبحثا عن المجد الشخصي قد تنكر لدين آبائه، فهل من المعقول إن يتنكر لهذا الدين عشرات العوائل المسلمة التي رافقت الشيخ آدي في حلّه وترحاله؟؟ بالطبع الجواب هو لا.
فلا يمكن لعشرات العوائل المسلمة أن تتحول إلى دين آخر وتحت أية ظروف كانت!
وأيضا لو كان الشيخ آدي مسلما، فهل كان المتصوفون والمتزهدون المسلمون الذين كانوا دائما في ضيافته ليتغاضون عن أعمال الشيخ آدي في لقاءه الدائم مع من نسميهم (الأتباع)؟ وتلقينه المستمر لهم الأقوال الدينية التي كما ذكرنا في مقالنا إنها تحوي من ضمن ما تحويه الإشادة والتعظيم بطاووس ملك والتوجه إلى الشمس في قبلته، بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى الذي يأتي في أول المقام؟
وللمرة ما قبل الأخيرة نلجأ إلى احد المصادر التي تحدثت عن الشيخ آدي وبالتحديد نلجأ إلى كتاب ابن خلكان الذي قال: (سار ذكره في الآفاق وتبعه خلق كثير وجاوز حسب اعتقادهم فيه الحد الذي جعلوه قبلتهم التي يصلّون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها..
ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلاً لم يسمع لأرباب الزوايا مثله)(6)..
في حديث ابن خلكان توجد نقطتان بالغتا الأهمية، الأولى هو إن ألـ (خلق الكثير) و (أهل تلك النواحي كلها) الذين لم يزودنا ابن خلكان بهوية عقيدتهم، أي انه لم يعلمنا هل كانوا مسلمين ـ مثلاً ـ أم كانوا (شيئاً) آخر؟! النقطة الثانية والتي نراها تقل أهمية عن الأولى هي تلك المجاملة الصريحة والجميلة التي تم التعامل بها مع الشيخ آدي، ليس من ابن خلكان وحده، بل من كل، ونؤكد على كلمة (كل) من عاصر الشيخ وتعامل معه بشيء من المجاملة وحتى المبالغة في كراماته كقول احدهم:
(..وكان لو سجد سمع لمخه في رأسه صوت كوقع الحصاة في القرعة اليابسة..)(7).
ولتعزيز رأينا نلجأ إلى مقطع من النص الديني (قه ولى كانيا ماران) الذي ينفي (إسلامية) الشيخ آدي بشكل واضح لا لبس فيه، إذ يقول:
şîxadî şêx li eame
ewsifetê wî ji beri îslame
qedem gohast ji şame
الترجمة:الشيخ عدي هو الشيخ العام
وموصوف (وصفه) قبل الإسلام
وقد غير موضعه (مكانه) في الشام
إن المعنى الذي يمكن أن نستخلصه مما ورد أعلاه واضح كل الوضوح ولا جدال حول المعنى، فالشيخ آدي، (الزعيم الديني) يوصف بالشيخ العام وبأنه موصوف قبل الإسلام ـ بصيغة ما ـ وهذا التحديد الدقيق يؤيد رأينا وبقوة، ويشير أيضا إلى مبدأ تناسخ الأرواح أو مبدأ الحلول الذي يؤمن به الإيزديون، وهذا ليس موضوعنا الآن، وأيضا يبلغنا بتغيير موضع أو مكان الشيخ آدي من الشام والقدوم إلى معبد لالش.
وقبل أن نطرح رأينا النهائي في عقيدة الشيخ آدي نود أن نقول، إن التاريخ يكتبه المتنفذون الأقوياء ـ وهذا قول معروف، والإيزديون لم يكونوا في العصور الحديثة
يوما ما أقوياء أو متنفذين لكي يتمكنوا من تدوين تاريخهم الديني والاجتماعي، ومعظم من كتب الإيزدية خلال هذا القرن اقترف بحقهم المظالم، والصق بهم شتى أنواع
الاتهامات والعيوب التي لا مجال لحصرها!!
أما بخصوص الشيخ آدي بن مسافر فيبدو إن السادة المؤرخين والكتاب استكثروا وجود (رجل) ما وصاحب كرامات، وبشهادة العلماء المسلمين، ومذكور في عشرات المصادر الإسلامية بالذات، يدعى الإيزديون بأن هذا الرجل (إيزدي) وقد أتاهم ليعيد ترتيب شؤون البيت الإيزدي، بعد الانقلابات الهائلة التي أحدثها ظهور الإسلام وانتشاره في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص! و كأن هؤلاء الكتاب ممن وصفوا الشيخ آدي بأنه (زاهد مسلم) قد اعتبروا إن الكرامات والمعجزات هي احتكار لجماعة معينة ولا يمكن أن تمتاز بها جماعة أخرى)! خلاصة القول وغاية ما نريد قوله هنا، هو إن الشيخ آدي بن مسافر رجل إيزدي الولادة والقلب والروح والعقل، وكوردي القومية والدم..
لا بل هو ما يمكن أن نصفه بالمعجزة الأخيرة للإيزديين والتي أتت من حيث لا يدري الإيزديون بمواطن قوتهم! وان الشيخ آدي له كل الفضل في إعادة تنظيم الإيزديين وعلى مختلف الأصعدة، بعد الفواجع والنكبات التي لحقت بهم من جيرانهم..
وأكثر من ذلك، فإن الشيخ آدي وبأسلوبه السياسي الحاذق تمكن من أن يجنب الإيزديين المزيد من الويلات والكوارث عن طريق مجاملة جيرانه المسلمين واحترامه لعلمائهم ومتصوفيهم وتسامحه في بعض الأمور التي ربما يصعب على إيزديي اليوم التسامح بها!
وأما عن تسمية الجبل المحاذي لمعبد لالش باسم جبل عرفات، وينبوع الماء باسم زمزم، فإننا لا نستطيع أن نجزم بشكل قاطع بأن الشيخ آدي هو من أطلق هذين الاسمين الشهيرين على الجبل والينبوع، ومع ذلك نقول إن جبل عرفات وبئر زمزم موجودان في مكة المكرمة قبل مجيء الإسلام بمئات أو آلاف السنين..
وان إطلاق هذين الاسمين على الجبل وعلى الينبوع، وإن كان كذلك، فانه يبرهن على مدى براعة الشيخ آدي في مسايرة جيرانه الأقوياء وتجنب الاصطدام اللامجدي معهم بسبب عدم التكافؤ بين الفريقين.
وبالنسبة لضيوف الشيخ آنذاك من العلماء والمتصوفين المسلمين فإننا نعتقد بأن الحديث عن الشيخ آدي وعن كراماته التي منحه إياها الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان قد
ذاع في ذلك الزمان، الأمر الذي أثار فضول وحب استطلاع الكثيرين من شيوخ أو من أناس تلك الأيام، وان تلك الزيارات كانت من اجل التحقق والوقوف التام على صحة تلك الأخبار التي ذاعت وانتشرت عن الشيخ آدي..
وان الشيخ آدي وبكل ذكاء واقتدار استطاع أن يكسب احترام وتقدير وإعجاب زواره وضيوفه من العلماء المسلمين بل وصداقتهم كذلك..
ونستطيع أن نقول بأنه وقف لهم كالند يحاججهم ويناقشهم في شتى العلوم والمواضيع الأمر الذي أدى إلى زيادة أو مضاعفة إعجابهم وتقديرهم بالشيخ وصولا للمجاملات و(المبالغات) اللطيفة التي استحقها الشيخ آدي وبكل جدارة!
وأخيرا..
إن ما ورد في مقالنا هذا، مبني أساسا على الاستنتاجات التي خرجنا بها نتيجة مطالعتنا للمصادر القليلة المتوفرة تحت أيدينا، مع دراسة متواضعة لبعض
الآثار التي تركها الشيخ آدي، ونقصد من خلال ما ترك من تعليمات لأتباعه المخلصين.
كما إننا لم نعير أهمية إلى بعض الكتابات الحديثة نسبيا والتي تعج بالكلام الفارغ والمستنسخ والتي تدور في حلقة مفرغة، بدون تدقيق وبدون استقراء جدي لأقوال ولأعمال الشيخ آدي.
لقد آن الأوان لكي نشطب ونعترض على هذا التشويه المتعمد لتاريخ ابرز الشخصيات الدينية الإيزدية ونرفض الآراء الجاهزة والبليدة! ونحاول تصحيح أخطاء عشرات الكتاب ممن وضعوا حاجزا نفسيا من الصعب اختراقه بين الشيخ آدي وبين الإيزديين عامة، هذا الشيخ الذي أنقذ الإيزديين في اللحظات الأخيرة من خطر الانصهار والفناء، وأعطى للإيزديين من الطاقة الدافعة ما كفاها للوصول إلى بر الأمان وتجاوز العشرات من محاولات التقتيل والتنكيل والإبادة التي وقع ضد الإيزديين بعد رحيل الشيخ ـ المعجزة ـ آدي بن مسافر في حدود عام 1161ميلادية.
الهوامش والمصادر
ـ هناك آراء أخرى عديدة حول كيفية وصول الشيخ آدي إلى معبد لالش، ولكننا اختصرنا الطريق وتجنبنا الدخول في ملابسات وإشكالات نحن في غنى عنها، وسجلنا في مقالنا فقط ما يمكن ما نسميه (بالزبدة) أو بالخلاصة من هذه المرحلة.
1ـ جورج حبيب ـ اليزيدية بقايا دين قديم / بغداد / 1978 ص54.
2 ـ مجلة لالش العدد (11) عز الدين باقسري، الشيخ آدي والنظام الديني الإيزدي ص8 ـ9
3 ـ نفس المصدر، ص22.
ـ نفس المصدر، ص10.
(**) لو إن قومية (التازي ـ Tajî) هي العربية ـ مثلا ـ وكما يدعى بعض المدعين بذلك، فهل من المعقول أن يقوم الشيخ آدي بتلقين هؤلاء، الأتباع (التازي) بالأقوال الدينية والتي لغتها هي الكوردية البهدينانية؟ بينما هؤلاء التازي لا يجيدون اللغة الكوردية؟؟! وكذلك نحب أن نذكر بان من أهم الصفات أو المزايا التي يجب أن تتوفر في القوال هي إجادته للغة الكوردية!!
5ـ ردا للجميل ولإخلاص أهالي بحزاني وبعشيقة، فان الشيخ آدي قد ميزهم عن غيرهم من الإيزديين، وذلك في اختيار القوالين الدينيين من أهالي القريتين حصرا، وكذلك فان السنجق حينما يخرج به القوالون للتطواف على القرى الإيزدية فإن أولى محطاته تكون بحزاني مباشرة، أي من معبد لالش المقدس إلى بحزاني، ويبقى السنجق في بحزاني لمدة ثلاثة أيام متتالية وهذه ميزة أخرى، والمحطة الثانية تكون بعشيقة ولمدة يوم واحد فقط أسوة بباقي القرى الإيزدية، ومن ثم ينطلق القوالون بالسنجق لبقية القرى و المناطق الإيزدية.
6 ـ جورج حبيب، مصدر سابق ص53.
7 ـ نفس المصدر..
ص54.
ملاحظة: ما ورد في مقالنا بخصوص كتابي (وفيات الأعيان) (وبهجة الأسرار) تم اقتباسهم من كتاب جورج حبيب ـ اليزيدية بقايا دين قديم.
ـــــــــــــــــــــــــ
*: توضيح: نشر هذا المقال في مجلة لالش العدد (17) الصادرة عن مركز لالش الثقافي والاجتماعي ـ كانون الثاني ـ 2002.
** ـ وقعت بعض الأخطاء المطبعية أثناء طباعة المقال في حينه، وارتأينا تصحيح ذلك، لذا اقتضى التنويه.