أحمد مرعان
ما زلت أتذكر صندوق أمي القرمزي المزركش من الواجهة بألوان فاقعة على شكل دوائر متناسقة، رتبت بريشة دهان يدوي، وغرفة تجمع العائلة جميعا، فهي للنوم والاستقبال معا، وربما كمطبخ بعض الأحيان، وبساطة العيش دون مرتبات شهرية وبرامج توعوية تنقلك إلى عوالم التحضر التي لم تخطر على البال..
رغم ضنك العيش، كانت العادات والتقاليد تخيم بتراتيلها العفوية، وتخلق أجواء متشابهة، تبعث بالنفس إلى الرضا والقبول، حيث الجميع متشابه بالحال والمال، كانت الأعراس تضرب أطنابها بالمزامير والطبول لمدة سبعة أيام متتالية ليلا ونهارا .
أما طقوس العزاء فهي أكثر كلفة وتكلفا ومعاناة ليس على أهل الميت فحسب ، بل على المعزين والأهل والجيران ، بتقديم الواجب من وجبتي الغداء والعشاء طيلة سبعة أيام متواصلة رسميا،ناهيك عن حالة قدوم أحد المعزين من مكان بعيد، فتحضّر له وليمة خاصة بذبيحة جديدة غير التي قدمت طعاما للمعزين قبله ، تقديرا له مع رأس الذبيحة الدالة على كرم الاستقبال والضيافة والواجب.
إنها طقوس فُرضت بحكم البيئة المحيطة، وليس من متجرىء أن يخطوها خوفا من النعت بصفات غير حميدة، رغم فقر الحال العام .
فلماذا اليوم نسمع عنها وكأنها من عادات الجاهلية، و قد عاصرها أغلبنا .
لا أقول تطورت الحياة وألقت بظلالها على ممارسات كانت مطبوعة في الذاكرة ، وليس من يجرؤ على التحيد عنها، بل أستطيع القول بأن مستلزمات الحياة تبدلت بحكم الانفتاح الفكري والتقني، وأصبحت الحاجة ملحة بأن نعيد الحسابات لما آلت إليه الأحوال العامة، نتيجة الاختلاط بالمجتمعات التي تتفاوت فيها المفاهيم. كل منهم بحسب إمكاناته، وبالتالي الاختزال إلى رؤى متقاربة نوعا ما ، لانتقاء الأجدى والأنفع والأنسب، لتستقر بنا الفكرة على التوافق حيال ما نحن عليه من تشرذم بالمقاييس .
قد نتفق أو نختلف، لا يهم ، لكن على العقلاء رسم خارطة طريق كروكية ، وتحديد المسارات المختصرة والمفيدة، والتوافق دوما عامل خير ، للسير بخطى مأمونة ، تحفظ للجميع ما يظنه البعض هدرا للكرامة والكبرياء .
وما المباردة الأخيرة من قبل منظمات المجتمع المدني وشخصيات أدبية وثقافية وسياسية واجتماعية في مدينة دورتموند الألمانية، للبحث في إحدى القضايا المهمة للمغتربين في الشتات، وما يهدر من زمن ومال والتزام تقليدي بالعزاوات التي بدأت تفقد ماهيتها وخصوصيتها، وخاصة في ظل الظروف الراهنة في الوطن ، وما يترتب على أهل المتوفى من تكاليف باهظة ومعاناة وربما تقصير، إلا خطوة جريئة لايقبلها اثنان
شخص لايستطيع الخروج من النمطي، ومغرض مفلس يبحث عن أخطاء الآخرين.
ملخص ماتم الاتفاق عليه : تحديد ساعات العزاء بعد الساعة الثانية ظهرا ، استثناء من يبعد أكثر من ١٠٠ كم عن مقر العزاء من حضور مجلس العزاء، والاكتفاء بالتواصل هاتفيا، وعدم تقديم وجبة الغداء .
فنحن أمام حالة عامة تخص الجميع، بوضع النقاط على الحروف، والقفز على السلبيات وإعادة تدويرها نحو الاستفادة منها وفق معطيات المرحلة والمنطق .
١ _ فما معنى أن تقيم مجلس عزاء بعد مرور أسبوع أو أكثر على الوفاة ، علما بأن الحالة تستدعي الالتفاف على ذوي المتوفى في بداية الصدمة وتلقي الخبر لتخفيف المأساة والمصيبة الواقعة على نفوس أهله والفاجعة التي ألمت بهم، فمرارة الغربة تزيد من مرارة الموت وتجعلها أكثر علقمية، فالأجدى أن يبادر الأهالي والأصدقاء، بتخيف عبء الصدمة في اللحظات الأولى والوقوف بجانب ذوي الراحل ، ريثما يستعيدون تقبلهم للواقعة، ليتفاعلوا مع الحدث بقناعة وإيمان بأن الموت حتمي، ولا يستثنى منه أحد.
٢ _ البحث عن صالة مناسبة تستحوذ على فكره بما يريح المعزين ، الحيرة في تقديم وجبة الغداء ، ويفضل أن تكون ذات خصوصية لم يبادر إليها أحد قبله ، ليظهر مدى إجلاله للمتوفى ، وربما لم يكن عونا له فيما مضى، عندما كان على قيد الحياة، ويعاني المرض والفقر والعوز .
وما يحز في النفس بأن البعض يقوم بتصوير فيدوهات ونشرها على صفحات الفيسبوك لحظة تقديم الوجبات، دون تقدير لوضع الفقراء في الوطن ، ناهيك بأن أغلب الطعام يرمى في مكب النفايات، بعد أن يتم حث أو إلزام المعزين على تناولها ، كصدقة عن روح الميت .
أعلم جيدا بأن الميت ليس بحاجة لصدقتك في جوف من ليس بحاجتها، إنما هي للفقراء والمساكين الذين يتضورون جوعا في الوطن ، ويحتارون في سبل تأمين لقمة الخبز .
إذا نحن أمام حالة تستدعي التعقل والتفكر بأن نكون عونا لأهلنا وفقرائنا ، بأن نداوي مرضانا ونتفقد الأيتام والأرامل ونداوي جراحهم التي لم تندمل .
لما لا نعيد الذاكرة بمحنة الكورونا التي منعت فيها التجمعات ، كيف انقضت، وصادفت أغلبنا حالات عزاء مستوجبة في حينها .
علينا أن نعيد النظر في أشياء شتى ..
وما الأعراس إلا حالة مشابهة على النقيض، الذي أصبح المراهقون أسيادها، والمطربون شعراءها من خلال شاباشاتهم ، والطباخين مهرتها ، ومظاهر الترف والزينة عنوانها ، وأصحاب الصالات تجارها .
نحن أمام ظواهر تفوق إمكاناتنا ..
نستجدي العقلاء ورواد الفكر والوعي والتأثير على دراسة حالتنا، ووضع الحلول الأنسب التي ترضي قناعاتنا ..
أجزم وأنا على يقين ، بأن الكل مقتنع تماما ، ويعاني وقد عاش الحالة ، ولكنه يخاف من المبادرة لئلا يكون ضحية للنقد ، لمن لا شغل لهم سوى طعن الآخرين ليقدموا أنفسهم نتيجة علل خاصة، والسؤال هو:
من يضع الجرس في رقبة القط !!
هنا تكمن الرجولة، هنا يكمن اليقين ، هنا كبُرَ مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون !!
وتبقى المبادرة مباركة ومحط تقدير ..
فلننتظر تطبيقها.. ثم نعاتب المخالفين ../ ..