شناعة المُندَلق

 

ماجد ع  محمد

 

قيلَ لماكِثٍ تحت أنظار العَسَس لماذا تومئ ولا تجاهر؟ قال: وهل من الشجاعة أن أسلِّم رقبتي للجلاد كرمى بضعة كلماتٍ إحتجاجية لا تصنع أيَّ فارق لا في حياتي كفرد ولا في حياة أيّ فرد من أبناء المجتمع الذي يعنيني أمر خلاصه، ثم لماذا أصرخ طالما كان الهمسُ يفي بالغرض، باعتبار أن الكثير ممن أتوجه بكلامي إليهم يعرفون الحَبر المشار إليه، والقليل منهم مَن يقدر على التصريح باسمه، خاصةً إن كان القائل في متناول أدوات الزعيم المبجل، ولكن في الوقت نفسه لا مانع للذين ليس بمقدور صاحب العَسَس إلحاق الأذى بهم العمل ليل نهار على فضح جرائم أذرعه بكل الوسائل الإعلامية والفنية المتاحة، ليس لأن أنشطتهم ستوقف ممارسات أدواته على الأرض، إنما عسى ولعل  تلك المنتجات المخالفة لممارسات وأقوال وادّعات صاحب السلطة تؤثر على ذهنية الحشد الذي منذ سنواتٍ يقف وقفة القطيع المطيع معه، مأخوذاً بخطاباته المفتقرة للصدق وهو يتجمهر في كل مناسبةٍ تحشيدية أمامه، ومذهولاً ما يزالُ بتصريحاته المناهضة لسلطان العقل الخيّر.

 

صحيح أن السلطة التي تستخدم قفازاتها الملوثة، ومجمل أدواتها لتركيع الناس في بقعة جغرافية معينة، هي لا تقول جهارةً بأنها مع إرتكاب الاِنتهاكات على نطاقٍ واسع من أجل إذلال الأهالي، ولا تشجِّع في العلن الأفعال القذرة لتلك القفازات، ولا تظهر لأحد بأنها فرِحة بما يجري بحق البشر والشجر والحجر، ولكن طالما أنها عبر أجهزتها الأمنية ترى كل شيء، ويصلها التقارير الدورية عن كل ما تقوم به الأدوات ولا تحرك أيَّ ساكن لكبح جماح الأوباش، بل وفوقها تغضب من المنظمات التي توثق تلك الاِنتهاكات في السر وبنفس الوقت لا تسمح للمنظمات الحقوقية بالدخول إلى تلك البقعة الجغرافية للوقوف على ما يجري فيها من اِنتهاكات، فهو ما يشير بكل وضوحٍ إلى أنها راضية ضمنياً ليس فقط عن تخريب البيئة من خلال اقتلاع الأشجار أو حرقها وتدمير الطبيعة وجرف مواقع الآثار فيها، إنما لعلها راضية حتى عن عمليات التصفية الجسدية والقتل العمد لأي مواطنٍ يُعادي مشروعها أو أي نفرٍ يقف بالضد من أهدافها القريبة والبعيدة، ولكن بشرط أن لا يترك المنتهكون والقتلة أيّة أدلة خلفهم تدل عليهم.
وبديهي أن السلطة التي تمنع دخول وسائل الإعلام إلى منطقة جغرافية ما، أو تلك الواقعة عملياً تحت نفوذها بدعوى أنها لا تقدر على حماية الصحفيين الداخلين إلى تلك المنطقة، هي تتعمد إبعاد الصحفيين عن تلك المنطقة حتى لا يعرف أحد ما يحدث فيها من اِنتهاكات الجهات الأمنية والعسكرية فيها، باعتبار أن مآربها لم تتحقق بالصورة المطلوبة بعد، لأنها إن حققت كل غاياتها في تلك البقعة فلن تمنع حينها من دعوة الإعلام العالمي برمته للدخول إليها، لأنه وقتها تكون تلك الجهة المتسلطة قد قضت على كل نفسٍ معارِض لمآربها في تلك البقعة.
أما أشنعُ مُندَلق فهو الذي يخرج بلا استحياءٍ من فاه أعيان سلطاتٍ تنتقد بأقسى العبارات جرائم تمارسها سلطة أخرى بحق سكان منطقة ما، وفي الوقت ذاته تكون ممارساتها هي نفسها في مكانٍ آخر لا تقل فظاعةً عن ممارسات تلك السلطة التي بكل فجاجة تنتقدها، وحيث يناسب مقام ساستها حينئذٍ قول الشاعر المصري فاروق جويدة “أسوأ الأشياء يا سيدي أن نتحدث عن أخلاق لا نمارسها، وفضائل لا نعرفها، وأنتم تكلمتم كثيراً عن الأخلاق ولم يكن الأمر أكثر من مسرحية هزلية رخيصة أضاعت أجيالاً وأفسدت وطناً”.
ولا يغيب عن بال أي شخص متوازن الإدراك بأن الأجهزة الأمنية في أيّ بلدٍ كان عندما تتحول من غرض حماية مؤسسات الدولة وكجهة مهمتها بالدرجة الأولى المحافظة على سلامة المجتمع إلى قطيعٍ من كلاب الدولة التي تنهش بجسد الرعية دفاعاً عن السلطة فحسب، لا تغدو أجهزة أمنية مهمتها حفظ الأمن وتوفير الأمان، إنما تصبح أذرع مدمرة مهمتها تمزيق جسد المجتمع وجعله أشلاء مبعثرة كرمى الحفاظ على الهيكل العظمي للدولة.
وكم يثير القرف المتلاحق ذلك الحديث الاعتراضي لشخصٍ يضع اليوم حافره على حافر من انتقده مراراً في الأمس، وكم يثير الاشمئزاز انتقاد السياسي لجهة ما بناءً على أصغر ممارسات تلك الجهة، بينما نفس السياسي يصمت صمت المقابر حيال جهات تدوس على كرامة أهله وتغتصب نساء ملته وتقترف بحق بني قومه أنجس الممارسات.
وفي نهاية هذه الوقفة الخاطفة، ليس من باب اليأس ولا من باب القبول بأمر الواقع، إنما من باب التعبير عن مناهضة هذا الواقع القميء نقول: إذا كانت بعض الدول الغربية صاحبة الديمقراطيات العريقة والتي انبثقت فيها الدعوة للحرية والعدل والمساواة وصكّت فيها قوانين حقوق الإنسان والاِنعتاق من نير العبودية ما تزال من أجل استمرار مصالحها، ومن أجل تعاظم شأنها الاقتصادي، ومن أجل ضمان الرفاهية لمواطنيها تتعاون بشكل مباشر ومتواصل مع أنظمة دكتاتورية طغانية في الشرق الأوسط وأفريقيا، فلا غرابة قط في اعتماد الدول الاقليمية القائمة على السطوة الأمنية والعسكرة على أقذر الجماعات البشرية من الأجهزة الأمنية أو العسكرية لتحقيق مآربها سواء داخل حدودها أو خارج أسوراها في بقعةٍ جغرافيةٍ ما.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد ابراهيم منذ أربعة عشر عامًا، كان الأطفال السوريون يعيشون في مدارسهم، في بيوتهم، في أحلامهم. كان الحلم بالغد أقرب إليهم من أي شيء آخر. وكانوا يطمحون لمستقبل قد يحمل لهم الأمل في بناء وطنهم، سوريا، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من عزةٍ وكرامة. كان العلم هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يغير مجرى الحياة. لكن بعد ذلك، غيّرت الحرب…

اكرم حسين لطالما كان الكرد في قلب الجغرافيا الشرق أوسطية أحد أكثر الشعوب تعرضاً للتهميش والاضطهاد القومي، بالرغم من كونهم يشكلون ثاني أكبر قومية في المنطقة بعد العرب، ويملكون تاريخاً عريقاً وثقافة غنية ومطالب سياسية مشروعة في الاعتراف بهويتهم القومية وحقوقهم في الحكم الذاتي أو المشاركة العادلة في السلطة. في تركيا وإيران وسوريا والعراق، تكررت السياسات ذاتها: إنكار…

دلدار بدرخان لم يعد اليوم بالأمر الصعب أن تكشف افتراءات وأضاليل الجهات التي تحاول تزوير التاريخ وتشويه الحقائق كما كان في السابق، فما هي إلا كبسة زر لتحصل على كامل المعلومات حول أي موضوع أو مادة ترغب بمعرفته، ولم يعد الأمر يحتاج إلى مراجع وكتب ضخمة غالبيتها مشبوهة ومغلوطة، بل يكفي الاتصال بالإنترنت، ووجود هاتف بسيط في متناول اليد، وبرنامج…

بوتان زيباري في قلب النقاشات، كانت الأصوات تتعالى لتؤكد أن هذه الأرض، التي يسميها البعض “كوردستان سوريا” أو “غرب كردستان”، ليست ملكًا حصريًا لقومية واحدة، وإن كان للكورد فيها حق الدم والعرق والتاريخ. بل يجب أن يُبنى الإقليم المرتجى بروحٍ تعترف بجميع مكوناته من عرب وآشوريين وسريان وغيرهم، كي لا يقع البناء الجديد فريسة لمرض القوميات الذي مزق سوريا…