ماجد ع محمد
كجنيٍّ ينوي التخلص على وجه السرعة من فحوى ما كان يُقلق راحة بالِهِ ظهرَ المُرسل السديمي فجأةً وقبل التلاشي في الفضاء بسبب نفوره من نبرة السياسيين ترك مكتوباً جاء فيه: إن إخطارات بعض سياسيي دول الشرق الأوسط المتناقضة والمناهضة في الكثير من الأحيان لِما يتم العمل به على أرض الواقع، تذكرنا بالصورة الغرائبية لمن يقول: إنه يُنقذ بعض الكائنات البحرية من الغرق في حين أنه يقطع الأوكسجين عنها؛ حيث قيل يوماً لرجلٍ شاهدوه وهو يلتقط السلمون من المياه ويرميها على الرمل بعيداً عنه، لماذا ترمي السلمونات بعيداً؟ ومقصد المتسائل هو لماذا لا تضعها في جِرابك أو في وعاءٍ خاصٍ بالصيد طالما أنك تصطادهم، إلاّ أن جوابه الغريب كان بأنه لا يصطادهم إنما يُنقذهم من الغرق، وحيث كان ذلك الشخص يعتقد بأنه يقوم بإنقاذ الأسماك من خلال إخراجها من المياه، ولا يتصور قط بأنه يعمل على إعدامها بكون السمك يحيا في الماء ويموت على اليابسة.
وبخصوص قضية السوريين التي أقلقت راحة الدول القريبة والبعيدة، فمن جهة تسارعت تصريحات مسؤولي الدولة التركية حول إمكانية عودة العلاقات بين تركيا والنظام السوري خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات التركية الأخيرة، بينما من جهة أخرى تعمل الدولة التركية مع بعض الشركاء الخليجيين على إقامة التجمعات السكنية الدائمة لمعارضي النظام السوري، وبهذا الخصوص كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد دعا العالم إلى دعم مشروع التجمعات السكنية الذي ستنفذه بلاده في سورية، وذلك في كلمةٍ له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في 20/9/2022 حيث شدّد الرئيس التركي في كلمته وقتذاك على ضرورة دعم خطته من قبل المجتمع الدولي من أجل تنفيذ هذا المشروع الذي سيتم إنشاؤه في 13 موقعاً مختلفاً في المناطق الآمنة شمالي سورية، على غرار المشاريع التي تم تنفيذها بالفعل.
ومن كل بد أن الشعب السوري معني بأية تغييرات تحصل في تركيا سلباً أو إيجاباً، باعتبار أن ملف الشمال السوري برمته بيد الدولة التركية، خصوصاً وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أشار في كلمته التي ألقاها خلال مراسم تنصيبه رئيساً للبلاد في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، إلى أنهم “مصممون على وضع مبدأ غازي مصطفى كمال “سلام في الوطن، سلام في العالم” موضع التنفيذ بمعناه الحقيقي”.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو يا ترى هل السلام الذي تلمح إليه الحكومة التركية الجديدة يتضمن التصالح الفعلي لاحقاً مع النظام السوري؟ أم أنها ستكون جادة في نصرة المظلومين بما أن أردوغان نوه في كلمته إلى أن تركيا “ستحمي المظلومين والمضطهدين” أي أنها ستسعى لإيجاد حل دائم في سورية بما يتماشى مع التطلعات المشروعة للشعب السوري وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254، وحيث يُطالب القرار جميع الأطراف بالتوقف فوراً عن شن أي هجمات ضد أهداف مدنية، ويحث القرار جميع الدول الأعضاء إلى دعم الجهود المبذولة لتحقيق وقف إطلاق النار ويطلب من الأمم المتحدة أن تجمع بين الطرفين للدخول في مفاوضات رسمية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، في غضون 18 شهراً، ليتم التحول السياسي بعدها بقيادة سورية؛ بناءً عليه أليس على تركيا إذاً الدفع باتجاه تطبيق القرار الأممي بأسرع وقت ممكن منها لإرجاع الحق لأصحابه في سورية والسعي لعدم حرمانهم من ذلك الحق، وثانياً للتخلص من مشكلة اللاجئين في البلد بعد أن غدوا ورقة ضغط بيد المعارضة التركية التي استخدمتهم ليل نهار قبيل الانتخابات الأخيرة، طالما أن تطبيق القرار الأممي سيعمل على تهيئة المناخ لعودة كل من يود العودة ومن ثم إعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها، أي أن يعود كل سوري إلى بيته وأرضه ومنطقته، ويستعيد المواطن السوري ممتلكاته المستولى عليها من قبل الميليشيات في عموم البلد، وتتخلص الحكومة التركية بنفس الوقت من ورقة اللاجئين للأبد؛ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا السعي التركي الحثيث إذاً لإسكان النازحين من ديارهم والعمل الدؤوب من قِبلها على توطينهم في الشمال السوري بعيداً عن بيوتهم وممتلكاتهم؟ أليس إبقاء الناس في الشمال السوري واستقرارهم هناك معناه أولاً حرمانهم من حقوقهم للأبد، وثانياً ألا يعني إبقاءهم في ذلك الشريط بعيداً عن ديارهم وعن مناطق نفوذ النظام يوحي بأن هذه العملية تأتي لتخفيف الضغط الحقيقي على نظام دمشق؟ طالما أن هذه الكتلة البشرية هي التي أقلقت وتقلق راحة النظام، وإن عادت تلك الكتلة لمناطقها ستكون بمثابة النواة الحقيقية في تغيير بنية النظام السياسي في سورية ككل، بينما إبقاء تلك الكتلة البشرية كاملة في الشريط الحدودي هو بالدرجة الأولى لمصلحة مَن هجرهم مِن ديارهم وليست لمصلحة المهجرين!
على كل حال رغم التصريحات التركية الكثيفة قبيل الانتخابات حيال رغبتها في إعادة العلاقات مع النظام وإعادة المياه لمجاريها، ثمة من يرى بأنها كانت مجرد رسائل وخطابات وقتية، والغاية منها جس نبض النظام والدول المعنية بالملف السوري من ناحية، وقطع الطريق على المعارضة التركية في التواصل مع النظام من ناحية أخرى، إضافةً إلى نسف الجسر المحتمل تشييده بين النظام وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بالرعاية الروسية، وليس فيها شيء عملي إلى تاريخ اليوم، باعتبار أنه سبق وأن صرح كبار مسؤولي الدولة في تركيا منذ بداية الاحتجاجات الشعبية في سورية بأن حماة وحمص خطان أحمران، ووصفوا بشارالأسد بعدها بالمجرم والقاتل وقالوا بأنهم سيؤدون الصلاة في الجامع الأموي بدمشق أي أنهم سيُسقطون نظام دمشق، ولكن عملياً لم تُترجم واقعياً أيّة فقرة من تلك التصريحات، ومع الزمن اختفت تلك النبرة التهديدية مع اِنتفاء الحاجة إليها، بل وفي الآونة الأخيرة غيّروا من نبرة ذلك الخطاب مئة وثمانون درجة، وحيث أنهم بدل السعي لمحاكمة بشار الأسد في المحاكم الدولية كما كانوا يرددون، صاروا يلوّحون برغبة اللقاء به في المحافل الدولية ذاتها!
عموماً في ما يتعلق بهذا التحول الكبير في خطاب مسؤولي الدولة التركية يتصور بعض المحللين السياسيين ورهطاً من الحقوقيين بأن الزعيم السياسي الذي سبق وأن هدّد رأس النظام السوري في أكثر من مناسبة شعبية هو حقيقةً لم يفعل شيء جوهري من أجل الإطاحة به أو بنظامه، إلاّ أنه في الجانب الآخر استفاد من اللاجئين السوريين في استجرار الدعم المالي من الغرب والضغط على أوروبا، واستخدام الأطراف العسكرية السورية لتحقيق المآرب الخاصة بدولته، ولم يعمل أصلاً من أجل تحرير الشعب السوري من جلاوزة الأجهزة الأمنية للنظام، ولا جاهد يوماً لإسقاط النظام، ولكن المعارضون السوريون هم من أسرفوا في أحلامهم بناءً على التصريحات السابقة للمسؤولين الأتراك، وحلّقوا عالياً بمناطيدهم التخيلية مع تلك الخطابات التصاعدية آنذاك، إلى أن جاء وقت نفاد غاز ذلك المنطاد السياسي، ليعود إلى ما كان عليه قبل الإنطلاق ويهبط رويداً رويدا في رحاب المصلحة العليا للدولة.