د. محمود عباس
روسيا (فلاديمير بوتين) هي أكثر المستفيدين من مجريات الصراع الجاري بين إسرائيل والحركات الفلسطينية في قطاع غزة، اليد الخفية التي أثارتها وفي هذه المرحلة، من خلال دفع حليفتها إيران لتحريض أدواتها المطيعة في المنطقة والتي تتلقى الدعم بسوية لا تقل من الدعم الأمريكي لأوكرانيا وإسرائيل، مع وضع القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لدى أمريكا وإيران في ميزان المعادلة.
احتاجت روسيا، وخاصة قواتها العسكرية، إلى طرق يمكنها من تقليل الدعم الأمريكي والناتو للحكومة الأوكرانية وقواتها العسكرية، فكانت خطط فتح جبهات خارجية أمامهم، من أفضل الإستراتيجيات لتضخيم الهدر العسكري والمادي لهم والتي قد تؤدي إلى زعزعة سياسية داخلية وخارجية، وبالتالي تقلل من مساعداتهم لأوكرانيا.
بدأ بوتين ومستشاريه بالعمل على هذه الإستراتيجية، بعدما بدأ يتلكأ في مسيرة الحرب، وأصبحت موازين الربح والخسارة ترجح بعضها لصالح أوكرانيا.
ولديمومة وتوسيع جبهة الصراع لأطول فترة ممكنة، تقوم روسيا بدفع حليفتها إيران؛ على إقحام حزب الله في الحرب، تحت حجة الدعم الإسلامي لقطاع غزة.
لا شك هذه ليست المحاولة الأولى التي عملت عليها روسيا، أو بالأحرى بوتين، لإيجاد جبهات خارجية يلهي بها أمريكا، في منطقة الشرق الأوسط، وحيث البيئة القومية والدينية والمذهبية والسياسية الأكثر سخونة من جميع مناطق العالم، والسهلة لإثارة الصراعات، وهي من أهم مناطق التواجد الأمريكي، وحيث تتركز فيها مصالحها.
فروسيا، التي تلازم الصمت، هي ذاتها التي دفعت بإيران، قبل شهور، على تحريض شرائح من العشائر العربية في منطقة دير الزور، جنوب مناطق الإدارة الذاتية حليفة أمريكا في محاربة منظمة داعش في المنطقة، وكانت الغاية هي ذاتها، إلهاء أمريكا وليس ضرب قوات قسد، لكن تبينت لها فيما بعد، إنها جبهة ضيقة وليست على مستوى جلب الرأي العام العالمي، وإلهاء الناتو وأمريكا، كما وأن الصراع حرف عن مساره، بعدما دخلت تركيا (رجب طيب أردوغان) على الخط، ووجهت العملية لمصالحها، فحولتها من محاربة أمريكا إلى محاربة قوات قسد والإدارة الذاتية، بعكس ما كانت تطمح إليه روسيا.
بعدما فشلت روسيا في دير الزور بحثت عن البديل، فكانت فكرة إثارة الجبهة الأكثر سخونة في المنطقة، الصراع بين إسرائيل والحراك الفلسطيني، خاصة وإن إيران كانت قد كدست مخازن الحركتين بكميات هائلة من الصواريخ وغيرها من الأسلحة، إلى جانب وعدها لشعب القطاع بدعم مادي من المليارات الست التي أزالت أمريكا عنها الحجز وأرسلتها إلى دولة قطر كطرف ثالث، والتي أعادت أمريكا النظر فيها ثانية قبل يومين، وطلبت من دولة قطر تجميد الحوالات.
نجحت روسيا حتى الأن، في إثارة هذه الجبهة، وتصعيد الصراع، وتمكنت من تغيير كاميرات الإعلام العالمي بشكل هائل عن الجبهة الأوكرانية، وتركيزها على مجريات الأحداث ما بين إسرائيل وقطاع غزة، وربما لاحقا جنوب لبنان، إلى درجة أن إسرائيل دمرت مطاري دمشق وحلب ولم تعيرهما الإعلام أهمية يذكر، ففي الداخل الأمريكي والأوروبي، بل وأغلبية العالم، أصبحت الحرب الأوكرانية شبه منسية، ليس فقط في الشارع، بل في البيت الأبيض، وفي قاعات الكونغرس، والوزارات، وخاصة الدفاع والخارجية، من الإعلام إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
نجاح روسيا في هذه الإستراتيجية واضحة، فطوال مدة الحرب الأوكرانية، ورغم كل المساعدات الأمريكية ودول الناتو، لم ترسل حاملة الطائرات وأسطول كامل إلى السواحل القريبة منها، ورغم الدعم الهائل ماديا وعسكريا وسياسيا ودبلوماسيا لها، لم تفتح لها أبواب المساعدات على مصراعيه، وبدون شروط، كما تفعله اليوم مع إسرائيل، وبدون أي اعتراض من كلية الكونغرس الأمريكي، مع دعم منقطع النظير من الإعلام بجميع أطرافه وتوجهاته، في الوقت الذي لاقت فيه المساعدات المادية الأخيرة لأوكرانيا معارضة من الجمهوريين، وهو ما أدى إلى عزل رئيس الأكثرية من الحزب الجمهوري خلال يومين فقط، وتنصيب بديل عنه، الحدث الذي لم يحصل مثله في تاريخ الكونغرس الأمريكي.
وعلى خلفية هذا الدعم اللامحدود من أمريكا وأوروبا لإسرائيل، والتي بينت على أن أمنها من أولويات هذه الدول، وتكاد تكون الولاية الواحدة والخمسين لأمريكا من جهة. ومن جهة أخرى علينا أن ندرك إن ما فعلته روسيا لم يكن كرها، أو عداوة بإسرائيل، أو حبا بحماس، أو الفلسطينيين، بل مصالحها تطلبت التضحية بالشعبين، ولذلك يتوجب على الأنظمة العربية والإسلامية العمل، بأساليب عقلانية، بعيدة عن الكراهية الدينية، وبيع الوطنيات لشعوب المنطقة، لإيجاد حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بطرق إنسانية؛ سلمية، والكف عن التضحية بالشعبين اليهودي والفلسطيني، المعاني.
أثيرت هذه المسرحية السياسية العسكرية، والتي خلفت وستخلف جبل من الجرائم، مثل جرائم تركيا في غربي كوردستان، من عفرين إلى ديركا حمكو، ومثلما حدث للشعب الأوكراني، لتحقيق مآرب قادة معلولين بمرض حب العظمة، حولهم شريحة فاسدة منافقة، لا يقيمون أي اعتبار للقيم الإنسانية، ولا تهمهم الضحايا من المدنيين إن كانوا من اليهود أو الفلسطينيين من أبناء القطاع، المتكدسين فوق رؤوس بعضهم، وحيث الكثافة السكانية الكارثية، والكل يعلم أن أغلبية الناس وخاصة الشباب الذين كرس في أذهانهم ثقافة التطوع أو أداء الواجب الوطني أو الديني، يجب أن يكون من خلال الانتماء إلى حركة حماس أو الجهاد الإسلامي، دون أي اعتبار لمصير العائلات، الأطفال والنساء، من الشعبين، الذين لا حول لهم ولا قوة، يتلقون الكوارث، و الآلام، على قضية يمكن حلها سلمياً لو تم تشذيب ثقافة الكراهية في المنطقة، والحد من البنية العنصرية للأنظمة، المستفيدة من ديمومة الصراع الديني المتفاقم مع القرون، رغم التطور الحضاري، وفوائد التعامل الإنساني.
ويظل السؤال:
هل الولايات المتحدة الأمريكية غير مدركة للإستراتيجية الروسية هذه؟
لكنها تنفي إعلاميا ضلوع إيران في العملية، مع التأكيد على إنها تقدم المساعدات اللوجستية لحماس، وتعني بذلك وبشكل غير مباشر عزل روسيا عن مجريات الأحداث، تجنبا للمواجهة المباشرة مع إيران ومن خلالها مع روسيا.
هل ستؤثر على الإستراتيجية الأمريكية وتقلل من دعمها لأوكرانيا؟
الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرة لفتح عدة جبهات، كما فعلتها في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تحارب على ثلاث جبهات ضد اليابان وألمانيا وإيطاليا، مستندة على الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية والبشرية الهائلة، والتي تكاد لا تنضب، وروسيا تدرك هذه الحقيقة، مع ذلك بوتين يعيد خطأ اليابان وهتلر، خاصة وإن إيران تتحرك وكأنها لم تعد لديها ما تخسره. وهو يعلم أنه بإمكانه حل القضية الأوكرانية بشراكة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بأساليب تفيد الشعبين الروسي والأوكراني، ومثلها تستطيع تسهيل مسيرة الحل لمعظم مشاكل شعوب الشرق الأوسط، كالقضية، السورية، والشعب الكوردي والفلسطيني؟ لكن العلة النفسية تتفشى بسرعة غريبة لكل من أستمر البقاء في السلطة لأكثر من دورتين انتخابيتين، أنه الطغيان، والطغيان يقتل الإنسانية ويحد من التطور والحضارة.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
13/10/2023م