عنايت ديكو
اعتقد بأن الصورة في منطقة عفرين – كورداغ باتت شبه واضحة، أو بمعنى آخر، الصورة باتت مبانة للفهم وللاستقراء ، خاصة بعد مرور يومين على مجزرة جنديرس والتي راح ضحيتها خمسة شهداء كورد من خيرة شبابنا ومن أطفالنا.
فالكوردٌ مصممون على انتزاع ابسط حقوقهم في الوجود ولو بحدودها الدنيا، وعلى الطرف الأخر حيث العصابات الارهابية العنصرية تنهش الجسد الكوردي وتتربص بالوجود الكوردي من كل الأطراف.
فالسؤال هنا: من هي الأطراف التي تنتظر وتراقب الوضع وترسم ملامح الفترة القادمة، وخاصة أن الغليان الكوردي ما زال متدحرجاً كمّاً ونوعاً .
فالكثير من الأطراف والحركات المحيطة بنا كانت تراهن على حالة الوهن والضعف الكوردي واستمالة الحركة السياسية الكوردية الى داخل الحلقة الأضعف في المعادلة السورية سواء أكانت مع النظام أو تلك التي استراحت في حضن المعارضة السورية التابعة لتركيا، والتي سلّمت كافة أوراقها ومفاتيحها السياسية والوطنية لدولة تركيا دون رجعة.
لنرجع الى عفرين، فالممارسات التي مورست خلال السنوات الخمس الماضية بحق الكورد في عفرين، فلو مورست على أية بقعة جغرافية أخرى في سوريا، لتحولت الى ساحة جرداء والى صحراء وميادين خالية من الشجر والبشر. فكان القتل والاختطاف والاعتقال والذل والرعب والاهانات والسجن والآتاوات والسرقات كانت عنوان المرحلة الماضية وسيد الموقف والممارسات في عفرين. لكن وبمجرد حدوث الزلازل في كل من تركيا وسوريا، وردود الأفعال والارتدادات السياسية والمجتمعية التي تلتها، والاختراق السياسي الذي حصل على أطراف المعادلة، والذي جاءت به مؤسسة “خيرخوازيا بارزاني” وما رافق ذلك من استعادة للروح والاوكسجين في عفرين. أتاح للانسان الكورداغي فرصة النهوض ومسك زمام المبادرة، والتفاعل مع المستجدات المجتمعية والشعبية من بابها الكوردي العريض، والاستفادة من حالة الكمون والشجون التي كانت قد تخمّرت طيلة سنوات العجاف الماضية، والتي تحولت خلال أسابيعٍ قليلة من مجيء ” XÊRXAZIYA BARZANΔ الى ثقافة وممارسات سياسية وفكرية على الأرض في عفرين، وتحوّلت مؤسسة البارزاني الخيرية الى قبلة للمحبة والاستعطاف والانسانية والمساعدة المفتوحة والسخية في جانبها العملي قبل النظري، وخاصة عندما فتحت فرناً لتوزيع الخبز على كافة شرائح المجتمع في المتطقة.
فهذا ما أثار حفيظة الأتراك وجماعة الأخوان المسلمين معاً وخاصة الراديكاليين منهم، من القاعدة والداعش وشبيهاتها، ولم ترق لهم هذه الحالة الكوردية في عفرين .
– فالممارسات والمساعدات الانسانية التي كانت تقدمها “مؤسسة البارزاني الخيرية” في كورداغ عموماً، أحدثت حالة من الانهيار والرعب في منظومة التفكير العرواسلاموي لدى الفصائل ومشغّليهم من النظامين التركي والسوري.
وفي المقابل، ما أن خرج المارد الكوردي من القمقم، حتى تشكلت عنده حالة ورؤية متكاملة في الطرح والشخصية والحضور والمفاعيل على الأرض، وخاصة في بنية الشعارات والعمق الكوردستاني والبيشمرگة والحماية الدولية وغيرها، لقد زلزلت الأرض من تحت أقدام العصابات والمجاميع الارهابية العرواسلاموية ، فلم يكن لا بالبال ولا بالخاطر ، لا عند العصابات وتركيا … ولا عند الأحزاب الكوردية الصامتة، بأن الشارع الكوردي في عفرين سينتفض يوماً بهذه القوة والجرأة وستكون المرأة الكورداغية رأس الحربة في النضال السلمي وستقود حركة الغضب في وجه قوتهم الأمنية والعسكرية. لقد بدأت حالة استثنائية وبإمتياز من الشارع العفريني.
أجل … فصحيحٌ هي فترة قصيرة، يومان صاخبان مضرجان بالدم والعنفوان ، لكنها كانت فترة كافية لقلب الكثير من المفاهيم والممارسات والسياسات العنصرية، وعليها انتقلت كورداغ من حالة المخاض العسير المرافقة بالدم والألم والصياح والصراخ الحاشد بالعوامل النفسية والمجتمعية الى حالة الاستقراء و الاستشفاف وفهم المخرجات والنتائج.
كما قلنا، بأن تلك المجاميع والعصابات الارهابية شاهدت بأم أعينها بأن الغليان أت، وأن الشارع الكوردي بات يبحث عن طرق للخروج من هذه الحالة المزرية وعن سندٍ وحماية فعلية له، ولم يعد بالامكان ارجاع هذا المارد الكوردي الى القمقم ثانية، وتيقنت تلك الأطراف المراقبة والتي أستطيع إختزالها بأنها خليطٌ من ((الاستخبارات التركية السورية والمجاميع الارهابية الاخوانية الى جانب غزلٍ واضح من قبل جماعة الابوجية)) فكل هذه الأطراف تريد بقاء الوضع هكذا في عفرين، لأن كل هذه الأطراف تستفيد من هذا الوضع ، وهناك هدفٌ مشترك وكبير بين كل تلك الأطراف، وهو ابعاد حكومة اقليم كوردستان وبيشمركتها عن هذه المنطقة والقيام بكل المحاولات لابعاد مسعود البارزاني عن هذه النقطة الجيوسياسية، فالكل موافق على ادارة المنطقة من قبل الارهاب العالمي، الدواعش والقاعدة ، شرط أن لا تأتي قوات البيشمركة الى كورداغ .
لكن الشارع الكوردي من طرفه في عفرين، اراد السيطرة على مفاصل العمل النضالي وانتزاع بعض الكرامات نتيجة تجربته وخبرته السابقة، وأخذ الشباب الكورد زمام المبادرة مستنداً الى البيت العتيق “باڤى گال- الأب العجوز” ووجوده من خلال مؤسسة البارزاني الخيرية ، فكانت النتيجة لصالح الكورد وبإمتياز شعبياً وداخلياً وخارجياً، بالرغم من خسارة الكورد بخمسة من شهداء النوروز. ما زاد القلق والخوف لدى تلك الأوساط الاستخباراتية التي تدير المناطق في شمال وشمال غربي سوريا. فتفجر الشارع الكوردي ومعه كل كوردستان وعلى ايقاع متزنٍ وكبير، واصبحت قضية الشهداء في جنديرس، قضية خارج أضلاع الصندوق والسيطرة .
هنا وبالتحديد ومن خلال عملٍ مدبّر ومتقن من تلك الأجهزة الاستخبارية، أرادت تلك الأطراف خرق المعادلة والتعامل بكفوفٍ بيضاء والقيام بزرع بعض رجالها وعملائها في الشارع الكوردي وبين المنتفضين لكسر الزخم الجماهيري والسياسي والشعبي، وابعاد القضية عن محوريتها وعن مركز التأثير والتفاعلات، وممارسة سياسة الالتواء واللف والدوران حول موجات الغضب الكوردي، الى جانب التهديد والترغيب أحياناً، والقفز فوق مطالب الشارع الكوردي والتي تمثّلت في الحماية الدولية وقدوم البيشمرگة وضرورة تدخل الرئيس مسعود البارزاني شخصياً للوقوف على الأمر وما يحصل للكورد في عفرين من مجازرٍ وارهابٍ وترهيب وقتل ورعب . وهذا بحد ذاته كان خطاً أحمراً لتلك الأوساط والأجهزة الاستخباراتية، لقد حاولت تلك الأجهزة الاستخباراتية المتداخلة والمتقاطعة مع بعضها البعض ومجتمعة، خلق حالة مرنة في التفاعل مع الشارع الكوردي والتقرّب من نبض هذا الشارع واظهار نوع من التعاطف معه، وذلك لتقديم وزرع عناصرها المدرّبة ضمن صفوف المتظاهرين والمعتصمين والمشاركة في الجنازات الاربعة والبكاء واللطم على الجسد أكثر من أهالي الشهداء أنفسهم، لتتمكن تلك الأجهزة من تحويل وتحوير المطالب الكوردية باتجاهات رمادية غير نظيفة وافراغها من محتواها السياسي. مثل شعار : نعم نريد القصاص والحماية … نعم نريد المساعدة من أبو محمد الجولاني … تعال يا محمد الجولاني وخلّصنا من هذا الوضع المزري … فأنت الوحيد الذي تستطيع لجم هذه العناصر المنفلتة … ولك سوابق في هذا المضمار والانتصار … نعم … أنت الحل يا محمد الجولاني .!
ونتيجة لترديد هذه الشعارات الملغومة، سككت تلك الافواه والحناجر الكوردية التي كانت تقاوم وتصدح ، والتي كانت تطالب بالآزادي والحرية وبالكورد وكوردستان والبيشمركة، في ميدان الالم … وميدان الجريمة، في ميدان دفن الشهداء. وبقيت هذه الأصوات في حالة ذعر وخوف وذهول، وباتت حائرة في أمرها، عمن زرع ودفع بهؤلاء الناس الى اطلاق هذه الشعارات الخطيرة والمرعبة؟
لقد أدركت تلك الجماهير الكوردية الثائرة على الفور بالأمر، وأدركت بأنه هناك مسلسل خطير وخطة قذرة تحاك ضدهم وضد الكورد بشكل عام، ما لم يبحثوا عن الاولويات ويكتسبوا شروط القوة والمناعة.
هنا في الأخير، أريد أن أوكد ثانية، بأن تلك العناصر الاستخباراتية التي دخلت وزرعت بين المعزيين والجماهير ورفعت شعارات النجدة، وقالت بضرورة مجيء “ابو محمد الجولاني” الى عفرين وجنديرس، استطاعت تشوية عظمة الحالة الثورية الكوردية في الشارع العفريني، ورسمت بعض ملامح سياستها القادمة وكشّرت عن أنيابها، وكشفت أيضاً عن بعض أوراقها للفترة القادمة في التعامل مع القضية الكوردية.
فالقادم خطير كوردياً وكوردستانياً