جلسة الظلام والنور

إبراهيم محمود

اعترض الظلام طريق النور مخاطباً إياه بصوت عال:
لماذا يطرب الناس في مرآك ويحزنون في مرآي ؟
كعادته رد النور:
هكذا اعتادوا في التمييز بيني وبينك.
ضغط الظلام بردة باردة منه على جسم النور الهش:
ولكن الحقيقة ليست كذلك.
ثم أضاف في الحال:
لتعلم، وليعلم من يأخذونك مثالاً حياً لهم في الصحة والعافية والحرية، أنهم يخطئون كثيراً.
لم يكن لدى النور حساب أو تقدير من هذا القبيل، فاستفسر منه:
وكيف؟
شده إليه الظلام قليلاً ودفع به لكي يتخذ وضعية الجلوس، ثم ليجلس مقابله، وأطلق العنان للسانه غير المرئي:
إن كل الذين يتحركون في ساحتك، ويُنظَر إليهم من هناك، بمختلف أدوارهم ومواقعهم، إنما أكون الحاضن الأول لهم، هم من دوني ليسوا شيئاً، وحتى أنت نفسك لا اعتبار لك من دوني.
استمر النور في سؤاله:
وكيف ؟
ليس هناك من يقدِم على عمل ما، إلا ويخطط، في ذهنه، وأنا أخيّم عليه . أليس المتربص بسواه، ينطلق من عالمي؟ أليس السياسي الذي يُعتد به، إنما يفكر في صمت، ويخطط في صمت، بحيث لا يراه أحد، وأكون حاجبه عن سواه، أليس المفكر هو من ينظر في أمرك، إنما يتنشط ضمن حدودي، أليس الفنان الذي يستلهم فكرته، إنما أكون ليله الذي يرى نجومه من خلالي ؟
أوليس الحلم نفسه نفسه منسوباً إلي لا إليك، ولولا ليلي، لما كان لك أي وزن، ألست علامة راحة كل من يريد استعادة عافيته، ونشاطه، ثم الظهور للآخرين منتقلاً من حمَاي إلى حماك ؟
تلجلج لسان النور قائلاً:
هذا يحتاج إلى إعادة ترتيب كلية للعلاقة بيني وبينك و…
قاطعه الظلام: إنها آفة الناس، ومن حاولوا التفريق بيني وبينك، فليس من حد فاصل بيننا. فما كنت يوماً رمزاً للحياة، ولا كنت أنا يوماً رمزاً للموت، كما تقرَّر قطعياً منذ طويل الزمان. فالحقيقة كامنة داخلي، وحين تنضج تنتقل إليك، ولا شيء يخرج إلى العلن الذي يسمّيك إلا ويكون أصله منسوباً إلي، وبالتالي، فإن الحديث عني على أنني سلبي، وفيّ من العبودية، مقابل ما فيك من الإيجابية والحرية ضلال في ضلال. تُرى كم جرى الإيقاع بالآخرين في حماك، وخاف الناس على أنفسهم داخلك، وهم لا يكفّون عن طلب حجابي لأسربلهم به؟ أنا وأنت واحد، في كل منا ما يمتد في الآخر، لا حرية باسمك مسنودة، ولا عبودية باسمي معقودة، إنما أهواء من يعتبرون أنفسهم أهل الفكر والسياسة، ليرسموا حدوداً لأفكارهم المصطنعة، وبينهم وبين الآخرين طبعاً، حتى الأكثر قرباً منهم، في النيل منهم، على أنهم ظلاميون، والذين يزعمون أنهم أهل الخير والهداية ورجحان العقل، إنما يكون النور رمزهم، وهو أكثر التعابير سفوراً وكذباً.
رد النور:
ما تقوله لا يخلو من صواب، إنما كيف يمكن لمن فرّقوا بيننا أن يرتدوا إلى حيث كانوا؟
لامسه الظلام بموجة منه، وهو يرد عليه:
المهم هو أن تتخلى عن اعتبارك نقيضي وبالعكس، إن شرور الناس هي التي أوقعت بك، قبل أن توقع بي، فكلانا ضحية، وهم في أخطائهم وفضائح أعمالهم، لكي يبرروا ما يرتكبونه من آثام وجرائم، ويضعوا للخير الذي يُنسَب إليك، والشر الذي يُنسَب إلي، يحمّلوننا كل ذلك .
لم يكن النور يتصور البتة أن الظلام هو شقيقه، وهو نظيره، وفيه مثل ما فيه، لديه مثل تلك الحكمة المتبصرة التي سمعها منه، ومدَّ بسلطانه، وهو يفاجَأ بمدى إيغال الناس في أخطائهم، منطلقين من نورهم المزيف داخلهم، أو ظلامهم المطارَد، وكلاهما بريء مما يقال فيهما. 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

جليل إبراهيم المندلاوي   في خبر عاجل، لا يختلف كثيرا عن حلقة جديدة من مسلسل تركي طويل وممل، ظهرت علينا نشرات الأخبار من طهران بنغمة هادئة ونبرة مطمئنة، تخبرنا بأن مفاوضات جديدة ستعقد بين إيران وواشنطن، هذه المرة في “أجواء بناءة وهادئة”… نعم، هادئة، وكأنها نُزهة دبلوماسية على ضفاف الخليج، يتبادل فيها الطرفان القهوة المرة والنظرات الحادة والابتسامات المشدودة. الاجتماع…

إبراهيم اليوسف بعد أن قرأت خبر الدعوة إلى حفل توقيع الكتاب الثاني للباحث محمد جزاع، فرحت كثيراً، لأن أبا بوشكين يواصل العمل في مشروعه الذي أعرفه، وهو في مجال التوثيق للحركة السياسية الكردية في سوريا. بعد ساعات من نشر الخبر، وردتني رسالة من نجله بوشكين قال لي فيها: “نسختك من الكتاب في الطريق إليك”. لا أخفي أني سررت…

مع الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر وطني كردي في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2025، في أعقاب التفاهمات الجارية بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأحزابه المتحالفة ضمن إطار منظومة “أحزاب الاتحاد الوطني الكردي”، والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، فإننا في فعاليات المجتمع المدني والحركات القومية الكردية – من منظمات وشخصيات مستقلة – نتابع هذه التطورات باهتمام بالغ، لما لهذا الحدث من أثر…

فرحان كلش   قد تبدو احتمالية إعادة الحياة إلى هذا الممر السياسي – العسكري ضرباً من الخيال، ولكن ماذا نقول عن الابقاء على النبض في هذا الممر من خلال ترك العُقَد حية فيه، كجزء من فلسفة التدمير الجزئي الذي تتبعه اسرائيل وكذلك أميركا في مجمل صراعاتهما، فهي تُسقط أنظمة مثلاً وتُبقى على فكرة اللاحل منتعشة، لتأمين عناصر النهب والتأسيس لعوامل…